مضى قرابة القرنين على بزوغ مشاريع النهضة العربية الحديثة وما يزال الفكر العربي والإسلامي يعيش جدلاً مبتذلاً حولها، ففضلاً عن عجزه عن متابعة أسئلتها ومعالجة إشكالياتها يستمر الجدل في طبيعة تلك النهضة وأهدافها، وتتم قراءة تاريخها وتوظيفه حسب الأيديولوجيات المتصارعة اليوم، وقلَّت الدراسات التي تحاول الحفر في تاريخ النهضة القريب والظروف التي كانت وراء بروز خطابها، فأسئلة كثيرة حول تلك المرحلة ما تزال معلقة ولم تدرس علمياً، لاسيما من حيث الصلة بالتاريخ والسلطة العثمانية وكذلك ما يتعلق بالحراك السياسي والاجتماعي في ذلك الوقت، فهل كان لخطاب النهضة أن يستمر لو لم تحدث التحولات السياسية التي طرأت في الربع الأول من القرن العشرين والتي توجت بسقوط الخلافة والتي كانت علامة في تحولات رشيد رضا أبرز تلاميذ محمد عبده.
لقد تراوحت قراءة تجربة الشيخ الإمام في معظم المقاربات العربية بين التأريخ أو التوظيف، ولم يقتصر ذلك على معظم ما كتب حوله بل عمت إلى توظيف ذكرى رحيله فاحتفت به أكثر من جهة وتم تقديم عبده في كل منها بحسب التيار الراعي للاحتفائية به.
"حداثات إسلامية" كانت عنواناً معبراً لندوة دولية نظمها المعهد الفرنسي للشرق الأدنى بحلب بهذه المناسبة، شارك فيها باحثون من دول عربية وأجنبية مختلفة حاول كل منهم قراءة محمد عبده من الزاوية التي يصنف نفسه فيها، فقدَّمت معظم المداخلات العربية الشيخ الإمام المعمم في صورته مطربشاً (حسب تعبير جابر عصفور) وحليقاً كتلامذته، فهو رائد العلمانية والتحديث في العالم العربي، ولم يكن عنوان الندوة بعيداً عن التوظيف وكأن المشروع هو البحث عن جذور الحداثة في العالم الإسلامي، ورغم وصفها بالإسلامية فقد كان هناك إصرار على أنها حداثة غربية وكونية واحدة ولا مجال للمصالحة بينها وبين البنى التقليدية للخطاب الإسلامي المعاصر الممثل بأكثر رموزه شهرة وتسامحاً، فكانت المقاربة اليسارية لتاريخ الشيخ ولحاضر الخطاب الإسلامي مقاربة سجالية وإطلاقية ولا تاريخية، فيُقرأ محمد عبده وكأنه يعيش في القرن الحادي والعشرين، كما يُقرأ الخطاب الإسلامي المعاصر وكأنه خطاب واحد لا فرق فيه بين القرضاوي وبن لادن وطالبان، بل ليست المشكلة فيهم بقدر ما هي في مرجعياتهم فالنص القرآني نص قابل للتوظيف في خطابي العنف والتسامح ...، وتختزل مشكلات النهضة المعاصرة في قضايا الحجاب وتعدد الزوجات والأحوال الشخصية والحريات الفكرية والسياسية ومن الزاوية التي يشكو منها مفكرونا العرب الذين ملً مستمعوهم من تكرار الأسطوانة المخروقة التي اعتاشوا عليها طيلة سنوات الصراع الأيديولوجي الذي يبدو أنه ما يزال مستمراً إلى اليوم، وكأن شيئاً لم يتغير في العالم حتى لو تحول ملايين العرب إلى متدينين فإن الدين لا أثر له ولا يزال خرافة ووسيلة يجيش به رجاله المجتمع، ولا يتغير من الأمر شيء إن لم يكن لرجال الدين أي دور أو تأثير في بعض المجتمعات، فالفقر والقهر والاستبداد هو المحرك الأول للتدين حتى لو اجتاح التدين بيوت البرجوازيات العربية وأصبح أبناؤها قادة للتطرف.
