/
التربية ومناهجها مدخلاً لأزمة الفكر الإسلامي المعاصر
عبد الرحمن الحاج
الكتاب: أزمة الإرادة والوجدان المسلم: البعد الغائب في مشروع إصلاح الأمة. المؤلف: عبد الحميد أبو سليمان. الناشر: دار الفكر ـ دمشق، بالاشتراك مع مؤسسة تنمية الطفولة. الطبعة: الأولى 2004م. ------------------------------------------------
لا يبدو أن المراجعات التي أعقبت أحداث 11 أيلول في أزمة الفكر الإسلامي ستتوقف قريباً، فقد كتب الكثير وما يزال يكتب في ذلك، والمسألة ما عادت مسألة مفكرين، بل أصبحت ـ كما هو معروف ـ قضية عالمية تمس المواقف السياسية الرسمية قبل أي مسألة فكرية ورؤية فردية، لكن الملفت للنظر أن أياً من تلك المراجعات والدعوات لإصلاح المناهج التعليمية والتربوية تعاملت مع المسألة باعتبارها حالة سياسية طارئة، ولحظة تاريخية أياً تكون تبقى "عابرة"، لكن البعض ذهب بعيداً فأعاد تركيب رؤيته لتاريخ الفكر الإسلامية برمته، ففسّر حركة هذا الفكر وحضارته في النهوض والانحطاط على أساس مسألة التربية ومناهج التربية، حتى ليبدو لنا أن أحداث 11 أيلول سيكون لها آثار على مستقبل الفكر الإسلامي أكبر مما هو ملموس الآن بكثير. ففي كتابه ((أزمة الإرادة والوجدان المسلم)) يتصور عبد الحميد أبو سليمان (رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي) أن أزمات ثلاث هي التي تستحكم في مسار الفكر الإسلامي المعاصر تحول دون أن تكون له قدرة على النهوض: ((أزمة العقل والمنهج، وأزمة الفكر والثقافة، وأزمة الوجدان والتربية))، وهي أزمات ليست جديدة كما يراها الكثيرون ، بل يعود تاريخها إلى "أكثر من ألف عام"! والتعامل مع هذه الأزمات يمر عبر رؤية تاريخية تفسِّر تشكُّلها، وتسمح لنا بإنارة السبيل لتفكيكها. المحاولات العديدة لتفسير الأزمة وحلها لم تفلح، بدءاً من جهود الإمام الغزالي (ت550ﻫ) مروراً بابن تيمية والشاطبي وابن خلدون وكثيرون غيرهم، ثم في العصر الحديث محمد بن عبد الوهاب (ت1792م) وشاه ولي الله ومحمد عبده ومدارسهم وأضرابهم، وعلى الرغم من أن هذه الجهود الكبيرة التي بذلك إلا أن أبو سليمان يرى أن عدم نجاحها دليل على وجود نقص قائم فيها، وليس إلى طرق تمثُّل مشروعاتها، أو حتى إلى مدى استيعابها الحداثة الغربية وفارق العصر بين الحاضر وتراثها. هذا النقص يجده في إهمال استثمار المعرفة الاجتماعية والعناية بالجوانب الإنسانية التي ترجع في محصلة الأمر إلى الأساس التربوي. وهذا الأساس التربوي لا يمثل أداة مهملة في تحديد سبل النهوض وحسب، يل أيضاً كان نقصاً في تفسير الانحطاط ذاته. انطلاقاً من ذلك يُرى تاريخ الإسلام منحدراً باتجاه الانحطاط منذ ما بعد عصر الرسالة، أو جيل الصحابة، "؛ حيث "لم يعد الأصحاب الذين صفت معادنهم (...) حراس نظام الخلافة"، بل أصبح الأعراب هم جيش الخلافة وقاعدتها السياسية" وسرعان ما كان هذا "التغيير الجوهري" سبباً في تحول الخلافة إلى ملك عضوض "مبني على قواعد الاستلاب وقهر العصبيات"، واقترن ذلك بالفلسفات والشعوذات وخلائط الأديان الوافدة بالفتوحات؛ ليحول كل ذلك دون تمثُّل روح الرسالة، بل وفقدانها بالتدريج. إسقاط الخلافة الراشدة كان الشرخ الأول في دولة الإسلام، الذي كانت أسسه تربوية في العمق حسب أبو سليمان. وهكذا يبدأ تدحرج التاريخ نحو الهبوط والانحطاط، فانهيار الخلافة الراشدة كان بمثابة صعود لقوى القبلية، ليبدأ الفصام بين العلماء والولاة ويستقر بعد مائة عام من الصراع الدامي على صورة تهميش وانعزال للعلماء عن السلطة السياسية وحيزها الاجتماعي الحي، هذا التهميش هو الذي حولهم عموماً إلى جماعات نظرية مدرسية منعزلة في المدارس والزوايا والمساجد، وسيكون هذا بلا شك بداية عهد تتآكل فيه المؤسسة العلمية (والدينية منها على وجه الخصوص) وتضعف قدرتها على التأثير في مقدرات المجتمعات، ثم تظهر آثار ذلك في فقدان مرونة المؤسسة