/

 

 

الإسلام في عالم متغيّر

عزيزة السبيني

 

 لا يمكننا اعتبار خطاب التجديد والإصلاح وليد الأحداث المتسارعة التي عصفت بالعالمين الغربي والإسلامي، وتعاظمت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول.. فدعوات الإصلاح والتجديد نسبت إلى محمد عبده، وعلي عبد الرازق وغيرهم كثير، في القرن الماضي، إلا أن هذه الدعوات ظلت قاصرة على فئة نخبوية، أي أنها لم تتحول الى عمل مؤسساتي واسع. 

ومع التحولات الحضارية النهضوية المتسارعة التي شهدها العالم، وجدنا بعض الحكومات في العالم العربي، قد دأبت على تبني هذا الخطاب، إلا أنه وبعد أحداث أيلول تحول هذا الخطاب من مطلب داخلي إلى مطلب خارجي، وقرار سياسي!!. 

وكتاب (الإسلام في عالم متغير) يدرس فيه مجموعة من الباحثين والمفكرين العرب كيف تحول هذا الخطاب إلى موضوع اهتمام كل الاتجاهات الفكرية والدينية، محاولاً تفسير كيفية تحول الحديث بعد أيلول من حديث عن الإرهاب، إلى حديث عن إصلاح العالم العربي، وتجديد الخطاب الديني، ليدرس جدل الداخل والخارج، ومفهوم التجديد المطلوب بحسب الاتجاهات المطالبة به، وكيف تحول التجديد من مطلب للإصلاحية الإسلامية إلى مطلب للإصلاحية الأميركية، ومصير مشروع التجديد الإسلامي وكذلك مصير المشروع الأميركي، معتمداً على الجدل الديني والسياسي. 

وفي سؤال البحث عن إطار تفسيري للسياسة الأميركية يرى الباحث معتز الخطيب أن زوايا مقاربة الحدث، وتفسيراته تنوعت من الديني والسياسي، إلى الحضاري والثقافي ـ النفسي، والبنائي، ولكنه يبدو أن الملمح ا لثقافي ـ الديني طاغ في تحليل الحدث ورمزيته، على الأقل من الرؤية الغربية، وتحديداً الأميركية، من الحديث عن "الفاشية الإسلامية" و"الأصولية الإسلامية" و"الإرهاب الإسلامي" مروراً بالسؤال الأميركي: لماذا يكرهوننا؟ الأمر الذي يحيل المسألة الى عداوة للعالم الحر، كما عبر بوش الابن مراراً، وانتهاء بالممارسات الأميركية حول "نشر الديمقراطية في البلدان العربية والإسلامية" وتأهيل المسلمين ثقافياً ليكونوا ديمقراطيين، تغيير مناهج التعليم لنشر ثقافة التسامح والحرية.. وإن طغيان الملمح الثقافي ـ حسب رأي الباحث ـ ربما يكون نتيجة سيادة المنظور الثقافي في التحليل السياسي في ظل ا لعولمة، والحديث عما سمّي "صراع الحضارات" حيث يتم التركيز على دور الأفكار والقيم في التفاعلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ الأمر الذي أوجد تحولاً في سؤال التجديد الديني من مطلب داخلي تجسّد على يد "الإصلاحية الإسلامية" من الاصطدام بالاستعمار، وعلى أساس الاشتباك مع العصر على قاعدة الإحساس بحركة التاريخ، ووعياً بالفجوات الماثلة في المعرفة الدينية، تحول إلى مطلب للاستعمار الجديد ليغدو خطاب التجديد إرغاماً أيديولوجياً بعد أيلول يشكل "الإرهاب" وحسابات الأمن القومي الأميركي زاوية مقاربته. 

ويرى الخطيب أن المفهوم ا لمركزي الذي يصلح للمقاربة من زاويته هو ما ولده الحدث نفسه "الإرهاب" والذي سوغ انطلاق الحرب عليه، والتي كانت عنواناً لكل الممارسات الأميركية بدءاً من الحرب على أفغانستان والعراق وصولاً الى نشر الديمقراطية وتجديد الخطاب الديني وتغيير المناهج.. هذا المفهوم غير المحدود، والمرن لدرجةزاد فيها الخلط حتى تحمل "المصطلح" أكثر مما يحتمل معناه، الأمر الذي جعل من الإشكالية تتخطى حدود الديني والثقافي والسياسي، الى الوطني والقومي والعقيدي حين يشمل الإرهاب كل فعل إسلامي بخاصة، وفلسطيني مقاوم دفاعاً عن النفس والأرض.. هذه السياسة تفرض على المتضررين منها التعامل معها برؤية مركبة، فلا يكفي النظر في حدود "الأمن القومي الأميركي" ومتطلباته، بل لابد من استعادة عقيدة "التهديد الإسلامي" الكامنة مسبقاً في مخيلة الرأي العام الأميركي، والغربي، والمشخصة في أحداث أيلول وخطاب القاعدة، وفي تهديد وصول الحركات الإسلامية إلى السلطة، وكذلك حضور حلم "الإمبراطورية الأميركية" المزدوج المقاصد في الشرق الأوسط ببسط السيطرة على أرضه باعتبارها قلب العالم من بداية التاريخ وحتى حاضره، ويمد يده إلى مكامن البترول، وحتى حينما تحولت "الحرب على الإرهاب" من نيويورك الى كابول، ثم من كابول إلى بغداد، كانت هناك أحوال إنسانية، وصراعات سياسية، ومطالب إمبراطورية، وضرورات بترولية، ولوازم انتخابية، تقف وراء السياسة، الأميركية وحربها....!! 

