تمهيد
مكنني تعليق الشيخ من فرصة لإنارة ما قد يكون سببا في عدم نفاذه إلى جوهر الأزمة التي حاولنا أن ندير الحوار حولها إنارة تنطلق مما يسلم الشيخ بعلمه الذي اعتبره بالتواضع الساخر طريقة في فهم الفلاسفة (قاصدا الفلاسفة بحق ومعرضا بالطريقة التي لم يفهمها) وبالخطة التي اتبعها هو نفسه. وذلك من وجهين:
الوجه الأول: فسأفترض حكَما بيننا الزاد الفلسفي الذي فهم الشيخ قصوده متخليا عن الطريقة التي نفى عنها الشيخ كونها فلسفية لأن فاهم قصود الفلاسفة لم يفهمها. سأفترض الشيخ قد درس فلسفة الحق التي هي غير ما استعمله في حواره مع ممثلي الإيديولوجيا المتفلسفة درسها ولم يجد في محاولتي القصود التي فهمها منها فحق له أن ينفي عن طريقتها الطابع الفلسفي. تلك هي القاعدة التي أنطلق منها في إنارة ما بنى عليه الشيخ تعليقه من سوء تفاهم حتى وإن لم يسلم لي الشيخ بالتمكن من الفلسفة التي يملك هو ناصية قصودها.
الوجه الثاني: سأتبع لإنارة سوء التفاهم نفس الخطة التي اتبعها الشيخ في التعليق أعني إنارة أهم المسائل الباقية بعد استثناء الاعتراف المتهكم والتكفير اللذين نمهد بعلاجهما السريع في إنارة عامة تجنبا للخوض في ما يمكن أن يعمق سوء التفاهم. سنكتفي بالنقاط الثلاث الأولى من النقاط الست التي علق عليها ننيرها بتخليصها مما يحاول أن يقنع به القارئ مصورا له أنه يرد على ما كتبت في حين أنه يجانبه. وحاشا الشيخ أن أتهمه بسوء النية فما حصل ليس هو إلا سوء تفاهم علته الطريقة التي بدت له غير فلسفية.
وكان يمكن لجملة واحدة قالها الشيخ أن تغنيني عن الإنارة عامها وخاصها لو لم يكن للقارئ علي حق التوضيح خاصة والشيخ لم يكتف بالتكفير بل ذهب إلى التهكم و المنابزة واصفا قولي باللغو بسبب عدم نفاذه إلى العلاقة الوطيدة بين النص الذي صدرت به المحاولة وطبيعة الأزمة التي أعالج في الحوارية.
فعرض الشيخ لمضمون محاولتي في تعليقه يدل على أصل سوء التفاهم ما هو دون اتهام الأمانة. قال الشيخ معلقا على افتتاحي المحاولة بنص ابن خلدون حول دور التربية عامة ودور السياسة التربوي خاصة في مآل الأمم إلى الانحطاط :"ولقد أعجبت بافتتاحيته هذه (نص ابن خلدون) التي تنحي باللائمة على سياسة القهر والعسف وما ينبثق عنهما من نتائج.. على الرغم من أنني لم أدرك علاقة ما بين هذا النص وحديثه التالي عن مآزق علم أصول الفقه"(اشكالية تجديد أصول الفقه دار الفكر بيروت دمشق 2006 ص.233).
وعدم إدراك العلاقة هو سر عدم الفهم الذي يمكن إرجاع تعليقات الشيخ كلها إليه. فلو سأل الشيخ السؤال الواجب عن علل سياسة القهر والعسف في التاريخ الإسلامي رغم الثورة القرآنية لفهم العلاقة. لا يمكنه أن ينفي أن نص ابن خلدون ينسب القهر والعسف نسبة صريحة إلى التربية وإلى السياسة أي إلى القيمين عليها وهم العلماء (التربية) والأمراء (السياسة). وبلغة فلسفة الحكم الإسلامية فهو ينسبهما إلى فرعي أولياء الأمر حسب تصنيف شيخ الإسلام ابن تيمية: العلماء والأمراء. وطبعا فعلم أصول الفقه لا علاقة له بهذا الأمر لو كان على ما يراه عليه الشيخ أعني مقصورا على مجرد علم المنهج الذي يمكن من استنباط الحكم من النص.
لكنه في الحقيقة ليس بهذا الحياد إلا في الظاهر. أما في الباطن فهو قد أصبح العلم الذي يؤسس لسلطة روحية (الفقهاء) تابعة بالجوهر للسلطة الزمانية (الأمراء) تماما كما نراه حاصلا اليوم في بلاد عرب الخليج بالشكل الديني (فقهاء الشرع) وفي بلاد العرب الأخرى بالشكل العلماني (فقهاء الوضع) دون أن يكون لهذا الوصف أدنى تعريض بأخلاق الفقهاء: فالمسألة لا تتعلق بأخلاقهم بل بما تقتضيه المؤسسة اقتضاء موضوعيا ليس لهم عليه سلطان حتى لو شذ البعض منهم فثار على المؤسسة. وبين أن كلا النوعين باتوا شهداء زور رغم أن أغلبهم لا يعون ذلك لبدوه لهم طبيعيا ما دام من مقتضيات المؤسسة التي حصرت فلسفة الحق في ما يفقد المؤمن كل الحقوق بمجرد أن حصرتها في الجزء الفني منها أعني عملية استنباط الحكم من النص. ذلك أن سوء فهم هذه الفلسفة عامة ودور المرجعية النصية خاصة جعلهم يحققون تقزيمين لا واعيين لفرض التشريع العيني. فهم أولا قد اعتبروا التشريع محصورا في ما يستمد من المرجعية النصية التي ظنوها محيطة باللامحدود. وهم ثانيا اعتبروا القياس بكل درجاته (بين حديه الأقصيين: نازلة على نازلة ومقصد على مقصد) كافيا لتحقيق هذه الإحاطة. وبذلك ينحصر التشريع كله في العملية الفنية التي يستنبطون بها الأحكام من النصوص. وتلك هي العملية اللاواعية التي أسست لإبعاد الأمة بتحول فرض العين إلى فرض كفاية. كذلك تستبد السلطة القضائية (والمختصون في الفقه أو القانون) بالتشريع فتصبح سلطة تشريعية تابعة للسلطة التنفيذية.
والمعلوم أن القضاة والفنيين في القانون توابع للسلطة التنفيذية بالذات إذا هم استتبعوا السلطة التشريعية. وباستبدادهم بالسلطة التشريعية يجعلونها تابعة لها مثلهم. أما لو كانت السلطة التشريعية بيد الأمة مباشرة أو بتوسط من تختارهم لها اختيارا حرا فإنها يمكن أن تتحرر فتحرر القضاة وفنيي القانون من السلطة التنفيذية فتتخلص الأمة من الآلية الجهنمية التي آلت بها إلى ما نرى عليه حالها. لكن الشيخ لم يدرك العلاقة. وأفهم جيدا أنه لا يدركها رغم ما يؤكده من فهمه للفلاسفة بحق. لكن لا يصح أن يعتبر هذا الكلام لغوا أو أن يدعي استثناءه مما يرقى إليه فهمه من الفلسفة. كان عليه أن يفسر لنا من منطلق فهمه لعلم أصول الفقه علل انحطاط الأمة الحقوقي واضطرارها إلى استيراد جل تشريعاتها في كل مجالات حياتها التي حصرناها في أصناف القيم.
