/

 

 

الباحث والناقد الرصين لأصولية الفكر التقدمي العربي

عبد الرحمن الحاج

«وقفت أمام قبر النبي محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) فبكيت» هذه العبارة الأولى التي قالها لي الربيعو عندما جئت لزيارته بعد عودته من الحج قبل أكثر من عامين، وعقَّب - كما لو أنه يخشى من تهمة «التدين» التي لا يحبذها البتة المثقفون الحداثيون - قائلاً: «أنت تعلم أننا تربينا على حبه منذ لحظة ولادتنا، إنه في داخلنا جميعاً، لم أستطع تمالك نفسي أمام قبره والله... فبكيت»!

هذه العبارات ربما تشير بكثير من الاختصار والتركيز إلى موقف تركي الربيعو من الإسلام كدين تراث، وعندما ذاع بين المثقفين السوريين أن تركي الربيعو أصبح «الحاج تركي» بعد أن أدى مناسك الحج بدعوة من وزارة الحج والعمرة، ثار المثقفون السوريون ضده. حدثني مرة في «مقهى الروضة» الشهير (في دمشق) أن «تقدميينا (يعني من السوريين) لم يستطيعوا أن يصدقوا أنني أديت مناسك الحج! هم لديهم موقفهم من الإسلام كدين، أنا بالنسبة لي الأمر مختلف جداً، الإسلام هو ثقافتي وثقافة الأمة»! قالها بشيء من السخرية والمرارة.

كتب الربيعو دراسات خاصة بالأنثربولوجيا، واهتم بالأسطورة الدينية في المجال الإسلامي على وجه الخصوص، وقدم دراسة نقدية رصينة مهمة للغاية انتقد فيها مشروع الأنثربولوجي السوري فراس سواح وحاول تفكيك أطروحته الأساسية، وكما هو معروف عن الربيعو فإنه قارئ نهم جداً لما يكتبه غيره، ويهتم بشدة بالكتابة النقدية والتعليق على أفكار غيره، ولم يكن يعني ذلك بالضرورة أنه لا يملك أطروحته الخاصة، فكتبه دالة على ذلك، لكنه على ما يبدو معني دوماً بالإصغاء وفهم الآخرين، حتى أنه غالباً ما يبدأ مقالاته بعبارة شديدة الدلالة في هذا الموضوع يقول فيها: «في كتابه الموسوم كذا...»، وينطلق بالاتكاء على معرفته بما قاله الآخرون، قلت هذا لأن تركي الربيعو بدأ كتاباته عن الإسلام بكتابيه: «الإسلام وملحمة الخلق والأسطورة» (1992) وكتاب «العنف والمقدس والجنس» (1995)، ثم كتابه: «الإسلام والغرب: الحاضر والمستقبل» الصادر في العام 1998، قدم فيها رؤية انثربولوجية تتعلق بالسيرة النبوية والثراث الإسلامي، وقد أثار هذان الكتابان موقفاً سلبياً ضده من قبل الإسلاميين وبعض المتدينين. وذات مرة كتب أحد الباحثين الإسلاميين في أطروحته للدكتوراه عن الفكر العربي وقضية التاريخانية معتبراً الربيعو من «الملحدين»! قلت لتركي ذلك في ندوة جمعتنا بدعوة من دار الفكر مطلع عام 2006، فعلق: «هذا رجل لا يفهم، كيف يصير واحد مثله باحث؟!». لم يكن يرى تركي الربيعو في دراساته الإنثربولوجية على أنها موقف من الإسلام، بل على أنها مساحات إشكالية في المعرفة يجب البحث فيها، فالمثقف كما قال لي مرة: «هو الذي يعرف كيف يجد الإشكالية ومنطقة الفراغ فيها».

على أية حال لم ينجُ الربيعو من نقد الإسلاميين على رغم أن الرجل لا يرى في نفسه كمثقف أنه على مسافة من الإسلام، وأن شرط كونه مثقفاً أن يكون له موقف سلبي من الدين.