وفي السياق نفسه يرى الباحث عبد الرحمن الحاج أن التجديد والإصلاح الديني الإسلامي لم يعد أمراً إقليمياً يخص العالم الإسلامي وحسب، فمنذ أحداث أيلول أصبح جزءاً من اهتمامات السياسة العالمية وقضاياها، بعد أن زُج الإسلام في وسط الأحداث، ووضع بشكل أو بآخر تحت سطوة "عصا الإرهاب" الأميركية، الأمر الذي وضع المسلمين في حالة دفاع عن النفس. 

ويرى الحاج أنه من الخطأ تصور أن الخطاب الديني لم يدخل في حركة تجديد وإصلاح منذ أمد طويل، فقد انطلق التجديد الديني على قاعدة الإحساس بحركة التاريخ والضرورة التاريخية، وعلى أساس الشعور بفجوات في المعرفة الدينية، ورغبة في القبض على إيقاع الحياة المعاصرة دون أن يؤدي ذلك إلى خدش الإيمان أو مفارقة العصر نحو تاريخ موغل في القدم. ولكن لعبت حركة الثقافة والسياسة في العالم دوراً سلبياً في نموه، وتطوره، ومع ذلك فإن حركة الإصلاح الفكري التي كانت قائمة وبمختلف مراحلها تدل على محاولة دؤوب لإقامة علاقة سوية مع العصر.. غير أن الصراع الأيديولوجي بين الإسلام ومختلف التيارات والمذاهب العلمانية أدى شيئاً فشيئاً نحو "وسواس" الهوية، التي عطلت بموجبه المشاريع التجديدية و الإصلاحية في الفكر الإسلامي لصالح الدفاع عن الهوية فانقلب كثير من المفكرين الإسلاميين الى مفكري هوية، وجاءت أحداث أيلول وما أفرزته من دعوات، والخوف من أن يكون اجتماع رغبات الأميركيين مع رغبات بعض الأنظمة ورغبات "الأعداء" الأيديولوجيين التقليديين دافعاً جديداً للخطاب الإسلامي الجديد لكي يعود إلى الظل، إلى قمقم الدفاع عن الهوية، والتوقف عن التطور من جديد، وحسب رأي الباحث فإن مستقبل التطور في هذا الخطاب (تسارعاً أو بطئاً) مرهون بمدى استقلاليته عن الفعل السياسي وانفراج قضية الهوية أمامه. 

في حين وضع الدكتور عبد الرحمن حللي التجديد الديني ضمن خارطة الاهتمام الغربي والأميركي على وجه الخصوص، فالأمر لم يعد شأناً عربياً أوإسلامياً، إنما غدا ذا بعد عالمي، وتحديداً بعد نشوء ظاهرة التطرف، التي بلغت أوجها مع أحداث أيلول. 

وفي إطار ردود الفعل على الحدث برز الإرهاب رمزاً للعدو الذي يقف وراء ماجرى، وطرح التطرف الإسلامي عنواناً وحيداً لهذا الإرهاب، باعتبار ماله من سوابق ـ حسب زعمهم ـ وما يراد منه أن يكون في المستقبل عدواً بديلاً يبرر تعاظم القوة ومدخلاً لإحكام السيطرة على العالم، ولاسيما أن الحدث جاء في ظل حكومة أميركية يحمل قادتها رؤى دينية متطرفة ساعدها الحدث الأيلولي على ترويجها، وتطويرها، فجاءت ردود الأفعال جاهزة من جعبة تلك الأفكار. 

وأشار د. حللي إلى أن التطرف المستند إلى خلفية دينية إسلامية هو حقيقة موجودة يعاني منها المسلمون قبل غيرهم تسيء للإسلام أكثر من إساءتها لغيره من الديانات والانتماءات. 

وإن أي تفكير جدي لحل ظاهرة التطرف يشترط وعياً ذاتياً بضرورة تجديد العقلية الإسلامية القائمة ونظرتها للحياة والعالم، تجديداً لا حسب الطلب الأميركي والغربي كما هو معلن، إنما من خلال فهم النصوص القرآنية وقوانين الحياة التي تشتمل عليها، وما تبين من سنن إلهية تحكم الحياة والكون، وهذا ما يحتاج إلى مؤسسات علمية تقوم به وفكر موحد غير محدد بجغرافية أو مذهب معين. 