وبذلك يتبين أن الحوار كان من البداية مستندا إلى سوء تفاهم. الشيخ يرد علي مفترضا أصول الفقه مجرد مسألة منهجية تتعلق باستنباط الأحكام من النصوص. وأنا اعتبر الأزمة صادرة بالذات عن هذا التصور الذي نكص بأصول الفقه من كونه علم شرعية التشريع في كل مجالات الحياة التي ينطبق عليها مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين على كل مؤمن دينيا وعلى كل مواطن مدنيا. حُصرت المسألة الحقوقية في النصوص وأصول فقهها المنهجي لاستنباط الأحكام منها فباتت أصول الفقه مسألة منهج فنية لا غير. ومن ثم فالمسألة الحقوقية حمست بنفي أصل كل الحقوق بل والواجبات لأنها قد آلت إلى موقف يجعل الأمة تابعة في كل شاردة وواردة للاعبين بالنص كما تشير إلى ذلك سورة آل عمران (السلطة الروحية) التابعين بالضرورة للمتلاعبين بالنص بنفس الإحالة القرآنية (السلطة الزمانية).
وبذلك فيمكن لخطة الإنارة أن تكون على النحو التالي بالتناظر مع خطة الشيخ المعلق مركزين بصورة خاصة على المسائل الثلاث الأولى. أما المسائل الثلاث الأخيرة فهي مما لا يستحق غير الإنارة العامة التي لا تنفذ إلى الجزئيات. فما ورد عليها من تعليق ليس يمكن أن يكون ناتجا عن سوء تفاهم فيستأهل ذلك. إنما هي تدور حول بعض قواعد العلم التي لا علاقة لها بالإشكال (الرابعة) أو حول قصد تكفير المحاور زعما بأن قوله بختم الوحي (وهذه حقيقة) يعني دعوته للتخلي عما فيه من أصول (وهذه دعوى من الشيخ لا حقيقة لها) لمجرد أنه دعا إلى تحرير فهم الأصول من وساطة الفقهاء واستبدادهم به (الخامسة) أو مواصلة حصر العلم في المنهج مع تمرين امتحان بأسئلة ساذجة حول البدائل من بعض قواعده (الأخيرة). لذلك فسنكتفي بإنارة المسائل الثلاث الأولى من مسائله الست إنارة تنفذ إلى دقائق الأمور:
1- الإنارة الأولى: عامة في أصل سوء التفاهم الجوهري
2- الإنارة الثانية: مال المقصود بثورة ابن تيمية وابن خلدون
3- الإنارة الثالثة: ما المقصود بإنكار المقاصد
4- الإنارة الرابعة: ما المقصود بسيطرة الاعتزال والخروج على المذاهب الأربعة.
الإنارة الأولى عامة
في أصل سوء التفاهم الجوهري
أسعدتني قراءة الشيخ البوطي لمحاولتي في الحوارية التي جرت بيننا كتابيا حول أزمة أصول الفقه. فقد مكنته قراءتها من أن يقدم جوابا كان بالحجم فضلا عنه بالمضمون أكثر من ضعفي (231 -297) محاولته الأصلية (155-185) في علاج المسألة الخطيرة موضوع المحاورة علما وأنها لم تكتب خصيصا لعلاجها: مسألة أزمة أصول الفقه التي نفى وجودها من الأصل في محاولته. شعرت بأنه بدأ يلامس في ردوده المسائل الجوهرية من قضية الأزمة التي نتكلم عليها رغم هروبه إلى موقف التكفير وأسلوب المنابزة. فحجاجه بقي مقتصرا على مجرد ترديد ما يترتب على حصره المسألة في منهج استنباط الحكم من النص. بقي هذا الحصر مهرب الشيخ في علاج القضايا التي اضطرته محاولتي لملامستها. فإليها كان مرجعه كل مرة بدأ أفق القضية ينفتح على أبعاد التشريع الأخرى أبعاده التي تعود إليها علل الأزمة رغم إنكاره وجودها. ولعل إنكار الأزمة نفسه أهم علامات الانحطاط الذي يعاني منه الفكر الديني عندنا.
لم يكن الشيخ يدري أنه بذلك يؤيد كل ما كان يسعى إلى دحضه من محاولتي. فتهربه إلى موقف التكفير وأسلوب المنابزة اعتراف أكثر من صريح بأنه أساء فهم ما ظن نفسه قد فهمه من الوجه السلبي منها (قسمها الأول) ولم يفهم القسم الإيجابي منها حق الفهم (قسمها الثاني). وجاء اعترافه بنبرة تتهم ما لم يُفهم صراحة بعدم القابلية للفهم بالذات وتتبرأ ضمنا من عدم القدرة على الفهم. ويكفي دليلا اكتشافه العجيب أني لم أنتبه إلى المعنيين الآخرين من سورة العصر لغفلته عن القانون العام الرابط بين المعاني الأربعة القانون الذي بينته في غير موضع شرحا لسورة العصر. فالمعنيان اللذان اعتبرني قد أهملتهما (الإيمان والعمل الصالح) هما الوجه الفردي من المعنيين اللذين ظنني اقتصرت عليهما (التواصي بالحق والتواصي بالصبر). ذلك أن عمل الفرد الصالح في خاصته يناظره تواصيه بالصبر من حيث هو عضو في جماعة كما تبين المشاركة وإيمان الفرد يناظره تواصيه بالحق بنفس الحيثية وبنفس القرينة. فما هو فردي حصيلة لما هو جماعي سياسيا. والعلاقة بالعكس تربويا. وهو متردد بينهما تشريعيا لجمع الشريعة بين التربية والسياسة.
والتناظرُ تناظرُ تطابق رغم كون الترائي بين المتناظرين مختلفا باختلاف السطح العاكس. فكل منهما يمكن أن يُعد المصدر والمرود في آن. إيمان الأفراد ينتج تواصي الجماعات بالحق وينتج عنه. وعمل الأفراد الصالح ينتج تواصي الجماعات بالصبر وينتج عنه. فيتطابقان بمقتضى التعاكس الكلي بين الشرط والمشروط إذا تلازما: فكل مؤمن متواص بالحق ضرورة وكل متواص بالحق مؤمن ضرورة وكل عامل عملا صالحا متواص بالصبر ضرورة وكل متواص بالصبر عامل عملا صالحا ضرورة. بل إن الفرد المؤمن لا يثبت إيمانَه إلا تواصيُه الدائم مع ذاته بما يؤمن به ولا يدوم تواصيُه بالحق إلا لإيمانه. ولا يتواصى بالحق إلا المؤمنون. ولا يؤمن إلا المتواصون بالحق. وقس عليه علاقة العمل الصالح بالتواصي بالصبر. فيكون الفرد والجماعة وجهي عملة واحدة كما هي حقيقة فلسفة الإسلام في العلاقة بين الشخصي والجمعي الخلقيين والروحيين: بعدها الأول في النفوس وبعدها الثاني بين النفوس والتطابق بين ما في النفوس وما بينها هو شفافية الجماعة المؤمنة التي ليس في نفوسها نفاق ولا بين نفوسها شقاق.