هذه الرؤية الإسقاطية والإطلاقية الغالبة في قراءة تاريخ الأستاذ الإمام وحاضر الخطاب الإسلامي المعاصر نجت منها قراءات أخرى -لاسيما غير العربية- كانت أكثر حياداً ودقة إذ نظرت إلى تاريخ النهضة وتجربتها كما هي لا كما تريدها، فاستعادة تاريخ النهضة إنما تكمن جدواه في فهم خطابها وظروف بزوغها وقراءة عوامل فشلها أو نجاحها في القضايا التي عالجتها وكيفية الاستفادة منها، فأن يكون محمد عبده علمانياً متستراً أو شيخاً تقليدياً لا يعني الباحث العلمي في شيء وإلا أصبح باحثاً عن هوية من أجل توظيفها في صراع الهويات اليوم والذي يقتل البحث العلمي الذي لا صلة له به.
بين التوظيفين الإسلامي والعلماني لتاريخ النهضة يبرز خطاب توفيقي يرى في خطاب عبده واستحضاره جمعاً بين الأصالة والمعاصرة والتقليد والتجديد وغيرها من الثنائيات التي يعبر الجمع بينها عن تناقض وتوظيف في آن، وهو خطاب غير معرفي يكتنف تناقضات الخطاب الإسلامي المعاصر لاسيما الرسمي منه.
لقد آلت مقاربات الخطاب الإصلاحي إلى مآزق أشد ضيقاً من مأزق الإصلاحية نفسها، ذلك أن خطاب النهضة مشروع لم يكتمل ورؤى تعبر عن هموم وقلق أكثر من تعبيرها عن رؤية تمامية كتلك التي تعبر عنها معظم المقاربات المعاصرة لخطاب النهضة، ولا جدوى من استحضار محمد عبده بهذه العقلية المصادرة للتاريخ والرجال، ولئن كانت حمى الحديث عن التجديد والإصلاح الديني تغري بكثرة الحديث عن رجال الإصلاح والنهضة فإن الأجدى بالمعنيين بهذا المنحى تكريس تقاليد علمية في مقاربة الفكر الديني وتوفير أخلاقيات البحث العلمي في مؤسساته كي تتجنب مزالق التوظيف والتلفيق وكي تستطيع الاستفادة المعمقة من هذا التاريخ القريب لتجارب الإصلاح، والحاجة نفسها تبقى ملحة من أجل مقاربة تجارب المصلحين في التاريخ الإسلامي، فما يزال ابن تيمية –مثلاً- رمزاً نمطياً للسلفية المعاصرة بناء على الصورة التي رسمتها له بعض التيارات السائدة بينما قراءة أفكاره من مختلف مدوناته قراءة تاريخية تراعي تطوره والظروف التي عاش فيها قد تكشف عن وجه آخر من شخصيته العلمية والإصلاحية، نفس الشأن بالنسبة للمذاهب الفكرية التي نشأت في التاريخ الإسلامي تتم قراءتها قراءة مؤدلجة ومن الزوايا التي تخدم أصحابها، فلا يرى الحداثيون العرب من المعتزلة –مثلاً- إلا موقفهم من العقل ويعممونه على مذهبهم ويتباكون على اندثاره ولا يقرأون مواقف المعتزلة من قضايا أخرى قد يعتبرونها من قبيل الخرافة وكذلك الأمر بالنسبة للرؤية الأخرى لتاريخهم.
لقد كان محمد عبده كأي شخص مصلح مهموم بقضايا أمته وكانت له رؤيته الخاصة لإصلاحها ونظراً لكثرة العوامل الفكرية والسياسية التي تداخلت في حركة عصره كان تاريخه ملتبساً، ولا بد من قراءة متأنية لهذا التاريخ مع إدراك نسبية هذه القراءة وإمكانية التباسها.