/

 

 

مؤتمر محمد عبده وقضايا الإصلاح والنهوض

رضوان السيد

حضرت بمكتبة الإسكندرية مؤتمراً أقامه قسم التراث الحضاري بالمكتبة عن الإمام محمد عبده لمناسبة مرور مئة عام على وفاته. وقد ألقي في يومي المؤتمر (4 و5 كانون الأول/ ديسمبر، 2005) زُهاء العشرين بحثاً قدمها مفكرون من مصر وبلدان الوطن العربي الأخرى. وجاءت تلك الدراسات شاملة للموضوعات التقليدية المتعارف على بحثها او الحديث فيها عندما يتعلق الأمر بمحمد عبده: النشأة الريفية (وُلد عام 1849)، وبدء التعليم الديني بالجامع الأحمدي بطنطا، والذهاب الى الأزهر، والتخرج أثناء التلمذة على جمال الدين الأفغاني. ونفي جمال الدين عن مصر، وانتقال محمد عبده للعمل في تحرير جريدة «الوقائع» المصرية، ثم مشاركته بقلمه وبالمشورة في الثورة العُرابية وصولاً الى محاكمته بعد فشل الثورة وللاحتلال البريطاني، والذهاب الى بيروت لفترة قصيرة ومنها الى باريس للالتحاق بجمال الدين – الذي لم يره منذ نفيه عام 1876 – وإصدار العروة الوثقى (1884 – 1885)، ثم العودة الى بيروت عام 1885 والبقاء فيها لحين السماح له بالعودة الى مصر عام 1888. وفي بيروت درّس بالمدرسة السلطانية، وبمدرسة الشيخ عباس الأزهري. وألقى محاضرات في الجامع العُمري وفي جمعية المقاصد، وكتب رسالة التوحيد، وحاشيته على شرح العقائد العضُدية، وربما أيضاً شرحه على نهج البلاغة. بيد ان أهم ما لفت باحثي مؤتمرلاسكندرية بين أعمال محمد عبده في بيروت مشروعه للإصلاح التربوي العثماني، الذي أرسله عام 1887 الى اسطنبول لشيخ الإسلام ليوصله الى السلطان (وقد صوّر لي الأستاذ فاضل بيات الباحث المعروف بالدراسات العثمانية نسخة من المشروع من الأرشيف العثماني مكتوباً عليها أنها بخط محمد عبده المصري). وعندما عاد الرجل الى القاهرة بالواسطة، لم يرض الخديوي توفيق الذي أدخل البريطانيين الى مصر له أن يدرّس بالأزهر، بل عينه نائباً للقاضي الشرعي لمحكمة بنها ثم المنصورة ثم عابدين، الى أن عُين عام 1899 مفتياً لمصر. لكنه قبل تعيينه للإفتاء بقليل كُلّف من جانب الوزارة القضائية (العدل) ان يكتب تقريراً عن أحوال المحاكم الشرعية وطرائق إصلاحها. وقد قام فعلاً برحلتين الى الوجهين القبلي والبحري، حيث رأى عشرات المحاكم وراقب العمل فيها، ثم كتب تقريره الشهير لإصلاح القضاء الشرعي. وتوزعت جهوده في السنوات الست الأخيرة من حياته على دروس التفسير القرآني، وحضور اجتماعات مجلس شورى القوانين، ومجلس إدارة الأزهر (تقدم إليه بلائحة إصلاحية)، والمجلس الأعلى للأوقاف (حيث تصارع طويلاً مع أعوان الخديوي عباس الثاني)، والجمعية الخيرية الإسلامية (التي أنشأت مدارس وأعانت طلبة فقراء. وقد كتب محمد عبده أيضاً مشروعاً مشهوراً لإصلاح القضاء المصري). بيد أن نشاطه امتد الى ما وراء الوظائف الرسمية، الى السياسات الوطنية والتوجهات العامة، في وقت كانت فيه مصر، وبلدان العالم