جمع الشيخ بين موقف التكفير وأسلوب يصعب وصفه من غير مجانبة آداب الحوار فاقتصرنا على وصفه بالمنابزة. قال مستدركا على نفسه ما كان يتمنى أن أكون قد قصدت بختم الوحي:" ولكن ها هو ذا يعلن اغتباطه (أي محاورة الذي هو أنا) بختم الوحي إذ كان ذلك فرصة لعودة السلطة التشريعية إلى الأمة وكأن الله عز وجل كان قد اغتصبها من الأمة مدة نزول الوحي ثم إنها عادت بعد ذلك إلى ذويها!! ثم لا يكتفي بجعل هذا الذي يقوله رأيا يرتئيه بل هو يصر على لصق هذا الكفران بشريعة الله بكل من الإمامين الجليلين المدافعين عن شريعة الله ابن تيمية وابن خلدون ويصر على أن يستنطقهما بهذا اللغو الذي لم ينطق كل منهما إلا بنقيضه" (ص.275-276). وصف رأيي بالكفران وكلامي باللغوان (إضافة "ان" إلى الكفر منه وإضافتها إلى اللغو مني !). بعد ما قال بأسلوب تهكمي برقعه التواضع الساخر:" وإذا كانت هذه الطريقة في البحث هي الطريقة الفلسفية الفضلى فإن بوسعي أن اكتشف أن بضاعتي في فهم الفلسفة ضعيفة مزجاة ولعل من ظننتهم فلاسفة قرأت لهم وفهمت قصودهم ليسوا من أساطينها ولا من ذوي المكنة فيها ( والضمير مثل محاوري الذي لم أفهم طريقته !) " (ص.231).
وطبعا فالشيخ لم يعلل حاجتي إلى الكلام في دلالة الوظيفة المرجعية للنصين في التشريع بعد الختم لو كنت كما يدعي مغتبطا بختم الوحي واسترداد المغتصب لأنه يبحث عن حجة للتكفير فوجدها في تبئير للتفسير غير جدير بشيخ يدعي أنه بأساطين الفلاسفة خبير. كما أن الشيخ لم يتفضل فيعلمنا أساطين الفلاسفة الذين فهم قصودهم من هم ولا القصود التي فهمها ما هي حتى ندرك أبعاد القياس الساخر اللهم إلا إذا عنى الزاد الذي جادل به إيديولوجيا بعض متفلسفي العرب المعاصرين جدالا يلازمه سيف ديموقليس سيف من تعييه الحجة فيلجأ إلى التكفير! أسعدني تعليق الشيخ إذن وذلك لعلتين كلتاهما مضاعفة:
العلة الأولى أنه حررني مما لا تسمح به الأخلاق في الرد على شيخ جليل. فليس عندي ما أقوله في موقف التكفير الذي اتسم به التعقيب على كلامي في ما يترتب على ختم الوحي. لكني لا يمكن أن أقبل من شيخ جليل أن ينزلق إلى أسلوب لست أدري كيف يمكن وصفه فيزعم أن قولي لغو لا يقبل النسبة إلى الإمامين الجليلين (ابن تيمية وابن خلدون). ورغم نأيي بنفسي عن اختيار أحد سبيلين للرد على التعليق كلاهما مما لا يليق بالحوار مع شيخ ذليق ينبغي لي أن أكون به رفيق فلا بد من التنوير والتدقيق.
لذلك فضلت أن يكون استدراكي إنارة لما بدا لي قابلا لأن يعلل سوء الفهم في الحوار بين الأحرار. وإذن فكلامي هذا لا يأتي ردا على تعليق الشيخ ولا تعليقا على محاولته إذ قد سبق ففعلت عملا بنظام المحاورة نفسها. فلا يمكن أن أتهمه بعدم القدرة على فهم مدلول قولي بعودة سلطة التشريع إلى الأمة بعد ختم الوحي الذي يبقى مرجع سلطتها لأنه هو الذي نسب إلى إجماعها العصمة عن الضلالة. ولا أستطيع أن أصفه بسوء النية ولا بالعجز عن فهم ما ليس بفلسفي في رأيه فضلا عن الفلسفي في اعتباره. فهذا ليس من طريقة البحث التي جعلته يكتشف ساخرا ضعف بضاعته الفلسفية. إذ من البين بنفسه أني لم أقصد بختم الوحي إلغاء طابعة المرجعي في التشريع لكل زمان ومكان كما ظن الشيخ أو أن الله كان مغتصبا سلطة الأمة التشريعية فعادت إليها بعد الختم لاغتبط بالاسترداد.
إنما القصد هو رفض أن يتبوأ الفقهاء مرتبة السلطة التشريعية فيصبحون وسطاء بين الأصول وبين فهم الأمة وإرادتها لأن مرجعية شرع الله غنية عن الوسطاء كما يقتضي ذلك نفي السلطة الروحية في القرآن الكريم. ذلك أن وجود الوسطاء بمجرده يؤدي إلى التحريف الذي تشير إليه آل عمران بسبب التحالف المضطر بين السلطة الروحية (العلماء عندنا إذ يستبدون بسلطة التشريع) والسلطة الزمانية (الأمراء عندنا إذ يستبدون بسلطة التنفيذ) من أجل المصالح المشتركة بينهما. والحل الذي اختاره القرآن هو عودة السلطة التشريعية بهذا المعنى للأمة بعد ختم الوحي لأنها هي الوحيدة المعصوم إجماعها عن الضلالة في التشريع سواء كان فهما لنص التشريع المنزل أو تشريعا في ما لا نص فيه. ذلك أن القبول بالنص المنزل شرعا للأمة هو بذاته تشريع من الأمة: فهي بهذا القبول أضفت على النص المرجع طابع التشريع الفعلي فنقتله من طابع التشريع بالقوة.
فهل أتهم الشيخ بسوء النية لما يستنتج من كلامي هذا أني أنفي بقاء التشريع السماوي ساريا؟ حاشا أن أكون فعلت. وكيف يستنتج ذلك ومحاولتي كلها لبيان سلطان القرآن والسنة المرجعي كيف يكون عندما يعود سلطان التشريع للأمة ؟ لذلك وجبت الإنارة. فنفي بقاء التشريع الإلهي ساريا بالفقهاء مؤسسة حاملة لئلا يصبحوا سلطة تشريعية بديلا من سلطة الأمة لا يعني نفي سريان الوحي مرجعا أبديا لسلطة الأمة التشريعية من حيث قيم التشريع وأخلاقه وصورته لا من حيث مضمونه القانوني سواء كان ذلك بالتزام الأمة المباشر أو بمن تختاره لهذه المهمة. ذلك أن الأهلية العلمية بمجردها ليست كافية لتأسيس شرعية التشريع الصادر عن صاحبها: المرجعية الدينية من حيث هي مصدر للتشريع لا تقتضي سلطة روحية تحصر التشريع في استمداد أحكامه من النصوص إلا بشرط تحول الفقهاء إلى سلطة كنسية غير صريحة وبشرط تصور النص محددا لمضمون التشريع اللامتناهي (وهو مستحيل عقلا ونقلا) بديلا من كونه محددا لصورة التشريع وأخلاقه.
