(1) سياسات الصراع على الإسلام
أصبح الحديث عن الإصلاح الإسلامي جزءاً من استراتيجية السياسات الدولية لمنطقة الشرق الأوسط. فعولمة تحديث الإسلام إذا صح التعبير، ارتبطت بشكل كبير بحدث الحادي عشر من أيلول 2001، ذلك أن الأصولية الإسلامية عندها لم تصبح ذات أثر إقليمي محدود ضمن منطقة الشرق الأوسط، وإنما أصبحت ذات تأثيرات دولية بالغة الأثر على الاقتصاد وحركة المال والسياحة الدوليين.
وفورة الاهتمام بالإسلام تنبع أيضاً من حجم تأثيره الطاغي في ثقافة شعوب المنطقة التي تبدو للكثير من المراجعين والمتابعين عصيّة على التغيير. كل محاولات التحديث والدمقرطة ليست جزئية ومحدودة فحسب وإنما تجميلية أيضاً ولم تدخل إلى عمق ثقافة سكانها.
وعلى ذلك فإن رضوان السيّد في كتابه ( الصراع على الإسلام: الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية) يخلص إلى نتيجتين هما خلاصة التأمل في الأحداث الدولية وانعكاساتها على المنطقة العربية والإسلامية وهما: وَهْمُ إمكان استخدام الإسلام لصالح النظام الرسمي، ووَهْمُ إمكان استبعاد الإسلام من دائرة التأثير الاجتماعي والسياسي في العالمين العربي والإسلامي.
إننا نشهد "ردّة" إلى التفكير بالإسلام من نوع جديد، ذلك أن الأصولية لدينا تقدّم نموذجاً من فهم الإسلام يقوم على المفاصلة، والولايات المتحدة أيضاً، كما تكشف تصريحات بوش المتكررة حول ضرورة استنقاذ الإسلام من الخاطفين الأصوليين، تقدّم فهماً مختلفاً أيضاً للإسلام.
وهنا تبدو المهمة صعبة بل تكاد تكون مستحيلة للقيام بتجديد الإسلام من داخله في ظل اعتبار السياسات الدولية التي ستعرقل ـ على الرغم من ادعائها الدعم ـ جهود التجديد التي يقوم بها المصلحون من داخل مجتمعاتهم، كما أن أولئك المصلحين يجدون أنفسهم في صراع فكري مع التفسيرات الأصولية للإسلام التي تجد شرعيتها الشعبية في الاحتلال الأميركي للعراق والاحتلال الإسرائيلي الدموي لفلسطين، وأمام هذين الاحتلالين والمقارنة الشعبية اليومية والمستمرة بينهما تجعل مهمة التفكر بالإسلام كرؤية متصالحة مع العالم تؤمن بالقيم الإنسانية المشتركة، مهمة مصيرها الإخفاق المستمر، ذلك أن من يجد هويته مجروحة أو مهدّدة لا يفكر في تجديدها أو تغييرها، انه يقبل بها على علاتها خوفاً من أن تؤدّي محاولات تطويرها إلى زوالها.
إن السيّد يستند في الكثير من قراءته إلى التحوّلات الفكرية والمعرفية التي مرّ بها الفكر الإسلامي إلى مفهوم "رؤية العالم"، ذلك المفهوم الذي صكه الفيلسوف الألماني المعروف فلهلم دلتاي والذي شاع في أوساط المؤرخين والأنثربولوجيين منذ مطلع القرن العشرين، بحيث صار اليوم إحدى المقولات الكلية التي تدخل في مضمون الثقافة.
إن "رؤية العالم" تستند إلى ما يطلق عليه دلتاي "الصورة الكونية" التي تؤلف الكتلة الأساسية للمعتقدات والمسلمات الافتراضية عن العالم الحقيقي الواقعي، والتي يمكن في ضوئها الوصول إلى إجابات شافية عن التساؤلات حول مغزى الكون والوجود، يضاف إلى ذلك فإن مفهوم "رؤية العالم" غالباً ما يستند إلى السياق التصويري ـ الواعي والارادي ـ الذي تضع فيه الذات الجمعية نفسها ضمن تقسيمات العالم الواقعية أو المركبة من النواحي الثقافية في الأصل، لكن أيضاً من النواحي الأخلاقية والاجتماعية والسياسية.
لكن السيّد يدرك في الوقت نفسه وهو ما يصرّ عليه أكثر من مرة، خطأ التفسيرات المحض
الثقافية للحركات الأصولية، وهو لذلك يستدعي مقولة غادامير التي تقوم على ان "الوعي يملك مقومات ثقافية بارزة، لكن التغيير لا يتمّ في الوعي، بل في الواقع، وهو سياسي واجتماعي وفردي".