الإسلامي الأخرى، تبحث عن مسار وتوجه إن للوجهة الثقافية أو للوجهة السياسية إضافة الى المعنى الحضاري العام: اهتم اهتماماً مركزاً بقضية التربية والتعليم، وتجادل مع فرح أنطون حول علاقة الدين بالدولة وإمكان الفصل بينهما شأن ما حصل في فرنسا، وأقبل على إصلاح الأزهر والأوقاف، وتجديد المشروع الإسلامي (في ما وراء الجامعة الإسلامية التي كان السلطان العثماني مع شيخه جمال الدين الأفغاني يعملان عليها)، وجمع من حوله مئات الشبان المتحمسين لقضايا الإصلاح السياسي والثقافي، وحرية المرأة، وإقامة الجامعة الوطنية، وتأهيل مصر وبلدان العالمين العربي والإسلامي للاستقلال والحرية.
تحدث أساتذة مصر والعرب الآخرون الحاضرون (من لبنان وتونس، وهما البلدان اللذان زارهما محمد عبده مرات عدة) عن هذه الموضوعات كلها. بيد أن الحديث عنها جميعاً لم يرق الى مرتبة الدرس المتخصص، ولا التوجه الاستراتيجي العام. فمحمد عبده مثلاً اعتقد انه لا حل للمسألة الوطنية المصرية والإسلامية إلا بالتربية، ولذلك كثرت مشروعاته الإصلاحية للتعليمين المدني والديني. بيد إن أحداً ما سأل نفسه ومحاوريه عن علة هذا الاهتمام، من رجل ما كان التعليم غرامه الأول. قال بعض الحاضرين، كما سبق أن قال آخرون، إن علّة اهتمامه التربوي، فشله في السياسة أو في فشل الثورة العرابية، ومجيء الاستعمار. لكن الرجل، كما تُبيّن سيرته، ما كان يعتقد أن الجهود السياسية كافية للنهوض، أو التأهل للاستقلال. لقد استظهرتُ وجود سببين أساسيين لديه وراء فكرة التربية والتعليم: الحرص على الهوية (أمام صعود التعليم الخاص الأجنبي الذي يعرض تعليماً عصرياً، لكنه مقرون بتغيير الوجهة الدينية والثقافية للأولاد والفتيان)، والحرص على التأسيس لوعي وطني وقومي واحد. ومسألة الهوية همٌّ خاص لدى سائر المسلمين المهتمين بمصائر دينهم آنذاك، والذين يريدون في الوقت نفسه تعليماً عصرياً لأولادهم. أما الهمّ أو السبب الآخر فيتصل بصعود الدولة القومية وأفكارها وممارساتها في أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على الخصوص. وقد أصر المفكرون القوميون الأوروبيون منذ فيخته والى غيزو ولوبون وسبنسر على حيوية التربية والتعليم في الاندماج الوطني والقومي. وقد كان ذلك في ما يبدو وعياً ثابتاً لدى محمد عبده وابناء جيله.
ثم ان احداً ما سأل عن ماهية إصلاحه الإسلامي، ومصائر ذاك الإصلاح بعده. الأستاذ محمد عمارة، الذي نشر أعمال الشيخ الكاملة نشرة جيدة، تحدث دائماً عن إصلاح عبده باعتباره وسطية عقلانية أو نظرية وأخرى عملية. بيد ان أبا يعرب المرزوقي أصر على «فراغ» الفكرة من دون عرض بدائل. بيد ان ما قصدته بالتساؤل عن ماهية الإصلاح الذي عمل له عبده ما قيل مثلاً عن اجتهاده الفقهي وتجديده العقدي. والإمام عبده من أسرة مالكية المذهب، لكنه درس المذهب الحنفي بالأزهر، وعمل بحسب المذهب الحنفي في القضاء والإفتاء. لكنه كان