ما يزال البحث في المقاصد الشرعية مفتوحاً للاجتهاد منذ أن بدأ بلورته الإمام الجويني في كتابيه " البرهان في أصول الفقه " و " غياث الأمم في التياث الظلم " في القرن الخامس الهجري ، مروراً بالإمام الشاطبي في كتابه " الموافقات في أصول الفقه " الذي يعتبر قفزة علمية في علم المقاصد ، وإلى اليوم ما يزال البحث المقاصدي يحتاج إلى جهود لتفعيله بشكل أكبر في الفقه والحياة العامة، وفي إطار تطوير القانون الإسلامي في نموذج الدولة الحديثة .
في كتابه الموسوم بـ"نحو تفعيل مقاصد الشريعة" يحاول الدكتور جمال الدين عطية، إضافة خطوة في ملف المقاصد الذي أعيد افتتاحه بدءاً من مطلع القرن العشرين ، أي منذ ما لا يزيد عن قرن من الزمان ، إذ يرى أن ما أورده الذين كتبوا في المقاصد لم يخرج عما كتبه الشاطبي نفسه ، واقتصر معظم عملهم على اختصاره وإعادة ترتيبه ، وقد تجاهلوا جميعاً ما قرره السابقون على الشاطبي من دور العقل والفطرة في معرفة المصالح والمفاسد في حالة غياب النص .
وبالرغم من أنه قد وجد من العلماء السابقين من اعترض على الرجوع إلى العقل أو الفطرة أو التجارب في حالة عدم وجود نص أو إجماع ، لكنهم لم يكونوا في الحقيقة ضد هذه المصادر ، كما يرى عطية ، بل كانوا يحاربون عقلية التحسين والتقبيح العقليين المعتزلية ، ويخشون من الانجرار إلى القول بعدم الحاجة إلى الشريعة بمبرر أن العقل يغني عنها .
وتعتبر مسألة " ترتيب المقاصد " من المسائل الأكثر خلافاً بين الأصوليين ، فيقرر عطية أن المصالح والمفاسد ليست على رتبةٍ واحدةٍ ، وإذا كان مبدأ التفاوت بين المصالح متفقًا عليه ، فإن النتيجة الطبيعية للتفاوت لم يكن محل اتفاق ، فضلاً عن أن يكون محل إجماع ، والواقع أن الغالبية من العلماء لم يبرروا دوماً الترتيب الذي اتبعوه ، وأن كثيرًا من المبررات التي قدمت أحياناً ليس من النوع القوي في الاحتجاج .
أهمية الترتيب لا تخفى ، وهي التي تتجلى في حالة التعارض بين كليتين يقدم المتقدم في الترتيب ويُضحى بالمتأخر ، فإذا كان الترتيب غير متفق عليه قام كل فقيه بتطبيق الترتيب الذي اختاره ، وينتج عن ذلك - بطبيعة الحال - اختلاف الأحكام الاجتهادية كما في حالة الخلاف بين كل من الجويني والغزالي والعز من ناحية ، والشاطبي من ناحية أخرى في حالة الإجبار على الزنا المعروفة .
ورغم ذلك فهناك قدر مشترك وينبغي الاتفاق عليه ، وهو حالة وجود نص يوضح الحكم في حالة التعارض ، كالنصوص الخاصة بالجهاد وفي تقديم الدين على النفس ، وحبذا ـ والكلام للدكتور عطية ـ لو قام أحد الباحثين باستقراء مثل هذه النصوص تمهيداً لتصنيفها وتحليلها ، كلّ ذلك يعين على التوصل إلى ترتيب مقنع .
ويقترح المؤلف فكرة " المنظومة الدائرية " لحل إشكالية الترتيب ، ويعني بها ضرورات متضمنة في ضرورات أخرى ، أي كأنها دوائر، هناك دوائر كبيرة جداً وواسعة بداخلها دوائر أصغر فأصغر فأصغر ، وهذا نظام آخر للتصنيف ، فدائرة الدين واسعة جداً وتتضمن دوائر أخرى .
