/

 

 

الفلسفة العربية في «نظام العالم» لبيار دوهيم

عبد الرحمن حللي

في ظل غياب فلسفة عربية معاصرة قادرة على مقاربة الأسئلة الحضارية الكبرى، وفي ظل سيادة القراءة الأيديولوجية لتاريخ فلسفة الأفكار في الحضارة العربية يبدو من الأهمية بمكان التركيز على تكريس تقاليد علمية في دراسة الفلسفة والبحث في الأنساق الفكرية العربية والعالمية نظراً لكون معرفة تلك الأنساق شرط أساسي للبناء المعرفي الذي هو تراكمي بالضرورة، ولا بد للباحث في أي اختصاص من الإلمام بنسقه المعرفي والتأسيس عليه.
ضمن إطار البحث في أنساق التفكير الغربية يبرز كتاب بيار دُوهيم Pierre Duhem (1861-1916) "نظام العالم" الذي يعالج فيه نشأة الأنساق التفكيرية في الغرب، ويُعتبر كل من اشتغل بالأنساق الفكرية مديناً لأعماله، إذ يتميز كتابه بمعلومات تاريخية وفلسفية على غاية الدقة مما أضفى على كتابه وضوحاً يرجع إلى متانة التفكير.
ومن أهم ما فيه اهتمامه بمنزلة المؤمنين وموقفهم إزاء الموروث الفلسفي وإجابتهم عن الأسئلة التي كانت تواجههم في المقاربة بين عقيدتهم وأوامر العقل التي يستدل بها الفلاسفة، إذ لا يمكن لأي دراسة للأنساق الفلسفية من بيان دورهم فيها، يوضح ذلك دوهيم بقوله: "لا يمكن للمؤرخ أن يفهم جيد الفهم هذا الازدهار الذي صار عليه العلم المتخلص من الأرسطية خلال العصر الوسيط إذا لم يذكر الضربات التي زعزع بها علم الكلام اللاهوتي جدران السجن المشائي"، ويرى أن أقدم الأنساق الفلسفية لم تكن بحوثاً ضيقة الحدود هدفها حل مسألة دقيقة أو خاصة بل هي تأليفات واسعة يحاول أصحابها فيها أن يحيطوا بنظرة واحدة بالإله والإنسان والطبيعة، فبدأ حكماء اليونان ببناء أنساق تشمل العالم كله.
ويتابع حديثه عن المشائية والأديان والعلم، ويفصل الحديث عن مصادر الأفلاطونية المحدثة العربية قبل أن يتحدث عنها والقضايا التي أثارتها ليختم في الفصل الثالث بالحديث عن علم الكلام الإسلامي وابن رشد مقارناً بينه وبين الغزالي ومفصلاً حول مكانته الفلسفية وتأثيرها في الفكر العربي والغربي، وأبرز ما تتجلى به خصوصية الكتاب رؤية المؤلف في مقاربته للأفلاطونية المحدثة العربية ولابن رشد بالخصوص حيث ينتقد بقسوة كتابات رينان الخاصة بالفلسفة والإلهيات العربية الإسلامية، ومما يزيد الكتاب أهمية استشهاد المؤلف بالترجمات اللاتينية لآثار المؤلفين العرب والمسلمين.
وكجزء من تحريه الصرامة النسقية الصريحة في الكتابات الفلسفية وغيرها يأتي اهتمام أبي يعرب المرزوقي بترجمة القسم المتعلق بالفلسفة العربية من كتاب نظام العالم تحت عنوان "مصادر الفلسفة العربية" وإعادة طباعته من جديد لما له من أهمية في دراسة تاريخ الفلسفة العربية ومكانتها ضمن نسق التفكير الغربي، وأهمية ترجمته -كما يرى روجي ارنالداز في تقديمه للترجمة العربية- تناسبها مع طبيعة النص الأصلي من حيث الوضوح والإيجاز القريب من الأسلوب الكلاسيكي، كما حرص المترجم على إيجاد مقابلات للعبارات والتراكيب الفرنسية، مقابلات واضحة على نسق الأساليب العربية.
إن أهمية الكتاب أنه يلخص للقارئ تاريخ الفلسفة العربية، وصلتها بالفلسفة اليونانية من جهة وأثرها في الفلسفة الغربية من جهة أخرى، فيمكن للقارئ أن يلاحظ بدقة طبيعة الموقف الفلسفي والكلامي العربي من الفلسفة اليونانية تأثراً أو نقداً لها، كما يمكن أن يدرك القارئ في ثنايا الكتاب طبيعة التأثير العربي الإسلامي في الفلسفة الغربية وأين يتجلى ذلك التأثير ومن هم مراكز الثقل من الفلاسفة العرب في ذلك، فهو كتاب يمكن وصفه بالموضوعي والمنصف لذلك التاريخ وهذا شأن أي دراسة لنسق الأفكار في العالم، وإعادة نشر الكتاب تسهم في عرض وجه آخر للفلسفة العربية لا تقدمه المقاربات العربية لتاريخها. 

ـــــــــــــــــــــ
الكتاب:مصادر الفلسفة العربية
تأليف: بيار دوهيم، ترجمه: أبو يعرب المرزوقي
طبع: دار الفكر- دمشق 2005
 

 

 

 

30-06-2006 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=476