يعرف المذهبين الشافعي والمالكي معرفة جيدة. وقد كانت له (خارج الفتاوى الرسمية) اجتهادات كبرى ولافتة، لكن أحداً ما تحدث عن أصول الاجتهاد الفقهي عنده. وحتى في البحث الذي عُني بفكره المقاصدي (مقاصد الشريعة بحسب الشاطبي المالكي) ما كانت هناك دراسة تطبيقية حقيقية توضح أين وصلت به اجتهاداته أو توسيعه لآفاق القياس الفقهي من طريق المقاصد. وعاد كثيرون للحديث عن وسطيته في «رسالة التوحيد»، وهم يعنون بها انه أخذ أشياء عن المعتزلة. لكنه في الواقع تجاوز الأشعرية والمعتزلة باتجاه ما عُرف في ما بعد باسم: علم الكلام الجديد. وقد قرأ الأستاذ التونسي البارز محمد الحداد (ما استطاع الحضور الى المؤتمر) نصوص عبده من جديد قراءة نقدية في كتابين صدرا بدار الطليعة في بيروت في العامين المنصرمين. والذي أراه أننا لا نعرف الكثير بعد عن مصادره التراثية والأخرى الحديثة. فهو بخلاف الطهطاوي لا يهتم بذكر المصادر القديمة أو الحديثة في كلامه وكتاباته. وقد اكتشفت مصادفة انه مثلاً مثل الطهطاوي ينقل عن فتاوى الطرسوسي (- 758هـ) الفقيه الحنفي. ثم ان اكتشافه للموافقات للشاطبي واهتمامه بها وإطلاع تلامذته عليها أمر بالغ الأهمية. وهو بخلاف الطهطاوي أيضاً يهتم بالبلاغة والبيان، فقد اهتم بشرح نهج البلاغة، ونشر المخصص لابن سيده، وعلّم تلامذته طرائق التخلص من المحسّنات البديعية. والمشروع الكبير الشاسع الأطراف هوالذي جذب اليه كل فئات الشبان بما في ذلك المسيحيون واليهود.
ولست هنا لأتمدّح بما فكر فيه الإمام أو عمله، لكنه يمثل خير تمثيل تلك الفترة الواقعة بين 1870 والحرب الأولى (1914)، والتي كان فيها العالم الإسلامي يخوض مخاضاً كبيراً من أجل لملمة المتناثر، وإمضاء العزيمة، وتحديد الخيارات. وقد عرف بعمق الموروث العلمي الإسلامي، كما استوعب بنهم الحداثة الأوروبية – وهو بين هذا وذاك، اكتشف المجتمع المدني، وحاول من طريقه التأثير في إصلاح الشأن العام، أو تجاوُز إعاقات الدولة، من أجل النهوض السريع والواعد.
وأفهم أن ينهمك المثقفون في مكتبة الإسكندرية بامتداح الإمام محمد عبده. فقد استظهرت في خاتمة دراستي عن مقترحاته الإصلاحية في الأوقاف والمحاكم الشرعية، إن ما لم يتحقق من مقترحاته لإصلاح المؤسسات في حياته تحقق بعد وفاته. أما أفكاره في الإصلاح العام فقد خفت صوتها في حقبة ما بين الحربين، ثم جاء الإحيائيون الأصوليون والسلفيون فقضوا عليها تحت عنوان: الدفاع عن الهوية. وهكذا فالمثقفون المتمدحون انقسموا من حوله: هناك الذين يحاولون إحياءه من أجل مصارعة الأصوليين، وهناك الذين يحاولون اعتبار الإحيائيين أنفسهم المتابعين الحقيقيين لمشروعه. والذي أحسبُهُ أن المدخل الصحيح لقراءة مشروعه من جديد ما حاوله الدكتور سيف الدين عبد الفتاح عندما تحدث عن «رؤية العالم» لدى الأستاذ الإمام.

 

 

10-12-2005 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=439