يلاحظ المتأمل في المسيرة العلمية للكثير من المفكرين مرورهم عبر تحولات ومنعطفات في مواقفهم، تشتد غالباً في آخر العمر، وتتجه هذه التحولات نحو الاعتدال في الموقف من الدين والالتزام الصارم به أحياناً والدفاع عنه، وهذا شأن الكثير من العلمانيين الذين ربما كانوا في مواقفهم متشككين ففضلوا الطمأنينة بالتسليم في آخر العمر طلباً للسلامة، أو أن حيادهم العلمي قادهم بعد تجربة طويلة من البحث والكتابة إلى هذه النتيجة عن قناعة مركزة ومدققة، أما بالنسبة للمفكرين الملتزمين بالدين فإنهم يميلون إلى التشدد غالباً ويتراجعون عما أبدوه من مرونة في عز الشباب والعطاء العلمي، وقلة منهم من يعكسون الأمر ويلتزمون الصراحة والصرامة العلمية فيزدادون جرأة في مواقفهم العلمية لاسيما إن كانوا حذرين عن التصريح بما كان يختلج في صدورهم من تساؤلات ونقد، ومن هؤلاء المفكرين العلامة الدكتور طه جابر العلواني الذي أصدر مؤخراً كتابه "لا إكراه في الدين:إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم"
(الصادر عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومكتبة الشروق الدولية بالقاهرة/2006)، والذي صرح في مقدمته أن أفكاره ترجع إلى عقد ونصف من الزمن لكن الحكمة اقتضت عنده التحفظ على نشرها وهاهو يصدرها في هذا العمر المتقدم خشية أن تدخل في كتم العلم، وقد استغربت عندما قرأت ذلك هذا التحفظ طيلة هذه السنين على نشر موقفه، لاسيما وأنه مع رجال آخرين ساهموا في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي منذ أكثر من ربع قرن وكانت رسالتهم الإصلاح والتجديد في الفكر الإسلامي،
وأشعرني ذلك بجرأة شديدة لدي عندما كتبت حول الموضوع ذاته قبل عقد من الزمان ونشرته عام 2001 (حرية الاعتقاد في القرآن الكريم، المركز الثقافي العربي- بيروت 2001) وتوصلت فيه إلى نتائج لا تقل جرأة عما كتبه أستاذنا العلواني، ورغم التحذيرات من الأصدقاء من عواقب هذه الجرأة وقد تحقق بعضها إلا أن تطور الفكر جعل الأيام تؤكد صواب الفكرة أو مشروعية طرحها على الأقل، وأذكر مما جعلني أتجرأ على الموضوع ما ذكره الشيخ عبد المتعال الصعيدي في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه "الحرية الدينية في الإسلام" - والذي لم يشر إليه الدكتور العلواني رغم أسبقيته في الموضوع وربما لم يطلع عليه، وكذلك آخرون ممن أبدوا موقفاً من حد الردة كمحمد توفيق صدقي وعبد العزيز جاويش وعبد الحميد متولي وغيرهم- ، ففي معرض رد الصعيدي على نقاده في إنكاره حد الردة، أشار إلى استشهاد أحد شيوخ الأزهر بابن حزم في سياق رده، فقال له الصعيدي إن استشهادك بابن حزم قبل عقود من الزمان كان سيجر عليك من النقد أشد مما تنتقدني به مشيراً بذلك إلى سنة الحياة في التطور وتغير المعايير حسب ظروف الزمان المعرفية والعلمية.