لكن ادراك التصور المعرفي والثقافي للحركات الأصولية والذي منه تنطلق في تعاملها مع العالم، من شأنه أن يمدّنا بآليات تحليل استراتيجية وليست آنية لعلاقاتها وصراعاتها مع ذاتها ومع غيرها من التصوّرات والإدراكات، ذلك ان خطاب الأصولية الاسلامية سيبدو في فترة من فتراته متشابهاً تماماً مع خطاب الحركات القومية واليسارية العربية الذي ساد خلال الحرب الباردة خاصة في ما يتعلق بالنظرة إلى الغرب وهو ما يدعو إلى القول إن البنية الأساسية لوعي العقائديات والحتميات لدى سائر التيارات الفكرية والسياسية العربية والاسلامية كانت واحدة، وقد ظلّت كذلك حتى مطلع التسعينيات من القرن العشرين.
أما الصراعات بينها فهي صراعات على ساحة السلطة، وعلى المواقع في دولها ومجتمعاتها، وليس نتيجة الاختلاف في رؤية العالم، ذلك انه مع انجراحات العلاقة مع الغرب في فلسطين وغيرها أصبح الغالب لدى جميع التيارات الفكرية العربية سؤال الحفاظ على الهوية، والآن وبعد نشوب الحرب العالمية على الإرهاب، فإن الصراع أصبح صراعاً على الإسلام، وهو صراع شامل يتجاوز طرائق الحفاظ على الهوية إلى تحديات وجودية في الوعي والواقع، إذ من المعروف ان انجراحات الهوية تتحول في الأزمات العلائقية إلى عقائد ومنظومات وليس إلى أطروحات ونظريات، ومع غياب الرؤية المستقلة للحركات الأصولية في علاقتها مع الغرب فإنها غالباً ما يتحول صراعها مع العولمة إلى رفض يأخذ اشكالاً مختلفة ربما يكون الإرهاب احد أشكالها الأشد جذرية والتي تؤشر إلى قرب نهاية الحركات الأصولية، ذلك أن السيّد يرى ان الاسلاميين المتشدّدين سوف يخمدون كما خمد ثوار المدن اليساريون كالجيش الأحمر الياباني وحركات العنف في إيطاليا وألمانيا، ذلك ان توجه تلك الحركات للسيطرة على العالم عجّل من نهايتها عندما تفقد هدفها السياسي المباشر الذي تسعى إليه، ويصبح كل ما تطمح إليه هو الاستعراض البصري والإعلامي لقوتها ووجودها.
يبقى في النهاية ان نذكر ان نقطتين رئيسيتين اعتقد انهما مصدر خلاف مع الدكتور رضوان السيد، أولاهما اعتباره ان المشكلة في الإسلام السني اليوم تكمن في غياب الهرمية داخل الجهاز الديني وخصوصاً بعد سقوط السلطنة العثمانية، وثانيهما دفاعه عن مبدأ التقليد داخل المؤسسات الاسلامية، ذلك ان الخطاب الاحيائي الذي يحض على الاجتهاد من شأنه أن ينشر ثقافة متشددة لا تصلح لها ولا تصلح لنا على حدّ تعبيره. ذلك انه كان من الأجدى الدفاع عن استقلالية المؤسسات الدينية في وجه السلطة، هذه الاستقلالية التي من شأنها ان تمنع التوظيف وسوء التوظيف الذي تمارسه السلطات الرسمية والذي تستفيد منه الجماعات الأصولية، كما ان إشاعة الاجتهاد ليس بوصفه ممارسة نخبوية وإنما كونه حاجة فردية سوف يغير حتماً علاقة الفرد بذاته وبمحيطه عندما يصبح مدفوعاً باستمرار باتجاه البحث نحو الأفيد والأكثر خدمة للمصلحة العامة، ان الاجتهاد الذي نحضّ عليه لا يقتصر على المجال الفقهي أو الديني، وإنما الاجتهاد كممارسة داخل الحقول الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كافة.
