يحتل سؤال المستقبل الأولوية لدى المهتمين بقضايا العالم الإسلامي، ولئن تأخر هذا السؤال فإن طرحه اليوم لاسيما في الشأن الثقافي يعبر عن وعي نسبي بأهمية الحاضر والماضي في آن، فاستشراف المستقبل لا يتم من غير رؤية الذات بحاضرها وماضيها، وعندما يتعلق الأمر بالأديان ومسار العلاقة بين أتباعها فإن ذلك يعني استشرافاً لمسار علاقة حساسة بين الأفراد والمجتمعات في عالم اليوم الذي تتحكم به قيم ومفاهيم مختلفة عن تلك التي حكمت العالم القديم، وهي ليست بعيدة عن أثر التغيرات السياسية الدولية وما أورثته طيلة قرن من اتفاقيات وقيم أصبحت معيار العلاقات والمواقف.
تحت عنوان "مستقبل الحوار الإسلامي – المسيحي" تحاول دار الفكر بدمشق استشراف مستقبل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في العالم، وذلك من خلال مقاربة حوارية بين شخصيتين تمثلان طرفي الحوار ومنخرطتان فيه، فمن المسلمين احميده النيفر الأكاديمي التونسي وعضو فريق الحوار الإسلامي المسيحي (GRIC) ومن المسيحيين الفرنسي المستعرب الأب موريس بورمانس، حيث قدم كل منهما مراجعته وملاحظاته حول الموضوع.
ينطلق النيفر من ملاحظة حالة الصدام بين العقل والإيمان التي استحكمت في القرن الماضي بينما يفرض القرن الحالي تجديد الهوية الدينية ومواجهة التحديات الجديدة التي يفرضها العلم، ويسجل بعض الملاحظات حول مسار الحوار الإسلامي المسيحي الذي كان شروع المسلمين فيه استجابة لدعوة كاثوليكية تلت مجمع فاتيكان 2 ودعوته للانفتاح على الديانات غير المسيحية، فانعقدت ندوات كثيرة لم تسفر عن نتائج تغري الطرف المحاور بالمواصلة نتيجة الخطاب الدفاعي ومحاولة إفحام الخصم، فكانت أشبه بحوار مع الذات، لكن مسؤولية الفشل لا تقتصر على المسلمين لاسيما إثر مواقف الكنيسة السياسية، والتاريخ الصراعي المرير.
ويلاحظ أن أخطر ما يعطل فعل المسلمين تبسيط الرؤية لقضايا الاتفاق والاختلاف بين المسلمين والمسيحيين، لاسيما عدم مراعاتهم لتعدد مستوى الخطاب القرآني المتصل بالنصارى وأهل الكتاب، بل إن مسألة الموقف من المسيحيين مرتبطة ارتباطاً وثيقاً باضطراب علاقتهم بالخطاب القرآني نفسه، ولا يمكن هنا الاعتماد على مقولة تعدد الأوجه لما فيها من تنكر لـ(كليات القرآن) التي تحدد الموقف من الحياة والعالم، ومراعاة السياق التاريخي لا تعني إهمال المفسر لتلك الكليات التي تمثل الخلفية الكبرى للنص القرآني، مثل قراءة الآيات المتصلة بالرفق والجدل بالتي هي أحسن مع الآيات المحذرة من اليهود والنصارى وتغليب إحداهما على الأخرى من خلال موقفين متضادين كلاهما لا يسمح بتطور مفهوم للحوار بين الأديان يركز على الخصوصيات التاريخية والروحية لكل تجربة، كما لا تسمح بنشوء معالجة علمية للأديان تعتمد شرح النصوص المؤسسة لكل دين وفهم رمزيته الخاصة.