أفيكون الشيخ البوطي لا يتصور سريان سلطة الوحي باقيا بعد ختمه إلا بشرط عزل الأمة عن فرض المشاركة العيني في التشريع لتنصيب سلطة الفقهاء بين الأمة والوحي من حيث هو مرجعية تشريعية بمعنى المحدد الجوهري لصورة التشريع وأخلاقه لا بمعنى تجميد مضمونه أو التحايل على النص ليلحق غصبا بالشأن الإنساني السيال؟ كيف يكون القول بضرورة تخليص التشريع الإسلامي من سلطة الفقهاء قولا بالتخلي عن مرجعية الوحي وليس إحياء لها ليكون حاملها الحقيقي التزام الأمة بفروضها العينية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعني جوهر التشريع ؟ أليس سلطان الفقهاء البديل من سلطة الأمة التشريعية هو عينه ما يعنيه مفهوم السلطة الروحية أو الكنيسة التي نفاها الإسلام كما هو بين من كل مضمون آل عمران لأنها تؤول بالطبع إلى الانحراف المؤدي إلى التحريف ؟ ثم كيف يفهمنا الشيخ أن تنصيب هذه السلطة الوسيطة يمكن أن يحصل من دون أمرين ممتعين عقلا ومحرمين نقلا:
الأمر الأول: أن تنقلب السلطة القضائية والفقهية الفنية إلى سلطة تشريعية فيصبح الفقيه بصفتيه قاضيا وفنيا في الفقه وارثا من الرسول الكريم ما لم يدعه الرسول لنفسه. فليس الرسول هو الشارع بل هو مبلغ التشريع. والفقه القياسي لا يقتصر على مجرد تطبيق التشريعات التي بلغها الرسول عن الله (القضاء الشرعي تنزيلا للأحكام في النزاعات وفي الإفتاء) بل هو تشريع يضع التشريعات إما بالقياس على أعيان الأحكام في البداية أو بالقياس على مقاصدها في الغاية لاستدامة سلطان الفقهاء زاعما ضمنا حسم معضلة التقابل بين تناهي النص ولاتناهي النوازل بالقياس المقاصدي (التشريع الشرعي وضعا للأحكام في ما لا حكم فيه) ؟
الأمر الثاني: أن تتوقف حياة البشر فترد إلى ما يقبل الإرجاع إلى مدونة النصوص مهما توسعنا في القياس حتى عند الذهاب إلى الغاية أعني القياس المقاصدي الذي يتحول إلى قانون وضعي متنكر ليس فيه من الشرع إلى تبرير بعدي لما اقتضته الضرورة الجارية خارج إطار الشرع ثم أضفي عليه الطابع الشرعي بعديا. ومن ثم فهو اغتصاب لسلطة الأمة التشريعية. وهو اغتصاب ليس للفقهاء فيه إلا واجهة الركح لأن السلطة التشريعية تؤول في الحقيقة إلى الأمراء الذين يلامسون الشأن العام دائم السيلان ولامتناهي الحاجة إلى التشريع. فلا يكون التشريع بيد الفقهاء إلا رمزا لتبرير ما يطلبه الأمراء في سعيهم للإمساك بهذا السيلان. ولما كان الأمراء منذ قرنين لعبة بيد سادتهم في الغرب وكان العلماء لعبة بيد الأمراء بات التشريع كله مستوردا وليس فيه من الشرع إلا التعليب من جنس ما فعل الفقهاء بمجلة نابليون القانونية والقوانين الفرنسية التي "فقهها" علماء مصر وتونس: وتلك هي خاصية التشريع التابع عندنا منذ الشروع في النهضة الخاصية التي دفعتني للمحاولة.
لم ينتبه الشيخ حفظه الله إلى أن أزمة الأمة بوجهيها الروحي والتاريخي أصلها اغتصاب سلطة التشريع من الأمة بمجرد أن أصبح التشريع مقصورا على استنباط الأحكام من النصوص قصرا يترتب عليه ضرورةً جعلُ التشريع مسألة قياس يبدأ بالقياس العيني وينتهي بالقياس المقاصدي. فيقتضي ذلك انقلاب سلطة الفقهاء القضائية والفنية إلى سلطة تشريعية بديلا من الأمة ومآل التشريع إلى من لا حول لهم ولا قوة أمام الاستبداد السياسي. فاستبداد العلماء بالتشريع رديف ملازم لاستبداد الأمراء بالتنفيذ. ولما كان العلماء لا حول لهم ولا قوة أمام الأمراء باتت السلطة التشريعية التي حصرت فيهم تابعة للسلطة التنفيذية التي حصرت في الأمراء. فأصبحت الأمة فاقدة لمعاني الإنسانية كما وصفها ابن خلدون في النص الذي صدرنا به البحث فقدانا يزداد يوما بعد يوم رغم نكران الشيخ وجود الأزمة من أصلها لعدم إدراكه صلتها بمسألة أصول الفقه من منظور فلسفة الحق.
ولعل التذكير بمطلوب محاولتنا لإخراج الأمة من أزمتها الحقوقية يكون أشد وضوحا لو اعتمدنا المقارنة بين الشرعية ونمط نقلها بين رتب الأحكام في القانون الوضعي وما يناظرها في القانون الشرعي. ففي القانون الوضعي يكون نقل الشرعية بالمنهج ذا درجات ثلاث ظاهرية: 1- من الدستور إلى القانون 2- ومن القانون إلى القضاء في فعلي النقل التشريعي والقضائي وإلى التنفيذ في الممارسة الإدارية للشأن العام 3- ثم النقل النظري في تفسير النقول الفعلية سابقة الذكر سواء ما حصل منها فعلا أو ما تفترضه النظرية. فتكون وظيفة المنهج في هذه الحالة الحرص على أن يتم النقل بصورة منهجية وموضوعية ويكفي فيه شرطان كلاهما منطقي أعني عدم مناقضة الأدنى للأعلى سلبا وتلو الأدنى عن الأعلى إيجابا. لكن ذلك لا يكفي إذ لا بد فيه من سلطة لها شرعية النقل.
ففي الدرجة الأولى تكون الشرعية المنقولة شرعية النص الأعلى وهو الدستور والسلطة الشرعية الناقلة هي الجماعة كلها إذا كان التشريع المباشر ممكنا أو السلطة التشريعية التي انتخبتها الأمة: شرعية انتخابية. وفي الدرجة الثانية تكون السلطة الشرعية الناقلة في القضاء السلطة القضائية التي عينتها الجماعة وفي الإدارة السلطة التنفيذية أي من وكلتهم الأمة بالتنفيذ بمقتضى أحكام الدستور والقوانين التي وضعتها السلطة التشريعية. وفي الحالة الثالثة تكون السلطة الشرعية الناقلة السلطة العلمية التي تعينت بمقتضى النظام التعليمي والأكاديمي. وهنا يمكن الاكتفاء بالمعيار العلمي والمنهجي لأن النقل يتم في الفرضيات النظرية وليس في التشريع أو في القضاء أو في التنفيذ حيث لا يكفي المعيار المنطقي بل لا بد من شرعية السلطة الناقلة شرعيتها المستمدة من الأمة وليس من القواعد العلمية والأكاديمية وحدها.