العلمية على الاجتهاد والابتكار، والذي أفضى في المحصلة بالنخبة المفكرة إلى البحث عن بديل فلسفي وافد، كانت الفلسفة اليونانية هي الأقرب له. ضاقت الدائرة إذا على الصفوة المتخصصة في المعرفة الدينية الإسلامية، إذ لم يبق لها سوى أحد خيارين: التحالف مع السلطان والدخول في علاقة استتباع له في صور وظائف الدولة السلطانية: الفتوى، والقضاء، وإمامة المساجد، أو الخيار الفردي وهو خيار اضطرها ـ في سبيل تثبيت سلطتها ـ إلى اللجوء إلى الإرهاب والترهيب الروحي وإضفاء صفة القداسات على المنطوقات وشحنها بالرموز وشوارد النصوص. لكن كيف نفسر ظهور "عبقريات" فذّة في التاريخ الإسلامي على شاكلة الشاطبي وابن خلدون وابن تيمية؟ لا يجب أبو سليمان جواباً إلا أنها ليست إلا "أثراً مما تبقى من قوة الدفع" التي شكلها عصر الرسالة الأول، بروحه النقية، وإدراكه العميق، وهكذا ـ حسب أبو سليمان ـ لا تتغير طبيعة حركة التاريخ الكلية الآخذة بالانحطاط. لكن هذا التفسير يضحي بالتاريخ الإسلامي برمته حيث يحصر روح الإسلام في الثلاثين سنة الخاصة بالخلافة الراشدة، إذ يجعل واقعية الإسلام وتجليه الموضوعي لحظة قصيرة واستثنائية من التاريخ، حتى ليبدو ـ في هذا القول ـ أن الأصل أن الإسلام غير ممكن التطبيق، وأن التاريخ انحرف فجأة باتجاه أفكار مثالية ما لبس أن نكص وعادة إلى طبيعته، طبعاً أنا لا أقول ذلك، لكني أوضح فقط ما يترتب على هذه الرؤية للتاريخ. تحاول الأطروحة ـ دون أن تبرهن صاحبها عليها ـ أن تقدم رؤية تفصيلة للأزمة الثلاثية (العقل، والثقافة، والتربية) تبغي فيها "تشخيص الداء" من خلال وضع اليد على ما تسمِّيه "التشوهات والانحرافات" في ميار الفكر الإسلامي، وهي تشوهات أصابت "الرؤية الكلية" و"التفكير المنهجي"، وطالت "المفاهيم"، لتتجلى أخيراً في "الخطاب" وتفشي "عقلية الشعوذة والخرافة"، واستحكام "النزعات العرقية" القبلية العنصرية. المسألة الآن تبدو في هذه الأطروحة مسألة "إرهاب فكري وسياسي" نشأ منذ مئات السنين بسبب الانفصال بين المجالين العلمي والديني، والمجال السياسي، وهو ما ولد بدوره "خطاب إرهابي" يحاول به كل فريق استحواذ السلطة في المجتمع، وقد ولد هذا الخطاب لدى الشعوب المقهورة ومع مرور الزمن "نفسية العبيد" التي تختصر موقف دائم ومستمر هو "الخوف من المبادرة"، واستتبع ذلك رؤية كونية مليئة "بالانحرافات عن منهاج النبوة" أدت بتفشيها إلى نشوء "خطاب ديني تكراري تسليمي وإرهابي" يسلك منهجاً تربوياً "لا يدرك العلاقة بين المعرفي والنفسي والوجداني" إذ لا توجد المعرفة إلا مع الحرية، ولا حرية مع الإرهاب، وهكذا تنتهي المسألة إلى واقعنا: "أمة متخلفة سلبية" تفتقر إلى إرادة العمل إن لم يكن أيضاً مجرد إرادة القول. تنتهي الأطروحة إلى ما هو متوقّع منها، وهو أن أساس أي نهوض يمر عبر بوابة التربية، وهو أمر يعني بالضرورة إعادة بناء المناهج وصياغتها على نحو يعيد إنتاج روح الرسالة النبوية في لحظة نقائها الأولى "عصر الرسالة" ولكن بتجليات معاصرة، والعمل على هذا الموضوع يتصدر رأس الأولويات الآن. الأطروحة التي تطغى عليها الروح السلفية تثبت ـ من حيث لا تريد ربما ـ المقولة الأمريكية بأن التعليم الديني هو السبب في عدم تقبل الشعوب الإسلامية للديمقراطية، وفي انفجار الإرهاب الدولي، لكن هكذا أراد بوش. وهذا أمر دلالته الخطيرة، فهذه الأطروحة جاءت من مؤسسة إسلامية أمريكية لها إسهاماتها في إصلاح الفكر الإسلامي هي "المعهد العالمي للفكر الإسلامي"، ومن أكاديمي خبير قاد تطوير الدراسات الإسلامية في الجامعة العالمية بماليزيا (1988-1999م). وحيث تنهي "الدراسة" نظرتها برؤية "أكثر" عالمية فيكون مشروعها متجهاً لـ"استنقاذ مستقبل الإنسان وحضارته الإنسانية" من خلال "استنقاذ" المسلمين وعالمهم.
|
04-04-2005 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=448
|