إن أهم ما في المبادرة المسيحية – الكاثوليكية بالخصوص- للحوار ومنذ السبعينات هو إقرار المسيحيين بشرعية الإيمان والسعي إلى الحقيقة لدى المسلمين، بينما لم تقِم النخب المسلمة أهمية لهذا التحول إذ كان الحد الأدنى الضروري للحوار هو الاعتراف برسالة محمد، ولم يكن ذلك ليتحقق في ظل زهد المسلمين بالحوار رغم حاجتهم الماسة إليه ولما يحققه من مكاسب دينية وفكرية متوقعة منه، وبينما تتوزع اتجاهات المسلمين في الحوار بين فريقي الإقدام طمعاً في الهداية والإحجام استناداً لمبدأ التحريف يحاول النيفر تمييز فريق ثالث يسعى إلى تأصيل المسألة من خلال مقاربة قرآنية تفرق بين ثلاثة مستويات في الخطاب القرآني(الزمن القرآني، الكليات القرآنية، الحقيقة المفارقة) وهي مستويات متمايزة ومتكاملة في آن، ويخلص تأسيساً على ذلك إلى أن هناك آيات تتحدث عن الكلمة الجامعة بين المسلمين وغيرهم، وهي ليس مقتضية بالضرورة تخلي الكتابيين عن إرثهم الديني، وبناء على هذه النظرة يصبح الحوار آلية للاغتناء بالقيمة الدينية التي للتراث الآخر، ويستشهد في هذا المجال بتجربة كل من "شار دو فوكو 1858-1916، ولوي ماسنيون 1883-1962"، إذ وقفا ضد السياسات الاستعمارية الفرنسية ودعما تصحيح الموقف من المسلمين متأثرين بالعلاقة والحوار معهم، على عكس النخب الحديثة من المسلمين التي زهدت في كل بعد روحي للدين وعزته إلى الخرافة والجهل دون أن تقدم بديلاً، بل إن عموم النخب عندنا في شبه اتفاق على عدم التفاعل مع تراثها الديني، واستقطبت النخب ثنائية التحديث /التقليد مما جعل الحياة الفكرية والسياسية والاجتماعية مطبوعة بطابع التنافي الذي لا يهدأ، وبالمقابل لم يسع خصوم أولئك (الأصوليون) إلى تثاقف بين الوعي القديم والوعي الجديد وتبنوا فكراً إطلاقياً لا تاريخياً، فمأساة النخب تحديثية كانت أم أصولية ليس في المشاريع التي تبشر بها، ولكن في تماثل القاع الثقافي الذي تستند إليه، قاع رافض للحوار ومنتج للتمزق وحائل دون الاستقلال الثقافي والسياسي.
ثم يتوقف النيفر عند نماذج من الاستجابات لدعوة الحوار الفاتيكانية في السبعينات، حيث كانت الاستجابة مغاربية أكثر رغم قلة المسيحيين الذين يعتبرون أجانب في تلك البلاد، مما جعل تلك المحاولات أكثر جرأة مقارنة بالمحاولات المشرقية، وقد تركزت في معظمها حول قضايا إشكالية تشغل الجانبين، وكشفت عن اضطراب مفهوم الحوار الذي تردد بين مجرد إبداء الرأي أو الجدل العقدي، أو تقريب وجهات النظر، وقليل من اعتمد العلاقة التكاملية بين الفكر والواقع عند دراسة المسألة المطروحة، وكانت مساهمات المسلمين غير معبرة عن حد أدنى من الاتساق، تلك النقائص كانت وراء تأسيس فريق البحث الإسلامي المسيحي (GRIC) 1977م في فرنسا ليعتمد عنصري الإيمان والفكر النقدي مراهناً على إنشاء تقاليد حوارية ناجعة، وقد أصدر الفريق خمس دراسات على مدار خمس وعشرين سنة.
إن الحوار بين المسلمين والمسيحيين واجب لأنه مدخل لتجاوز الأزمة الدينية في العالم العربي والإسلامي، وهو اكتشاف للخصوصيات الإيمانية بالإنصات المتبادل بين أطراف يجمع بينها الاختلاف والتكافؤ في التجربة الإنسانية والقدرة على تقديم بدائل، وذلك بالانتقال من طور الحديث عن الآخر إلى الحديث مع الآخر، ولا بد لذلك من معالجة فكرية جديدة يمكن تسميتها "علم الكلام الجديد" تستند إلى محاور ثلاثة: نصي وعقدي وروحي، ويحاول النيفر تطبيق ذلك من خلال دراسته لشخصية عيسى في الخطاب القرآني في مقاربة حوارية ينظر إليها من زاوية الوحدة الثقافية بين الديانتين، إذ وجود الاختلافات ينبغي ألا يلغي روابط بالغة الأهمية، ويلتزم في مقاربته مراعاة المنطق الداخلي للبنية القرآنية، ويبتعد عن روح السجال ومنطق الإفحام، لينتهي إلى أن المسيحية هي أقرب ديانة إلى الإسلام.