يدرس الدكتور عطية ما أسماه بـ " ترتيب وسائل كل المقاصد " في الوازع الجبلي والديني والسلطاني حيث الاعتماد على الوازع الديني الفطري الذي تناط به معظم الوصايا الشرعية والوازع الجبلي تناط به معرفة المصالح التي لا ينص عليها الشارع . وتتعارض معه ، وعندما يضعف الوازع الديني يصار إلى الوازع السلطاني ، وقد شرح كل ذلك الشاطبي بإسهاب ، ويستنتج عطية أن مراتب الضروري والحاجي والتحسيني تتعلق بالوسائل لا بالمقاصد ، وفي هذا السياق يرى أن المقاصد لا تقتصر على الضروري ، وإنما تشمل المرتبتين الحاجي والتحسيني " في وحدة واحدة " يمثل فيها الضروري الحد الأدنى للمقصد الذي لا تقوم الشريعة عند تطلب تحقيقه ، وإنما تتطلع إلى كماله في حدود الإمكان بطبيعة الحال ، وأن مراتب الضروري والحاجي والتحسيني لا تتعلق إذن بالمقصد ، وإنما بالوسائل المؤدية إلى تحقيقه ، وعلى قدر الوسائل تتحدد المرتبة المناسبة من ضروري أو حاجي أو تحسيني ، وكما أن وسائل المقاصد مرتبة إلى ضروري وحاجي وتحسيني ، فإنها داخل كل رتبةٍ من هذه الرتب ليست على وزن واحد .
من الجديد الذي يتميز به كتاب عطية الجديد تحديد المراتب في المقاصد إلى خمس وليس إلى ثلاثة ، فالمشروع منها ثلاث هي الضروري والحاجي والتحسيني، وهذا يفترض وجود مرتبتين أخريين غير مشروعيتين وهما مرتبة ما دون الضروري ، ومرتبة ما وراء التحسيني ، فيضيف " أن الحالة التي لا يتحقق فيها مواصفات الضروري ، وكذلك الحالة التي يزيد فيها الإسراف عن حد التحسيني كلاهما بحاجة ماسة إلى دراسة ، لوضعهما موضع الاعتبار ، وترتيب ما يلزم من الأحكام بشأنهما ، بل ولإعطائهما الأولوية في الإزالة باعتبار أنهما حالتان غير مشروعتين " .
وترجع أهمية إبراز مرتبتي التقصير والإسراف ـ كما يرى عطية ـ إلى عدة أمور ، منها أنها تعدٍّ لحدود الله ينبغي أن تحظى بأولوية الاهتمام لإزالتها من واقع الحياة ، وهذا يقتضي تعيينها وبيان حكمها ومنهج التعامل معها . وتعيين منطقة ما دون الضروري يحتاج إلى بيان الحد بينها وبين الضروري (أو الحد الأدنى للضروري) ، كما أن تعيين منطقة ما وراء التحسيني يحتاج إلى بيان الحد بينها وبين التحسيني (أو الحد الأعلى للتحسيني) ، ومنها أيضاً أن ما يبدد من أموال وطاقات وأوقات في مرتبة الإسراف كفيل بأن تسدد به مرتبة التقصير ، ثم يصار إلى سد مرتبة الضرورات ، وصولاً إلى تلبية الحاجيات فالتحسينيات حسب الإمكان ، ومنها بيان دور الدولة في مراعاة حدي التقصير والإسراف ، وذلك من ناحيتين: ناحية استخدام أسلوبي الترغيب والترهيب مع من يتعدّى هذه الحدود ، وناحية واجب الدولة في توفير الضروريات .