------------------------------------------------------------
(2) أفكار في"الصراع على الإسلام"
عبد الرحمن حللي
كاتب سوري
info@almultaka.net
لقد شهدت الساحة الثقافية والفكرية والسياسية العالمية الكثير من الجدل حول الإسلام والمسلمين في العالم، حتى أصبح الإسلام القضية الأولى وموضوع من لا موضوع له، وقي ضوء عمومية الحديث والمتحدثين في هذا المجال يكثر اللغط والمغالطات وحشو الحديث، وتقل الدراسات العلمية المتأنية التي تحلل بعمق وتنظر إلى الأمور بجوانبها المتعددة، ويأتي كتاب "الصراع على الإسلام" للكاتب اللبناني رضوان السيد ليسد ثغرة في هذا المجال وذلك من خلال تناوله موضوعات متفرقة ترصد وتحلل وتنقد وجهات نظر متعددة مطروحة من طرفي الصراع والدافعين له من أصحاب الأصوليات التي استبدلت الاختلاف بالصراع تحت عناوين مختلفة، وفي هذا المجال يتناول الكتاب موضوعات متفرقة كالإصلاح، والفكر السياسي، والعولمة، ورؤية العالم، والاستشراق، وغيرها.
وقد جمع الكاتب في الكتاب وجهات نظر إسلامية وغربية كثيرة ومتنوعة جعلت من الكتاب مرجعاً مزدوجاً من ناحيتين، الأولى ما يطرحه من رؤية وتحليل نقدي، والثانية ما يدعم به الكتاب من توثيق وإحالات تجعل من الكتاب دليلاً لمعرفة ما كتب وطرح في الموضوع، وقد كتبت موضوعات الكتاب على فترات ممتدة كدراسات متفرقة ثم جمعت في كتاب مما جعل فيها بعض التكرار، وقد أشار إليه الكاتب.
ولئن كانت أهمية الكتاب تتجلى بطابعه التحليلي النقدي الذي يجعل عرض أفكاره غير متيسر، فإن ما يطرحه فيه من أفكار مركزية هي الأهم فيما أرى، وأود تسليط الضوء على يعض الأفكار أعتبرها الأهم، وهي أفكار نقدية مركزية في فكر الكاتب فضلاً عن الكتاب.
أولاً- إن علاقة الإنسان العربي والمسلم بالعصر إنما تتأسس على وعيه بمتغيراته وآلية حصولها والقوانين التي تحكمها، ذلك أن جهل تلك المعطيات يعني انفعال الإنسان بمحيطه دون إرادته فضلاً عن أن يكون فاعلاً فيه، وبالتالي فإرادة تغيير العالم دون قدرة على تغيير الذات أو تحصينها من التأثير غير المرغوب فيه هي نوع من العبث، وإذ يؤكد لنا رضوان السيد "أننا لا نملك في الفكر العربي والإسلامي المعاصر رؤية للعالم، لا بالمعنى النظري، ولا بالمعنى الاستراتيجي/السياسي." فبإمكاننا أن نعي أسباب الفشل الذريع للفكر الإحيائي والسياسي، فالدراسات الحضارية في الفكر الإسلامي والعربي تكاد تكون معدومة، والصورة المتحصلة في الأذهان عن العالم مشوشة، والمفاهيم المعبرة عن علاقة المسلم بالكون مسقطة من عوالم مختلفة، ولا يمكن إقامة علاقة عربية إسلامية مع العالم والغرب بالذات وفق قواعد متوازنة ما لم تتكون لدى المسلمين رؤية للعالم تجمع بين تصور العالم بمتغيراته كما هو وبين الرؤية الفلسفية للمكانة التي نضع فيها أنفسنا ضمن تقسيمات العالم. طبيعة تصور العرب والمسلمين للعالم يعتبرها الكاتب فكرة أساسية ترجع إليها أخطاء كثيرة قادت إلى استبدال فكر الاختلاف بالصراع موضوع الكتاب.
ثانياً- الفكرة الثانية التي أعتبرها أساسية في الكتاب مركزية الهوية في التفكير الإحيائي إذ يرى "أن مشكلة الفكر الإحيائي الإسلامي الأساسية تكمن في قيامه على مقولة الهوية ومن حولها، وفكر الهوية القائم على الرموز والشعائر يستبعد التغيير سواء أكان قومياً أم دينياً"، وفرق فيما أرى أن تكون الهوية موضع اهتمام وتنظير وبين أن تكون محور تفكير، فكل إنسان يدافع عن هويته لكن لا يمكن أن يبني الإنسان تصوره وفكره بناء على مركزية هويته التي يتصورها وتحتل لديه قداسة تجعل كل فكر لصيق بها عصياً على التغيير، لذلك فإن من المهم لتطور الفكر الإحيائي الإسلامي والعربي – كما يرى رضوان السيد- أن يفصل بين الهوية والتفكير، والأهم فيما أرى أن يعاد النظر في مفهوم الهوية نفسه الذي يعتبره الإسلاميون مغلقاً ومؤسساً على عقائد ورموز مضبوطة، بينما هوية المسلم ترتبط في أصلها بالخلقة التي فطر الله الإنسان عليها فهوية المسلم هي هوية الإنسان، فأي تفكير يرتبط بالهوية ينبغي أن يرتبط بالإنسان لا أن يؤول إلى تقسيم البشرية وتغذية الصراع بين البشر دفاعاً عن هويات مزعومة جاء الإسلام لإرجاعها لأصلها الفطري.