أما موريس بورمانس فيفتتح مقاربته بأقوال للبابا الراحل يوحنا بولس الثاني يؤكد فيها أن الفهم المتبادل بين الديانتين سوف يظهر أنهما ليستا بمتعارضتين وأنهما متفقتان من أجل خير الإنسانية، ويؤكد بورمانس ذلك بعقم عهد المجادلات والمنازعات التي لم تأت بأي حل، وتحديات وظروف عالمنا المتغير تحتم الحوار بين جميع البشر، ويعرض وجهة نظره من خلال مجموعة من العناصر فيلخص ملاحظات عامة في حوار الأديان لجان كلود باسي، ويستعرض المؤسسات المسيحية والإسلامية الناشطة في الحوار وما صدر عنها من وثائق وأعمال تكشف عن رسمية وسطحية وهزالة وارتجال الحوار والجهل المتبادل لدى الطرفين، وينقل اقتراحات بجعل اللقاءات على نوعين: مؤتمرات شعبية لجماهير المؤمنين للتعاون بينهم في مجال القيم المشتركة، وندوات اختصاصية نخبوية تركز على توضيح مواطن التقارب بين المعتقدات والمشاعر الدينية وينوه بمشروع فريق (GRIC)، ويستعرض في هذا المجال النصوص الرسمية للكنيسة الكاثوليكية حول الحوار، ثم الرسالة العامة للبابا يوحنا بولس الثاني، ومواقف المسيحي الملتزم في الحوار مع المسلمين والتي يلخصها بقبول الآخر بروح الضيافة الإبراهيمية، والتفاهم في سبيل الاعتراف المتبادل، والتعايش السلمي في سبيل التعاون البناء، والتحاور في حضرة الله وفي ظل عنايته، والتوبة إلى الله ومصالحة الآخرين، ثم يلخص القيم الدينية التي تستدعي احترام المسيحي في التعايش الروحي بين الطرفين، ويدعو المسيحيين والمسلمين إلى تحرير القيم الدينية من المظالم التاريخية التي ارتكبها المؤمنون باسمها، كما يدعو المسيحي إلى التحرر من بعض الأحكام المسبقة الخاطئة الأكثر انتشاراً حول الإسلام فلا يحق لأحد أن يحصر جوهر الإسلام في بعض ما تحقق في التاريخ، كذلك يدعو المسلم للتحرر من الأحكام المسبقة الخاطئة التي تشوه حقيقة الدين المسيحي، ويبين وجوه التعاون الإنساني الضروري تجاه التقدم بالمجتمع البشري من خلال ابتداع المؤمنين علاقات جديدة بين الإنسان والطبيعة وبين التقنية والطبيعة من أجل سيطرة الإنسان على غرائزه، وللحوار الروحي دوره في تبيان مواطن التلاقي الممكن فيما يعيشه المسيحيون والمسلمون وما يعانونه وما يبينونه فردياً وجماعياً.
ويختم بورمانس بحثه بذكر أهم المشاكل المتبقية لدى المتحاورين ومعوقات الحوار المعاصرة، فيذكر قضايا الغذاء والشراب والزواج المختلط وواجب الدعوة والتبشير ومشكلة الأقليات، وأخطر المشاكل سوء التفاهم بين المجتمعات الإسلامية والغربية، ويأسف في ختام مقاربته على اقتصار المشاركة بين المؤمنين على القيم الدنيوية وحدها بينما هناك قيم أسمى ترتبط بها مسيرة المؤمنين الروحية وفيها يكتشف المسيحيون والمسلمون أن بينهم أموراً كثيرة يتقاسمونها على صعيد اختيارهم الديني.
وأهم ما يلاحظه النيفر في التعقيبات على مقاربة موريس بورمانس وهو من الآباء البيض (المبشرين في إفريقيا) ابتعاده عن مناقشة إشكاليتين أساسيتين في الموضوع هي العلاقة بين التبشير والحوار والعوامل الكبرى في تحول الفكر الديني الكاثوليكي، لاسيما في العصر الحاضر والمواقف الكنسية السياسية تجاه قضايا مختلفة، أما بورمانس فيشارك النيفر التفاؤل والإلحاح على أهمية الحوار الروحي كما يؤيده في تحليلاته، لكنه يسجل صعوبة في فهمه مقاربة النيفر لشخصية المسيح في القرآن داعياً إياه إلى إكمالها من خلال السنة النبوية والأناجيل.
إن ما سجله كل من المتحاورين على الآخر يمثل عمق أزمة الحوار الإسلامي المسيحي، فالكنيسة بما هي مؤسسة دينية وتمارس دوراً سياسياً ملتبساً ومن موقع متفوق على المسلمين ستبقى السؤال المقلق لدى المسلم المعني بالحوار، وبالمقابل فأي مقاربة إسلامية في شأن العقائد المسيحية كمقاربة النيفر ستبقى فردية وتأويلية يشوبها الغموض نظراً لإهمالها نصوصاً صريحة أخرى حول تلك العقائد لم يجب عنها في التأويل فضلاً عن نصوص عامة تبين طبيعة الرسالة الدعوية، ولم تفلح القراءة التاريخية في الإجابة عنها.
إن قضية الحوار الروحي لا يمكنها أن تحل مشكلة لدى مسلم تتأسس عقيدته على محاكمة عقلية لمبادئه العقدية، ولا جدوى فيما أرى من حوار لا تحدد أهدافه، فالتقارب العقدي ليس مطلباً للسلم وحسن العلاقات فتلك تتأس على التسامح والعقد الاجتماعي والقيم الأخلاقية المشتركة، وبالتالي فيمكن للحوار أن يكون ناجحاً عندما تحدد مقاصده سياسية أم اجتماعية فتكون تعاوناً فيما هو مشترك، أو تكون جدلاً عقدياً لا يمكن أن يحسم لكن يمكن بآدابه العلمية أن يصحح تصورات كل عن الآخر ويحقق مطلب الفريقين في الدعوة أو التبشير.
ــــــــــ
الكتاب:مستقبل الحوار الإسلامي – المسيحي
المؤلف:احميدة النيفر- موريس بورمانس
الناشر: دار الفكر- دمشق (آب) 2005، سلسلة: حوارات لقرن جديد