ما معيار اعتبار حكم معين أو وسيلة معينة من مرتبة الضروريات أو الحاجيات أو التحسينيات ؟ سؤال من بين أكثر الأسئلة اختلافاً بين الأصوليين ، ذلك أن المسألة هنا اجتهادية ، فتتنوع الإجابات بين من يرى ذلك متعلقًا بنوع الحكم التكليفي المتعلق به المقصد ، فإن كان أمراً ونهياً مشدداً مثلاً (أي من نوع الواجب أو المحرم) كان من الضروريات ، وإن كان أمراً أو نهياً غير مشدد أي من نوع المندوب أو المكروه كان من الحاجيات وهكذا (وهو معيار شكلي)، وبين من يرى، أن المعيار موضوعي يتعلق بالنظر إلى درجة المصلحة أو المفسدة المتعلق بها الحكم التكليفي ، فإن كان من أهمها كان من الضروريات ، وإن كان قليل الأهمية فمن التحسينيات ، وما هو وسط بينهما فهو من الحاجيات ، وبين ثالث يجمع بين المعيارين . وينتهي المؤلف في نقاشاته لآراء العلماء إلى تبني الأخذ بالمعيار الموضوعي ، أي بحسب درجات الأهميَّة التي يوليها لها الشرع .
إن ترتيب الكليات إلى ضروري وحاجي وتحسيني هو الإطار الثابت للكليات ، وداخل هذا الإطار يجري تسكين الكليات ، ولكن هذا التسكين غير ثابت ، فهو يتغير بحسب الزمان والمكان والأشخاص والأحوال ، وهذا معنى النسبية في التطبيق .
يطرح عطية بجرأة تصوراً جديداً للمقاصد يقوم على توسيع عدد المقاصد المعروفة أي الخمسة ، فيضيف تسعة عشر مقصداً دفعةً واحدة ، وهذا يذكرنا بمحاولات عديدة سابقة حاولت إضافة مقصد جديد أو أكثر مثل محاولة كلّ من الطاهر بن عاشور (التونسي) وعلال الفاسي (مغربي) إضافة " الحرية " مقصداً سادساً ، وأضيف مؤخراً في بعض البحوث مقصد " حفظ البيئة " ، ويبدو أن هذه القضية تجد حاجة ملّحة ، خصوصاً مع استشعار الباحثين في الأصول والفقه لمقاصد ما ذكرت في المقاصد السالفة ، ولا تنطوي تحتها إلاّ بتأويل ، ويظهر أن عطيّة حاول أن يدلي بدلوه في هذه القضية الشائكة .
ويقدم عطية مرّة أخرى أطروحة مميّزة في المقاصد فينقل التقسيم في المقاصد من " الكليات الخمس " إلى " المجالات الأربعة " للمقاصد ، فهو يتوسع في بيان المقاصد من الخمسة إلى أربعة وعشرين مقصداً موزعة على أربعة مجالات هي: مجال الفرد ومجال الأسرة ومجال الأمة ومجال الإنسانية .
وفي إطار البحوث والدراسات التي تستخدم المقاصد ، وتشكل الصورة الحالية لاستخدامات المقاصد الشرعية (من خلال الكتابات القديمة والحديثة) فإن الاجتهاد المقاصدي بالصورة التي تبدو فيها لا تستحق - برأي المؤلف - أن يطلق عليها هذا المصطلح ، فما هي في الحقيقة إلاّ المصلحة المرسلة أو الاستصلاح ، كدليلٍ شرعي تكلّم فيه الأصوليون منذ القديم ، وما عملهم فيه إلاّ التطوير لما كتبوا والبناء عليه .