ذلك أن السلطة الشرعية الأصل المتقدمة على كل هذه السلط جميعا في القانون الوضعي هي السلطة الشرعية التي وضعت الدستور ممثلة بالجماعة التي انتخبت المجلس التأسيسي الذي وضع الدستور (ويناظرها قبول الأمة للمرجعية النصية في التشريع الديني لأن هذا القبول من جنس الجميعة التأسيسية والمرجعية المقبولة من جنس نص الدستور الذي هو مرجع كل القوانين والأحكام والتنفيذات). وشرعية نقل التشريع منه إلى القانون هي السلطة التشريعية التقليدية التي تضع نصوص القوانين (ولا يخلو مجتمع من ازدواج المرجعية الوضعية والدينية بتقديم وتأخير حسب الثقافات وقد يكون الفرق كميا أو في نوع الوجود الصريح عند البعض ونوعه الضمني عند البعض الآخر: ذلك أن القانون الوضعي لا يمكن أن يخلو من الاستناد إلى ضرب من المقدس مهما قل مقداره الصريح). أما شرعية النقل القضائية وشرعية النقل التنفيذية فشرع الأولى المنقول لا يتعدى القضاء في ما يمكن أن يسمى بالسوابق الحكمية أو بفقه القضاء في علاقة الرتب القضائية باتباع أدناها لأعلاها وشرع الثانية المنقول لا يتعدى التنفيذ في ما يمكن أن يسمى بالتقاليد التنفيذية لأحكام القانون الساري. وأما الشرعية النظرية فهي مجرد دليل فني للشرعيات السابقة ثلاثتها ومن ثم فهي لا تصبح بالفعل إلا إذا قبلتها إحدى الشرعيات الناقلة السابقة.
لكن مسألة استنباط نص حكم أدنى من نص حكم أعلى لا يعنيني وجهها المنطقي واللساني في المحاولة رغم أهميته المنهجية. فمنبع الأزمة ليس من هذا الوجه بل بالأحرى من حصر المشكل فيه. وها نحن قد بينا أن هذا الوجه ليس أمرا مقصورا على الفقه بل هو يعم القانون شرعيا كان أم وضعيا. والمعلوم أن الاستبداد بالسلطة التشريعية في القانون الوضعي يسير تبينه لأن غياب المصدر الديموقراطي للسلطة التشريعية التأسيسية والتقنينية يكفي عليه دليلا. أما في القانون الشرعي فالأمر عصي على الفهم. ذلك أن استحواذ الفقهاء على السلطة التشريعية لا يبدو استبدادا للخلط بين البعد الفني من التشريع (العلم بالنص) وأصل الشرعية فيه (طبيعة المشرع). ففي غياب مترجم التشريع المباشر من السماء الجامع بين الوجهين الفني والأصلي (الرسول) لا بد من تحديد من يعود إليه البعد الأصلي (التعبير عن الإرادة التشريعية) الذي ينفصل ضرورة عن البعد الفني من التشريع (فهم النص وصوغ التشريع). ولما كان الإسلام ينفي أن يكون بين النص والمؤمن وسيط وجب أن تعود السلطة إلى الأمة فهما للنص وعملا به حتى وإن كانت الاستعانة بالكفاءة الفنية للعلماء أمرا ضروريا.
وفي الحقيقة فإن التشريع الفعلي ليس هو صوغ القوانين ولا الحكم بها ولا تنفيذها إلا بدرجة ثانية وفي حالة تصورنا الناس آلات تنفذ بفكرها وسلوكها نصوصا متقدمة على شلال حياتها الصادقة. إنما التشريع الفعلي هو التطابق بين الحياة الصادقة وفكر الناس وسلوكهم الفرديين والجماعيين في مجالات التقويم الخمسة (الذوق والرزق والنظر والعمل والوجود) ومن ثم أخلاقهم وأعرافهم التي يستمد منها كل تقنين وتشريع إذا كان فعليا لئلا تصبح الأمة تقول ما لا تفعل وتفعل ما لا تقول كما هي حال المسلمين الذين باتت حياتهم كما وصفها ابن خلدون عند كلامه على فقدان معاني الإنسانية كلامه الذي لم يفهم شيخنا علاقته بأزمة أصول الفقه.
لا شك أن منهج استنباط نص الحكم المطلوب من نص الحكم المرجع أمر جوهري لكل مرحلة من مراحل القانون عامة بمستوياته الثلاثة في علاقته بما دُونَ منه في مراحله المتقدمة. لكنه ليس مفيدا في كلامنا على أزمة التشريع الحقوقي أزمته التي تمر بها الأمة. فالأمة ليست في أزمة بسبب نقائص المنهج في علم أصول الفقه بل هي فيها بسبب طغيان المنهج حتى صار علم أصول الفقه مقصورا عليه وحتى غيب أصل الشرعية (إرادة الأمة سواء في التشريع الوضعي أو في قبول التشريع المنزل علما به وعملا) الذي هو غير المرجعية في أصول الفقه (المرجعية هي النصان من حيث هما محددان لأخلاق التشريع وصورته لا من حيث يستمد منهما مضمونه إذ هما متناهيان ومضمون التشريع لا متناه بالطبع). أصل الشرعية هو إجماع الأمة إجماعها الذي يريد للمرجعية الشرعية (القرآن والسنة) أن تكون مصدر الشرعية عنده حصرا فيها أو أحد مصادر الشرعية عنده. وقد يكون تحقيق هذه الإرادة مباشرا أو بمن تعينه الأمة وكيلا عليها في التشريع بآلية تعيين ذات أشكال تاريخية تتطور بتطور إمكانات التعبير التمثيلي (أشار الغزالي إلى المعضلة في فضائح الباطنية عندما قابل بين الوصية والاختيار في الإمامة). لكن الفقهاء نصبوا أنفسهم وسطاء بين المؤمنين والمصدرين قرآنا وسنة لمجرد كونهم علماء بالنص وفنيات استنباط الأحكام منه حفاظا على سلطان وهمي مستمد من نسبة الأحكام المستنبطة إلى النص.
