/

 

 

جفري لانغ ورحلة الحج : من صراع الإيمان إلى تجربة العبادة

عبد الرحمن حللي

رحلة الحج من أهم المحطات الدينية في حياة المسلم، وتزداد خصوصية لدى المهتدين (المسلمين الجدد) حتى خصها بعضهم بتأليف خاص، لكنها مع الحاج جفري لانغ مختلفة، فهو شخصية مثيرة للتأمل، ولا يمكن تصنيفه بين المهتدين الذين يمكن للوعاظ الاستئناس بتجربتهم، فهو مسلم لا كالمسلمين، إذ إسلامه نتيجة لتجربة تأملية ذاتية لا بفعل الدعاة الذين كاد سلوكهم يرده عن الإسلام لولا قناعته العميقة وصراعه الداخلي من أجل الإيمان الذي رسخ في أعماقه دون أن يحول بينه وبين التساؤل المستمر الذي يزيده إيماناً طالما أن الملائكة تسأل، هذه الخاصيات في شخصيته تجلت في عنواني كتابيه المترجمين ( الأول: "الصراع من أجل الإيمان: انطباعات أمريكي اعتنق الإسلام" 1998، والثاني : "حتى الملائكة تسأل: رحلة إلى الإسلام في أمريكا" 2001)، وهما بمثابة ما يشبه السيرة الذاتية، لكنهما يكتنفان من المعاني والأفكار ما يزيد إيمان المؤمن ويضعه أمام ضميره ومسؤوليته، والصدق والصراحة في حكاية تجربته وطرح تساؤلاته يزيد القارئ فهماً له واستفادة منه سواء اقتنع بأفكار أم لا، لقد دخل جفري في الإسلام لكنه لم يتخل عن كونه أمريكياً في اسمه ونمط حياته وثقافته وذلك فيما لا يتعارض مع قيم دينه الذي اعتنقه، فهو يناقش بعمق الفرق بين قيم الإسلام ومبادئه وبين عادات المسلمين التي يلح الدعاة على تقميص من يعتنق الإسلام بها، مع تخليهم عن أسس مركزية في الدين. 
يختصر جفري قصة إسلامه في العبارة التالية:"ولدت مسيحياً ثم إني في الثامنة عشرة من عمري أصبحت ملحداً بسبب بعض الاعتراضات العقلانية على فكرة الله في المسيحية، بقيت ملحداً لمدة عشر السنوات التالية، قرأت تفسيراً للقرآن في سن الثامنة والعشرين فوجدت فيه إجابات متماسكة ومنطقية لأسئلتي، وهذا الأمر دفعني للإيمان بالله عن طريق الإسلام من خلال قراءتي للقرآن، وهكذا أصبحت مسلماً" ويؤكد أنه لم يعتنق الإسلام تأسياً بقدوة أي من أصدقائه المسلمين، فقد أمضى سنوات وهو يشهد كيف أن بعض من يدعون أنهم مسلمين متدينين يمكن لهم أن يغامروا بدينهم في سبيل مكاسب دنيوية،لم تكن حياته في أمريكا مريحة له فهو يعيش في ضيق بسبب دينه، وكان يحلم بالسفر إلى بلد مسلم يحترم دينه وعقيدته، وأتيحت له فرصة عمل كأستاذ جامعي في السعودية فسافر متفائلاً سعيداً دون أن يحمل معه رؤية رومانسية أو يتوقع العيش في مدينة فاضلة، فهو يبحث عن السلام ومكان تحترم فيه ديانته، لكن لأحلامه بعد عام من العيش في السعودية ذبلت وماتت ولم يستطع التأقلم أبداً، بل شعر وكأنه يختنق روحياً في السعودية وأن الحيوية نضبت من إيمانه، وكأن الإسلام في السعودية – حسب تعبيره - قد توقف عن أن يكون قوة للتغيير الشخصي، إذ وجد الحركة الدينية هناك تتجه نحو ماض مثالي لم يستطع أن يكون جزءاً منه، وأن هذه التوجهات مبنية على تفسير للإسلام سرعان ما بدأ يفقد الثقة به، وتأكد لديه أن ليس له من بد إلا أن يكون أمريكياً، فتربيته الأمريكية /الغربية، وطريقة دخوله في الإسلام المبنية على التساؤل نابعة من هذا التكوين، بينما قيل له هناك إن الأسئلة التي يطرحها والطريقة التي يتبعها في التحري عن الأشياء خطيرة وتؤدي إلى البدعة والهرطقة، وأصبح يشعر أن العام الذي قضاه في السعودية أشبه بسجن على روحه، حتى العزاء الذي كان يمني به نفسه وهو الحج بدأ يتلاشى، فلم يكن يفكر في شيء في بداية قدومه سوى الحج، ومع اقترابه فقد الحماسة له، ولم يعد لديه سوى أداء واجب، وشرع يحكي مفردات رحلة الحج ويسجل ملاحظاته، ففي وسط زحام وحر شديدين كانت وجوه معظم الناس تعلوها الطمأنينة والسعادة، لقد كان هدف الجميع مرضاة الله ولولا هذا الهدف –يتساءل- كيف سيكون الموقف لو كان هذا الحشد في مكان آخر، وقد صادف أنه كان مريضاً أثناء الحج، ويزيده الناس قلقاً بأسئلتهم المتكررة، فقد سئل أكثر من مئتي مرة هل أنت أمريكي؟ وكيف أسلمت؟، وجوه الناس كان مختلفة، أعينهم تنهمر بالبكاء، ولم يكن لديه من تفكير وقتها بغير يوم القيامة، أمضى ثمانية أيام في الحج أدى فيها الشعائر بدقة متناهية، لكنه بقي لديه شعور بالإحباط والنقص من أن شيئاً هناك كان يفتقده، وشعر أن صبره قد نفد ولم يعد يفكر بشيء غير العودة إلى أمريكا، وعندما ركب الحافة التي ستقفل به من الحج كان يشعر بالضيق وانزوى فيها لا يريد الحديث مع أحد، لكن عاملاً من بنغلاديش – اسمه أحمد -كان معه ولم يتركه لراحته، فسأله بأدب جم عن جنسيته وكيفية إسلامه، فأجابه جفري بجفاء عما سأل ثم استدار عنه، لكن البكاء يغلب على هذا العامل ما استثار جفري للتعرف عليه ودار بينهما حديث بسيط، فربط ذاك العامل بين أذان إبراهيم بالحج واجتماعهما كإخوة في الله أمريكي وبنغلاديشي، وكان هذا الحديث مفتاح المشاعر لدى جفري الأمريكي، فشعر بالخجل وأوشك على البكاء، وأدرك ما كان غائباً عنه في الحج وهو مشاعر الأخوة والمحبة التي يأمر الإسلام بها أتباعه، لقد عبر جفري لانغ عن موقفه بقوله:" نتيجة لبعض الأحداث عاثرة الحظ التي وقعت فيها خلال عامي المنصرم، ونتيجة للصدمة الثقافية التي أصبت بها، فقد سمحت لي نفسي كي أنزلق في عنصريتي وشوفينيتي الثقافيتين، فقد سمحت لنفسي أن أشعر بتفوقي على المسلمين من حولي وأن أبتعد عنهم لدرجة أنني في النهاية شعرت أن حجتي أصبحت شعيرة خاصة في الوقت الذي يفترض أن تكون العكس، لقد كانت كلمات أحمد الإلهامية هي التي أرتني أخطاء الطرائق التي كنت أنتهجها، فقد عرفت الآن أنه كان بإمكاني أن أستفيد الكثير من عامي هذا في الشرق الأوسط، وأن أستفيد بشكل أكبر من هذا الحج، ولكنني سمحت لتكبري أن يسيطر على نفسي، شعرت وكأن علي أن أعيد الحج من جديد، لأن أحد أهم العناصر الأساسية في الحج – وهو محبة إخوتي في الإسلام – كانت غائبة عني أثناء أداء الفريضة" .
لقد كانت هذه النتيجة هي آخر المطاف في رحلة جفري، وهي تؤكد دقة وصواب مسلكه التأملي والنقدي الصريح مع ذاته والآخرين وفي فهم الدين بشكل خاص، وهو مسلك لا يرضي الدعاة التقليديين والمطوعين الذين يحلو لهم تبليغ الأوامر دون وعي بمقاصدها وقبول العقل والضمير لها، إن رحلة جفري في الحج تجسد رسالة مكة الإنسانية، وتجربته في الإسلام تجسد عالمية الإسلام وقيمه ومبادئه وبعده الإنساني، هذا الأبعاد التي لا يمكن أن تصل إلى الناس من خلال سلوك المسلمين الحالي فهم أبعد الناس عنها، إنما هي قيم ذوقية يمكن لأي متأمل أن يعيها.
تمسك جفري بالإسلام وبكونه أمريكياً في آن واحد مع رؤيته النقدية الحادة، يفسر لنا أين يكمن الخطأ في العلاقة بين أمريكا والإسلام، لقد خرج جفري من السعودية غير مرتاح لثقافتها وعاداتها لكنه لم يعز ذلك إلى خطأ سعودي بقدر ما هو طبع أمريكي فيه، لقد وضع يده على مكمن الداء في موقفه النقدي وهو خلط الدعاة المسلمين بين عاداتهم وبين الإسلام، فثمة فرق بين قيم الإسلام العالمية التي يمكن أن تتنـزل في كل مكان وبين الثقافات المحلية التي قد تتفق وقد تختلف مع الإسلام، فقد أكون مسلماً في ديني وقيمي وأمريكياً في نمط حياتي فيما لا يتعارض مع إسلامي، لقد قدم جفري من خلال تجربته حلاً وسطاً في العلاقة بين أمريكا والعالم الإسلامي، تلك العلاقة التي لا يستفيد منها أي من الطرفين لأنها مبنية على أسبقية التناقض لا على قصدية الفهم، فالأمريكي يريد العالم كله أمريكياً، والمسلم التقليدي يريد مسلمي العالم مثله في أفكاره وعاداته فضلاً عن غير المسلمين، وتغيب قيم الأخوة والرحمة في الإسلام ونداء إبراهيم عليه السلام الذي جمع على بساط من المودة بين أمريكي وبنغلاديشي، فهل نستعيد نداء إبراهيم في جمع بني الإنسان على قيم الأخوة والرحمة، ذاك هو درس الحج ورسالة مكة، ولن تغني رحلة أمريكي في الحج عن قراءة تجربته في الإسلام . 
 

 
 

 

 

08-01-2006 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=471