في المقابل وجه الربيعو نقداً لاذعاً للفكر التقدمي العربي في كتابه «خيارات المثقف»، و «أزمة الخطاب التقدمي العربي في منعطف الألف الثالث» (كان قد وعدني بنسخة منه، ولكن الأقدار سبقته إلى المنية)، فمن وجهة نظره أن هذا الفكر (العربي منه على وجه الخصوص) ليس إلا محض أيديولوجيا يصعب عليها فهم شيء، وخصوصاً «أعداءها»، لم يكن تركي جارحاً إلى ذلك الحد الاستفزازي الذي تتسم به كتابات الأصوليين من كل الفرقاء، فقد كان دوماً باحثاً رصيناً يحافظ على توازنه على مسافة معقولة من الجميع.

صحيح أن «البدوي الطائي» - كما يعرف بنفسه في كثير من الأحيان مازحاً - كان قد دخل في سجالات قومية مع الأكراد السوريين، وخسر أقرب أصدقاء عمره بسبب موقفه من التطرف القومي الكردي، إلا أنه لم يكن متطرفاً فعلاقاته الاجتماعية وصلاته الشخصية الواسعة بالمثقفين والمفكرين العرب والأكراد لا توحي بهذا التطرف، والطريف في الموضوع أنه استدعي ذات مرة لأحد فروع الأمن بتهمة الدفاع عن الأكراد! وللذكرى فإن آخر ما نشره الربيعو كان عن القضية الكردية في «الجزيرة نت» تحت عنوان «الأكراد وتقرير بيكر- هاملتون» (3/1/2007) قال فيه: «إنها لعنة التاريخ كما يقال، فدروب كردستان دائماً كانت ضيقة وعرة وتفضي إلى طريق مسدود، وجبالها الشديدة الوعورة تشهد بدورها على وعورة القضية الكردية وآفاقها المسدودة، فلم تكد تمضي ثلاث سنوات على الاحتلال الأميركي للعراق حتى تكاثرت خيبات الأمل كفطر ذري سام في دروب كردستان، فثمة مرارة بحلق الشعب الكردي من سلوك الولايات المتحدة الأميركية ومن تقاريرها التي تهدد بتقديم الأكراد على مذبح مصالحها الخاصة.(...) في رأيي أن الخيارات التي يملكها الأكراد في حال انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من العراق تفضي جميعاً إلى دروب كردستان الضيقة وطرقها في التبعية، وهذا ما يبرر كل هذا الهيجان البرلماني والإعلامي الذي عاشته كردستان بعد تقرير بيكر/هاملتون. إنها خيارات تجعل من كردستان بلاد الألف حسرة وحسرة كما يقول جوناثان راندل، لكن الحسرة هذه المرة التي نتحسسها في حلق المسؤولين الأكراد والبرلمانيين والأهم الشعب الكردي الذي يشعر دائماً أن النهج الذي تتبعه قياداته قد تفوق بوقعها كل الحسرات السابقة لتجعل من كردستان بلاد الألف حسرة وحسرتين؟».

ربما يفي هذا المقطع الطويل مما كتبه ليشير إلى كيفية نظر الرجل إلى القضية الكردية وأمله في تحويل الأكراد إلى الحضن العربي.

ختم «الحاج تركي» دراساته بكتابه الأخير: «الحركات الإسلامية في منظور الخطاب العربي المعاصر» (2006) يجمع بين حق حركات الإسلام السياسي بأن تفهم فهماً موضوعياً وبين نقد العماء الأيديولوجي للفكر التقدمي العربي الذي لم يستطع كبار مفكريه من الجابري إلى سمير أمين وجابر الأنصاري (ومعظمهم أصدقاء له) وأمثالهم أن «يمرقوا» من نقده، وهو على أية حال يجمع بأسلوب هذا الكتاب وأطروحته والنصوص الفظيعة التي التقطها لهؤلاء المفكرين رؤيته النقدية للفكر التقدمي أساساً، وفي الوقت ذاته يؤكد قرابته من الإسلام التقليدي، وإن لم يكن يحب الأصولية الإسلامية ولا يستطيع التعايش معها.

أياً ما يكن فإن تركي الربيعو هو من القلائل الذين يحرص المرء على الاعتزاز بصداقتهم ويأمل لو أنه لا يسمع خبر رحيلهم أبداً... رحمه الله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
 

 

 

 

30-01-2007 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=484