فالمشرع وضعيا كان أو منزلا يكون خلال صوغ التشريع محتاجا إلى الملاءمة بين نص القانون الذي ينوي وضعه والقوانين السابقة وخاصة ما كان منها من درجة أسمى سواء كان مرجعية دينية (كالقرآن والسنة مثلا) أو مرجعية وضعية (كالدستور مثلا). ويمكن لواضع النظريات القانونية أن يكتفي خلال التنظير بمناسقة وضعه مع الأوضاع السابقة لئلا يكون تنظيره من فراغ لأن عمله يبقى في مستوى الفرض العلمي. والقاضي يكون عند وصف النازلة وتنزيل الحكم بحاجة إلى فهم النصوص القانونية لكن ذلك لا يكفي بل هو عنده حق التنزيل بمقتضى التكليف الشرعي بهذه الخطة. والمنفذ من جنس القاضي في الملاءمة بين نص القانون والنازلة التي يعالجها فعليا لا قضائيا وله شرعية من جنس شرعية القاضي بدليل قابلية قرارته للاستئناف والعرض على القضاء فيكون وكأنه درجه قضائية. فيكون منهج فهم النص واستنباط مدلوله القانوني مشتركا لأصحاب هذه المستويات رغم اختلاف الغاية والحاجة إلى شرعيات ناقلة مختلفة. لكن ذلك كله يشترك في المسألة الفنية التي لا تتعلق بالشرعية ذاتها بل بنقلها من نص إلى نص نقلا منطقيا ولا يكون هذا النقل شرعيا إلا إذا كان الناقل حائزا على شرعية النقل بمقتضى النص المرجع شرعيا كان أم وضعيا. وشرعية النقل تشريعية في وضع القانون وعلمية في التنظير القانوني وقضائية في القضاء وإدارية في التنفيذ.
لكن الفقهاء اقتصر نقل الشرعية في الفقه عندهم على النقل بمجرد المنهج ومن ثم على المسألة الفنية المنطقية فغيبوا شرعية السلطة الناقلة بالفعل ومن ثم فهم قد حصروا المسألة كلها في السلطة العلمية المجردة التي ليس لها موضوع تاريخي. نقل الشرعية الفعلي من نص مرجع إلى نص مستند إليه لا يتم من دون سلطة لها شرعية النقل غير شرعيته العلمية المنطقية. ولما كان النقل ممتنعا بالعلم وحده إلا في مستوى النظرية العلمية التي تبقى من باب الفرض العلمي بات المؤثر الحقيقي والخفي في عملية النقل التي استبد بها الفقهاء هو إرادة الأمراء المغتصبين للسلطة التنفيذية. لذلك فقد غابت من تاريخنا الحقوقي السلطة الشرعية الفعلية لنقل الشرعية من النص المرجعي (الذي هو في هذه الحالة النصان المرجعان أي القرآن والسنة حصرا للسلطة التأسيسية في كلام الله وسنة نبيه) إلى النص القانوني (الذي هو كل التشريعات المستمدة من المرجعين من دون سلطة تشريعية عائدة إلى الأمة بل منحصرة في الفقهاء) ومن النص القانوني إلى الحكم القضائي (الذي هو كل أحكام القضاة في النوازل الفعلية) ومنه إلى الفعل التنفيذي وعوضتها جميعا الإرادة الخفية للمستبد المطلق أعني الأمراء المحركين للعلماء.
يبدو الفقهاء وكأنهم سلطة تشريعية يأتمرون بأوامر السماء في حين أنهم سلطة تبريرية خاضعة للسلطة التنفيذية التي أخلدت إلى الأرض فحشرت الأمة كلها في وحل الموت التاريخي الذي نراه سيدا في حياتنا. كيف لي أن أفهم الشيخ ذلك وهو لا يرى العلاقة بينه وبين نص ابن خلدون في التربية والسياسة التعسفيتين! غيبوا مسألة أصل الشرعية ذاته ولم ينتبهوا إلى أنه متقدم على هذه المستويات وشارط لها: إنه مرتبط بطبيعة من يحق له أن يشرع وبالكيفية التي تنتظم بها مؤسسات التشريع ليبقى شرعيا. وهذا ما لا يمكن أن يتم في حالة تغييب الأمة وخاصة الأمة التي تنفي رسالتها الوسيط بين المشرع المطلق (الله) والمشرع له المطلق (الإنسان خليفة الله) أعني الرسالة التي تنفي الحاجة إلى سلطة روحية تتوسط بين الإنسان وربه ومن ثم تكلف الناس من حيث هم خلفاء الله بأن يكونوا مشرعين بمعنى فهم شرع الله والعمل به من خلال تدبر مشيئته الكونية ومشيئته الأمرية. وبهذا المعنى فلا يمكن لسلطة التشريع في الإسلام أن تكون إلا إجماع الأمة على فهم شرع الله الكوني والأمري منصوصه ومسكوته بالاستناد إلى وضع مقدس على علم بالشرعين الكوني (قوانين العالم الطبيعي) والأمري (قوانين العالم الخلقي) وضع يخضع للأخلاق التي شرعها الله أو للفطرة في كل مجالات التقويم أو مجالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جعلته فرض عين: وتلك هي حقيقة الثورة التيمية والخلدونية ثورتهما التي نقلت التشريع من كونه مجرد تأويل نصوص إلى كونه تحليل ظاهرات بهدي من النصوص التي توجه إلى هذا التحليل ليكون مصدر كل الأعمال على علم.
الإنارة الثانية
ما المقصود بثورة ابن تيمية وابن خلدون
ليس القصد من الكلام على ثورة ابن تيمية وابن خلدون في مجال أصول الفقه الزعم بأنهما ألفا كتبا في علمها على النحو الذي يتصوره الشيخ فيجد عندهما ما يطلبه ليثبت دعواي أو لا يجد منه شيئا ليدحضها. ولا القصد كذلك بأنهما اتهما الجليل من فقهائنا بالاستبداد أو بتأسيس السلطة الروحية الوسيطة التي نفاها الإسلام اتهماهم بفعل ذلك بالقصد الأول. كما أني لم أفعل لأن قصود الفقهاء الواعية ليست من هموم بحثي: فما حصل هو أن الفقهاء انتهوا إلى ذلك بدون قصد منهم بمقتضى مآل المؤسسة التشريعية وبسبب غياب الموقف النقدي من المرحلة الأولى في نشأة العلم المرحلة التي لا جدال في كونها قد كانت ضرورية. لذلك اعتبرنا ابن تيمية وابن خلدون اللذين نقدا انحراف المؤسسة التربوية (سلطة العلماء في ثقافتنا) والسياسية (سلطة الأمراء في ثقافتنا) واستبداد المستحوذين عليهما بالسلطتين التشريعية والتنفيذية ثورة على مآل هذا العلم النظري المحدد لجوهر العلم العملي ونشأة جديدة لفلسفة الحق في حضارتنا.