ورأى الدكتور رضوان زيادة أن الإدارة الأميركية استثمرت أحداث أيلول لتنفذ برنامجها الخاص ليس بطريقة الإملاء وإنما عبر الحوار وتعزيز الشراكة بشكل مباشر أحياناً، وغير مباشر أحياناً أخرى، بين الرؤيتين الغربية والإسلامية للعالم. وبرز من بين هذه الدعوات بيان الستين مثقفاً ومفكراً أميركياً الذي حمل عنوان (من أجل ماذا نحارب؟ رسالة من أمريكا) الذي دافع وبشكل رئيسي عن القيم الأميركية في المجتمع والأسرة والدين والاقتصاد، ويقود حواراً مهماً حول جميع هذه القضايا في الولايات المتحدة والعالم. وبالرغم من أن البيان قد صيغ بشكل رئيسي لتبرير الحرب الأميركية على أفغانستان بوصفها حرباً عادلة، إلا أنه في تعليله لجأ إلى توظيف "القيم الكونية" بوصفها ملجأ شرعياً ـ على الجميع أن ينضوي تحتها بل إنه يخاطب المسلمين مطالباً إياهم بالوقوف إلى جانبهم لمجابهة الأصولية الإسلامية، هذا البيان كما ذكر د. زيادة فتح باباً ثرياً للجدال حول كونية القيم وعالميتها، فهو ينطلق من مجموعة من المبادئ الأخلاقية الموجودة لدى كل الشعوب دون تمييز كحرية الإنسان، وحق اختيار الدين الشخصي، وإدانة القتل كمبدأ لأنه مناف للأديان جميعها، وقد اتفق مع أصحاب البيان الكثير من المثقفين العرب والمسلمين الذين يرون أن المبادئ الكونية التي يبشر بها المثقفون الأميركيون قد أرساها الإسلام قبل أربعة عشر قرناً، وكذلك المثقفون الألمان الذين أكدوا على اتفاقهم حول الاشتراك في المعايير الأخلاقية المتضمنة احترام الكرامة الإنسانية، بغض النظر عن الجنس أواللون أو الدين. 

وخلص الباحث إلى أن هناك اتفاقاً في الرؤية، لكنه وجد اختلافات شاسعة في تطبيق هذه الرؤية، ضمن الثقافتين الأميركية والأوروبية.. ويبدو أن الصراع على القيم في جوهره هو اختلاف على المصالح والرؤى وامتلاك الأفضلية، وأن التفوق الحضاري الذي يشمل تفوقاً فكرياً وتكنولوجياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً سيفرض حتماً تفوقاً قيمياً لصالحه. 

ويذهب الدكتور أبو يعرب المرزوقي الى أن أحداث أيلول ومانتج عنها من تحميل المسلمين مسؤولية الإرهاب العالمي، قد حجبت الرؤية عن أهم قضية تعترض المسلمين في سعيهم لتحقيق الوحدة الإسلامية،ووحدة العقل الإسلامي. وللبحث في جوهر هذه الوحدة عرض الدكتور المرزوقي الحلول ذاتها التي عرضها ابن خلدون والمستوحاة من القيم الإسلامية الحقيقية، والتي يمكن تطبيقها على وضع العالم الإسلامي المعاصر.ويرى المرزوقي أنه لا يمكن لأحد أن يشك مهما كان متفائلاً أو رافضاً للتشاؤم في أن الأغلبية الساحقة من شعوب الأمة الإسلامية واقعة في قبضة القهر، ذاتياً كان أم أجنبياً، وأن العسف لايتوقف عن النيل منها منذ القرون الوسطى، ولابد من علاج هذا القهر والعسف لئلا تلغى معاني الإنسانية.. فالعرب جميعاً غير قادرين على بسط أيديهم حتى في أوطانهم لذلك تمكن الأعداء من تشتيت شملهم وتقسيمهم إلى دويلات ضعيفة عاجزة عن تحقيق شروط القيام المستقل، ومن ثم عجزهم عن تحقيق شروط المناعة والنمو الاقتصادي والحضاري، لذلك فلا نستغرب إذا اعتبر رجال الإصلاح والنهضة والوحدة رهينة إصلاح النظام السياسي والاجتماعي. من هنا كانت دعوة الدكتور رضوان زيادة إلى مسار مختلف للديمقراطية في المجتمعات العربية والإسلامية وإلى ابتكار نموذج للديمقراطية منسجم مع سياقاتها التاريخية والاجتماعية من أجل تحقيق حراك سياسي واجتماعي يفسح المجال لمشاركة أوسع، وأكثر عمقاً بين الشرائح والفئات المختلفة. 

--------------------------------------

الكتاب: الإسلام في عالم متغير:سياسات الإصلاح الإسلامي بعد 11 أيلول 
المؤلف: مجموعة من الباحثين والمفكرين 
الناشر: دار الفكر بالتعاون مع الملتقى الفكري للإبداع ـ دمشق ـ 2005.

 

 

 

02-03-2006 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=472