ثالثاً- الفكرة الثالثة الأساسية في الكتاب هي دفاعه عن التقليد الديني واعتباره أن إضعافه يؤدي إلى نصرة الإحيائية والسلفية، فبدأ الإصلاحيون بمحاربته ثم أكمل عليه السلفيون والإحيائيون، ويقصد به التعليم الديني التقليدي في مؤسساته التقليدية، وهو ينفي أن تكون المدارس والجامعات الدينية وراء ظاهرة الأصولية، أو أعمال العنف باسم الإسلام، لكنه يقر بحاجة المؤسسات التعليمية إلى الإصلاح لا من أجل مكافحة التطرف إنما من أجل برامجها المتخلفة ومنهجياتها القاصرة، والعلاقة الإشكالية بالدولة والعالم، ويستشهد لانعدام دور المؤسسات الدينية بتوليد التطرف بكون معظم قادة الحركات الأصولية والناشطين فيها ليسوا من خريجي هذه المؤسسات، ولئن كان الواقع يؤكد ذلك فإن التقليد ليس السبب في ذلك فالأفكار السياسية التي يتبناها أبناء المؤسسات التقليدية عبر مناهج تقليدية هي نفسها التي يتبناها الأصوليون، لكن المختلف هو طريقة التعامل لتطبيق هذه الأفكار والتعامل مع الواقع، فخريج المؤسسة التقليدية لا يلجاً غالباً إلى العنف والأصولية لأن الدور الوظيفي الذي يطمح إليه عادة في المجتمع هو دور تقليدي حددته المؤسسة، وانضباط هذا الدور يحول بينه وبين طموحات أخرى غير التي ترسم له، فضلاً انعدام الوعي العملي بالواقع السياسي والدولي الذي يتحرك فيه الأصوليون، فالعلة ليست اختلاف الأفكار بين التقليدين والإحيائيين في الشأن السياسي، نعم ظهر تطور واختلاف لدي الإحيائيين نتيجة التجربة العملية، بل يمكن القول إن لدى بعضهم رؤية أكثر واقعية في التعامل مع الشأن السياسي من أصحاب الرؤية التقليدية.
لئن كان التقليد غير مسؤول عن ظاهرة العنف كما يرى رضوان السيد فإن هذا صحيح من حيث الظاهر أما في حقيقة الأمر فإن كل الرؤى الدينية المتطرفة في الواقع إنما ترجع في الأساس إلى المؤسسات التقليدية لأنها منبع الوعظ والتعليم الديني الذي يكرس في النهاية أحد نقيضين باسم الدين التطرف والعنف أو الاستبداد، فالتعليم الديني أسير التوظيفين، ولا يمكن تخليصه منهما إلا بإصلاحه باستقلال عن تأثيرهما، وذلك بجعل المعرفة هي العامل المؤثر والوحيد في ذلك التطوير فالهزالة في المناهج والعزلة عن العالم وتخلف المنهجيات في تلك المؤسسات لا يحتاج إلى تأكيد، والتحليل الذي يحتويه كتاب الصراع على الإسلام أوضح شارح لهذا التخلف ومؤكد لضرورة الإصلاح.
إن إصلاح مناهج التعليم والمؤسسات ليس إلا لبنة أساسية لن تجدي نفعاً ما لم يرافقها إصلاح شامل في جميع الشأن العربي والإسلامي، وهذا الإصلاح ضرورة داخلية وملحة منذ عقود بل قرون، لكن المشكلة أن الوعي به لا يأتي إلا إثر صدمات خارجية فتجعل الإصلاح حسب الطلب فلا يغادر القشور، هذا فضلاً عن الربط الساذج بينه وبين متطلبات الخارج عند الرافضين له.
لكن الأمل بتغيير حقيقي يبدو بعيداً، ما دامت النخب التي سترعاه هم من وصفهم رضوان السيد بقوله:"إن خفة العلمانيين لا يضاهيها غير غربة وغرابة الإحيائيين المتشددين عن رحابة القرآن وغنى حياة المسلمين. وقد ابتليت الثقافة الإسلامية، كما ابتلي التعليم الإسلامي بهما في العقود الأخيرة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب:الصراع على الإسلام/الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية (277 صفحة)
الكاتب:رضوان السيد
الناشر: دار الكتاب العربي- بيروت 2004
كتاب" الصراع على الإسلام"