الشيخ يصور للقارئ أني اتهم قصود الفقهاء ونواياهم وأنسب التهمة إلى الشيخين احتماء بهما ويبني على تصوره هذا رده المجانب تماما لقصدي من المحاولة. فالقصد فيها مخالف لما فهم الشيخ تمام المخالفة. دعواي هي أن ابن تيمية وابن خلدون قد أسسا للشروط التي تعيد إلى الأمة سلطة التشريع (ليس من الله المشرع المطلق بل ممن نصبوا أنفسهم سلطة ناطقة باسمه وفاعلة بأمره) تأسيسا سلبيا وتأسيسا إيجابيا دون التعرض لقصود أيمة المذاهب ولا حتى لإدراك طبيعة الثورة التي تترتب على نقدهما للوضع الحقوقي في حضارتنا. فلو ألف ابن تيمية وابن خلدون في أصول الفقه على النحو الذي يباهي الشيخ بإثبات عدمه في أعمالهما لدحض فرضيتي لكانا مستبدين مثل من ينقدون ولكان كلامي عن ثورتهما عديم المعنى. فحينها يكونان قد كانا مواصلين علم أصول الفقه بالشكل الذي أدى إلى فقدان الأمة سلطتها التشريعية بعد أن أصبح الفقهاء سلطة روحية في خدمة سلطة زمانية أعادت المسلمين إلى الدولة الفرعونية التي تغيب فيها الأمة ويحكمها التحالف بين هامان (السلطة الروحية) وفرعون (السلطة الزمانية) كما هي الحال في كل بلاد الإسلام منذ نهاية العهد الراشدي إلى الآن.
لا شك أنه توجد بعض النماذج تقدم عادة في شكل نكت تقص علينا بطولات بعض الفقهاء الذين تصدوا للأمراء. فيكون الكلام عن أخلاق هؤلاء الأبطال وليس عن المؤسسات التي نعتبر ثورة الرجلين قد قصدتها من أجل تحرير سلطة التشريع من الاستبدادين الزماني والروحاني لتعيدها إلى الأمة. فليس فعل النماذج المضروبة في تاريخنا الفقهي فعلا لخدمة شرع الله إلا بالعرض حتى لو اقتصرنا على النوايا. إنما هو بالذات مجرد دفاع من سلطة الفقهاء عن سلطتهم ضد تجاوز الأمراء لبنود العقد الخفي بينهم في تقاسم استتباع العامة. وعلى منواله يمكن أن تجد أمراء مدافعين عن شرع الله في حملات الدعاية لدعوتهم خلال منافستهم لغيرهم من الأمراء بنفس القصد. فلا تدل هذه النكت على ما يريد الشيخ أن يثبته بمثال العز بن عبد السلام في الفقه أو على ما يريد البعض أن يثبته بمثال عمرو بن عبد العزيز في السياسة: المؤسستان مستبدتان بشرع الله وتنفيذه رغم هذه النكت التي تتكلم في أخلاق بعض الأبطال من الفقهاء والأمراء وتنسى أفعال المؤسسات التي هي بالجوهر استبدادية.
والكلام في أفعال المؤسسات لم يبدأ إلا مع ابن تيمية وابن خلدون. فابن تيمية هو الذي طلب الشروط التي تعيد للأمة السلطة التشريعية فرض عين من مدخلين:
أولهما هو الجدل مع المدارس الفقهية والكلامية
والثاني هو الجدل مع المدارس الصوفية والفلسفية.
فمع النوعين الأولين من النخب يمكن الكلام على إلغاء المذاهب الفقهية بالدعوة إلى عدم تقليد رؤساء المذاهب فقهية كانت أوكلامية والأستعاضة عن ذلك بالعودة إلى الأصلين المرجعيين (القرآن والسنة) والأصل الذي ينقل وظيفتهما المرجعية من القوة إلى الفعل (الإجماع). وذلك هو المدلول العميق لاسم "أهل السنة الجماعة" لأن المدعو إلى عدم التقليد وإلى العودة ليس هو رؤساء مذاهب جديدة و إلا لكان كلامه عديم المعنى بل المدعو هو كل مسلم حتى يكون فهم أحكام الله والاختيار التشريعي واجب الجميع وحقه كما يطلب ذلك منا القرآن الكريم.
ومع النوعين الثانيين من النخب يمكن الكلام على ثورة ابن تيمية على فلسفة الجبر التي تخلط بين الإرادة الكونية والإرادة الأمرية فتنفي حرية الاختيار وفسحة العمل الخلقي والديني. فيكون جدله مع المتصوفة والفلاسفة تحريرا للإرادة الإنسانية لتصبح قادرة على العمل الخلقي والالتزام الديني. والإرادة التي يحررها ليست إرادة إمام فقه أو رئيس مدرسة كلامية بل هي إرادة كل مسلم ومن ثم فهو يؤسس للأصل الجوهري للخيار التشريعي فهما للموجود من الشرائع واجتهادا لإيجاد المعدوم منها ليس بأداة القياس أو بالمقاصد بل بالعمل بمقتضى أخلاق القرآن في عمليتي الفهم والفعل.
ولما كان إجماع الأمة الدائم على الرجوع إلى القرآن والسنة هو الذي يجعلهما مرجعين في الواقع فلا يبقيان مرجعين مقصورين على الواجب فحسب فإن الواقع من دون هذا الالتزام الشامل يبقى خارجا عن سلطانهما التشريعي. لذلك فالأصل المتقدم في فاعلية التشريع هو إجماع الجماعة عقدا وعملا: وذلك هو أصل الشرعية في الشرع والوضع على حد سواء. ولا يمكن أن يعد الشرع تشريعا فعليا ما لم يصبح معتقدا فيه ومعمولا به لأنه ليس مجرد نظرية في الأخلاق بل هو عين أخلاق الأمة التي تحيا بها عقدا وعملا. وكلا الأمرين العقد والعمل شخصيان باطلاق في فلسفة القرآن الكريم. وينتج عنهما التواصي بالحق والتواصي بالصبر وينتجانهما في علمية التشريع علما بشروطها وعملا بمقتضياتها. لذلك فلا يمكن أن يتوسط بين المرء وربه سلطة روحية أو زمانية توسط تشريع أو تنفيذ حتى وإن احتاج إليهما بالإنابة في إدارة الشأن العام من تنظيم الحياة الروحية (السلطة التربوية) والزمانية (السلطة السياسية). لذلك فكلتاهما تستمد سلطانها من توكيل الأمة بالانتخاب الحر فلا يستبد أي منهما بالأمر بحجة وجهه الفني مستبدلين فرض العين بفرض الكفاية.
وليس معنى ذلك أن إرادة التشريع تقاس بالسلوك بل معناه أنها تقاس بما يقاس به السلوك من منظور إجماع الأمة حتى وإن خالف السلوك ما تقيسه به بمقتضى المسافة الفاصلة بين المثال والواقع. وفي الجملة فالشرع الإلهي يصبح تشريعا لاعتقاد الأمة بأنه التشريع المقدس الذي تؤمن بتعاليه على التحكم وبوجوب الاحتكام الإرادي إليه لتحرره من النزوات حتى وإن خالف بعض سلوكها أصل معتقدها لعلل ظرفية. وكل ما ينبع من هذه الإرادة التي اختارت الشرع مصدرا للتشريع وحيدا أو مع غيره هو الذي تنبع منه سلطة التشريع سواء اختارتها الأمة من الفقهاء أو من غيرهم. وعندما تختار الأمة سلطتها التشريعية من بين الفقهاء فإنهم ليسوا سلطة تشريعية بما هم فقهاء بل بما اختارتهم الأمة. وليس فقههم عندئذ إلا شرط الكفاءة الفنية لا شرط الأهلية الشرعية: فما ذنبي إذا لم يفهم الشيخ هذا التمييز بين وجهي النص التشريعي وجه صوغه الفني ووجه تأسيس شرعيته ؟ ألا يكون الكلام معه عندئذ تضييعا للوقت ؟
وابن خلدون لم يكتف بعلاج مسألة الإرادة المشرعة في مستوى النظريات الفقهية الكلامية والصوفية الفلسفية كما فعل ابن تيمية بل هو تعداه إلى مستوى الأحداث العمرانية وراء النظريات المجردة فطلب علم الشروط الفعلية التي تحول دون الأمة والتشريع الحر. لذلك فهو لم يعالج المسألة بالجدل مع الفقهاء والمتكلمين ولا مع المتصوفة والفلاسفة رغم عدم خلو أعماله من ذلك (وخاصة شفاء السائل والرحلة) بل هو نفذ مباشرة إلى الظاهرات نفسها (في المقدمة) ليدرس علل انحراف التعامل معها انحرافا يؤدي إلى استبداد العلماء (التربية والحقوق الروحية) والأمراء (السياسة والحقوق المادية) ومن ثم إلى فقدان الأمة معاني الإنسانية وانحطاطها إلى الحياة المزدوجة حياة النفاق والكذب وفقدان الأمل والخضوع إلى الدجل.