يؤكد المؤلّف أن نظرية المقاصد إنما وضعت في الأساس " لتبرير " ما عليه الأحكام بإضفاء صبغة المقاصد والحكمة عليها ، ولم توضع لأجل تأسيس الأحكام وبنائها ، أي أنها جعلت لتبرير ما هو كائن وليس لما ينبغي أن يكون ، ويبدو أن هذه المسألة الخطرة التي يرى الدكتور عطية أن التطور اللاحق غيَّر هذا المنحى وهو ينظر إلى ذلك بإعجاب وإيجابية ، فإن هذا التوجه لجعل المقاصد منتِجاً بذاته للأحكام التشريعية - إذا أخذنا هذا المنطق إلى نهايته - فإنه يعني فيما يعنيه إسقاط النصّ وتجاوزه ! أليس سيقدم المقصد حينئذٍ على النص ، لأن ذاك كلي وهذا جزئي ؟!
ويجد المؤلف أن معظم الدراسات الحديثة لم تقدم خطوة تذكر باتجاه تطوير البحث في المقاصد ، كما أن معظم الدراسات لا تسير بالسرعة والشمول والعمق نفسه في كافة جوانب الحياة المعاصرة بياناً مؤسساً على نظريات خاصة بكل فرع من فروع المعرفة التي تهتم بهذه الجوانب ، ومن الواضح كذلك أن هذه الدراسات لا تسير بالسرعة والشمول والعمق نفسه في كافة الجوانب إذ حظي بعضها بعناية واضحة مثل المعاملات المالية ، والأحوال الشخصية بينما لم يلق البعض الآخر الاهتمام اللازم ، وذلك مثل العلوم السياسية والإعلامية والفنون وغيرها .
وفي شأن المستقبل المتعلق بتطوير المقاصد فإنه يجب تجاوز هذه الثغرات ، كما يجب تقيّيم هذه الدراسات للاطمئنان إلى كفايتها بالمطلوب أو لبيان ما قد يحتاجه البعض منها من استكمال واستيفاء ، وأهم ما يجب الاهتمام به وإعطاؤه الأولوية ، هو الأعمال المساعدة لتيسير الدراسات المطلوب إنجازها ، من ذلك - مثلاً - تحقيق ونشر العديد من أمهات كتب التراث الرئيسية التي لم تر النور بعد ، وما يلزم من أعمال موسوعية ومعجمية وفهرسة ، لتيسير رجوع المختصين في العلوم المعاصرة إلى كتب التراث ، وضرورة حصر القواعد الفقهية وتصنيفها بصورة شاملة للانطلاق منها إلى وضع النظريات العامة على مستوى الشريعة ككل ، وعلى مستوى كل قسم وكل باب منها .
وبعد اكتمال التأليف في كل فرع من فروع الفقه خاصة والمعرفة عامة ، يتوج هذا العمل بتأليف الكتاب الجامعي (في كل فرع) الجامع للنظرية الخاصة به ، مع الاهتمام ببيان مختلف الآراء المذهبية دون اقتصار على مذهب بعينه ، ويخلص عطية إلى ضرورة تقنين قواعد المقاصد ، بما يشبه الأطر التوجيهية التي سارت عليها منظمة السوق الأوروبية في تشريعاتها في القانون الأوروبي الموحد ، وهو في الواقع مجموعة ضابطة من الأطر المنهجية في كل فرع ، وتلتزم تلك الدول بتعديل قوانينها بما يتفق مع هذه الضوابط .
يختتم المؤلف كتابه بالقول بأهمية " ارتباط المقاصد بأصول الفقه " بمعنى أهمية أن يتم تطويرهما في إطار واحد . أمّا رأي ابن عاشور في تأسيس علم مستقل لمقاصد الشريعة وترك علم أصول الفقه على حاله ، فهو ضار بكلا العلمين ، يجمّد الأصول من جهة ، ويحرمها من روح المقاصد ويبعد المقاصد عن الدور الوظيفي الذي تقوم به حالياً ، والذي ينبغي أن نحرص على تطويره من جهة ثانية .
-----------------------------------
عنوان الكتاب: نحو تفعيل مقاصد الشريعة
تأليف: جمال الدين عطية
الناشر: دار الفكر - دمشق
الطبعة: الأولى 2001م