أراد ابن خلدون أن يفهم علل الاستبداد الزماني (سلطان الأمراء في المؤسسة السياسية خاصة) والاستبداد الروحاني (سلطان العلماء في المؤسسة التربوية خاصة). فعلم العمران البشري والاجتماع الإنساني ليس هو إلا علم الشروط التي تحرر الإنسان من هذين الاستبدادين تحريرا شرطه فهم عللهما وكيفية تأثيرهما في أخلاق الأمة تأثيرا ينفي معاني الإنسانية ومن ثم شروط الحياة الاجتماعية السوية. فكان مطلوبه العملي من وراء علمه النظري: كيف يصبح التشريع حتى وإن كان سماويا في الأصل خاضعا لتحكم الأمراء والعلماء فلا يبقى من سماويته إلا الإسم: تلك هي المسألة التي تربط ثورة ابن خلدون بأصول الفقه ومن ثم فلا معنى للاستدلال بعدم تأليفه في الفن على النحو الذي لو فعله لكان الكلام عن ثورته عديم المعنى.
وما كنت لأبدأ محاولتي بنص ابن خلدون حول ما يؤول إليه الاستبداد الروحي في التربية (الفرد) والاستبداد الزماني في السياسة (الجماعة) بسبب التعسف الذي يفسد معاني الإنسانية فيفقد الفرد (الإيمان والعمل الصالح) والجماعة (التواصي بالحق والتواصي بالصبر) شروط الاستثناء من الخسر لولا هذه العلاقة التي أدركها ابن تيمية وابن خلدون وغفل عنها شيخنا. لم يكن قصدي من إيراد هذا النص إلا إبراز المعنى العميق للتطابق بين فقدان الأمة لمعاني الإنسانية وفقدانها لسيادة التشريع سواء كان ذلك إيمانا بالتشريع الشرعي المنزل (الشرع النقلي) أو تعاقدا بالتشريع الوضعي (الشرع العقلي): وهما ضربا التشريع الذي شرح ابن خلدون آلياته واعتبرهما في الغاية ناحيين إلى وحدة التشريع المطابق للفطرة لأن الشرع قل أن يخالف الوجود. تلك هي الثورة التي نتكلم عليها وليس تأليف الكتب في أصول الفقه بالمعنى الذي يحصرها في منهج فهم النص لاستنباط الحكم أعني أدنى معضلات نظرية الحق سواء كانت وضعية أو شرعية: فما حيلتي إذا لم يفهم الشيخ هذا القصد من الثورة التشريعية بعد علمه بفلسفة الحق؟ ألا يكون الكلام معه عندئذ مضيعة للوقت.
الإنارة الثالثة
ما المقصود بإنكار فائدة المقاصد التشريعية ؟
لن أعود إلى الكلام في دحض بناء الفقه على نظرية المقاصد. ما قلته في محاولتي وفي التعليق على محاولة الشيخ يكفي وزيادة. وفي الجملة فإني لم أنف وجود المقاصد من حيث هي ما يمكن تجريده من مناطات الأحكام أجناسا كلية لها رغم كون ذلك لم يحصل بصورة منهجية في أي محاولة معلومة بما في ذلك محاولة الشاطبي أكثر المحاولات نسقية وانتظاما. إنما نفيت قابلية المقاصد للاستعمال أساسا لوضع التشريعات عودة منها إلى الأحكام الموضوعة وضعا يمكن أن نزعم أنه من جنس الأحكام الشرعية لعدم شرعية السلطة الناقلة واكتفائها بالكفاءة الفنية التي لا تسندها شرعية التعبير عن إرادة الأمة لعدم وجود شرط الاختيار والإنابة. لذلك فقد اعتبرتها مجرد تأسيس لسلطة التشريع الوضعي المتنكر بغطاء شرعي وهمي أساسه الخلط بين الكفاءة العلمية وأهلية التعبير عن إرادة الأمة.
فالعودة من المقصد إلى الحكم الذي يحققه مستحيلة إلا إذا قبل الفقيه بنفي الطابع الشرعي على الحكم الموضوع بهذه الطريقة: فهو محض اجتهاد إنساني لا صلة له بحكم شرعي أو بمقصد شرعي لأن مصالح العباد في الحكم الشرعي تعبدية ومن ثم فهي من الغيب. ولو سلمنا أنها معلله بالمقصد وكانت العودة منه كافية لوضع الحكم لاستغنينا عن الحاجة إلى الرسل إذ يكون طلب المقصد والمصلحة بالعقل كافيا. وقد نسلم بكفايته في ما ليس فيه نص بشرط استغنائه عن القياس على نص قياس يضفي عليه الشرعية النقلية الموهمة. وختم النبوات يعني الاستغناء عن الرسالات المقبلة واستعاضة عنها بأصل الشرعية الذي وضعته الرسالة الخاتمة وهو أصل لا يعني أن مضمون التشريعات ينبغي أن يستمد بالقياس من النص بل معناه أن الشرعية في ماليس فيه نص بل وفي ما يستخرج من النص أساسه ما تجمع عليه إرادة الأمة منه: ذلك أنه بعد وفاة الرسول الخاتم لم يبق إلا عصمة إجماع الأمة التي ربيت على أخلاق القرآن في اجتهاداتها التشريعية مباشرة أو بمن توكله بالمهمة توكيلا مختارا وحرا وقابلا للمراجعة الدائمة لئلا يصبح الوكيل بديلا من الموكل. وذلك هو معنى أمرهم شورى بينهم معناه الوحيد. وكل موقف مغاير لهذا الموقف السني القويم استئناف للسلطة الروحية وهو كنسية متنكرة كما هو شأن الحاجة إلى سلسلة الأيمة المعصومين في المنظور الشيعي. لذلك فاستعادة الأمة للسلطة التشريعية من الفقهاء وبيان فساد القدسية التي يضفونها على حكمهم بزعم قيسه على الحكم المقيس عليه أو المقصد المستند إليه يجعل التشريع الذي تضع