أياً يكن فإن رأي الدكتور العلواني يعتبر شهادة علمية مهمة في المسألة، لضلوعه في علم أصول الفقه وقواعد الاستنباط خصوصاً وعلوم الشريعة عموماً، فقد أضاف في كتابه مرجحات لم ترصد من قبل الباحثين في الموضوع قبله وبالخصوص من زاوية المدخل التاريخي للموضوع والتوظيف السياسي للحكم، وينطلق العلواني في مقاربته للمسألة من مداخل عامة يعتبرها منطلقاً لهذه المسألة وغيرها، ويضعها في سياق مراجعة التراث وتنقيته مما علق به من مؤثرات زمانية ومكانية وأثر ثقافة المجتهد في بيئته في ذلك، ويركز بالخصوص على التداخل بين التراثين الإسلامي واليهودي وضرورة الاحتكام إلى القرآن وهيمنته على التاريخ وعلى السنة أيضاً، فمن مخاطر التأثير اليهودي ما سربوه إلى شريعتنا من مداخل الإصر والأغلال ما جعل شريعتهم تبدو في بعض الأحكام أقرب إلى التخفيف والرحمة من شريعتنا القائمة على اليسر ورفع الحرج ووضع الإصر والأغلال، ومنها الحكم المتعلق بالردة .
ومما يناقش به الفقهاء تسميتهم قتل المرتد حداً في الوقت الذي تعتبر فيه الحدود مكفرات بينما لا كفارة للردة، ويضيف إلى ذلك مسألة موثوقية مستند إزهاق النفس بغير القرآن، ويؤول ما يمكن أن يصح من روايات الحديث المرسل – بعد دراسة طرقه- "من بدل دينه فاقتلوه" على أنه بيان نبوي للآية 72 من سورة آل عمران "وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون"، فيكون متعلقاً بردة تحريضية تستهدف المجتمع والنظام وترتبط بمؤامرة اليهود ضد الإسلام.
وفيما يتعلق بحديث " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث.." يعتبر الترك للدين ومفارقة الجماعة من قبيل المقيد الذي تحمل عليه النصوص المطلقة، فيكون الحكم متعلقاً بمن بدل دينه وفارق الجماعة وانحاز إلى أعدائها أو حمل ضدها السلاح وحاول تخريب نظامها فذلك الذي يقتل، ويؤول مذاهب الفقهاء على أنهم فهموا الردة في هذا السياق أي ببعدها السياسي وليس مجرد الردة الفكرية، أما الإجماع المدعى على قتل المرتد فيرى أنه غير معتبر لوجود مخالفة بعض الصحابة ومن بعدهم للقول بقتل المرتد.
وفي سياق تأكيده لخطورة القول بقتل المرتد لمجرد تغيير رأيه وأثر ذلك القول في التوظيف السياسي عبر التاريخ يستعرض نماذج من علماء المسلمين وفقهائهم ممن حكم عليهم بالقتل أو قتلوا بدعوى الردة، وهم من أعلام المسلمين الذين يستشهد بهم، فمنهم: أحمد بن نصر الخزاعي (ت231 هـ) وقد أعدم بحد الردة من قبل الواثق بالله وذلك في إطار الفتنة بمسألة خلق القرآن، ولا يقل الخزاعي مكانة عن أحمد بن حنبل وطبقته، وممن حكموا بالردة أبو حيان التوحيدي، والكيا الهراسي الفقيه الشافعي والمفسر، وابن زرقون المالكي، والآمدي الأصولي والمتكلم، ولسان الدين الخطيب، والحافظ المزي، وغيرهم كثير.
إن النتيجة التي تخلص إليها هذه الدراسة وتؤكدها هي: أن القرآن والسنة بل وفقهنا الإسلامي الأكبر، القائم على كتاب الله مصدراً منشئاً وعلى سنة نبيه – صلى الله عليه وسلم- مصدراً مبيناً: أن الإنسان المكرم المستخلف المؤتمن أكبر عند الله وأعز من أن يكلف ويسلب منه الاختيار، بل إن جوهر الأمانة التي حملها، والتي استحق بها القيام بمهمة الاستخلاف إنما يقوم على حرية الاختيار التامة الكاملة، وبالتالي فإنه لا يمكن أن يقر القرآن المجيد حرية الاختيار ثم يعاقب بتلك العقوبة الصارمة على من مارس تلك الحرية دون أن يعتدي على أحد سواه أو يرتكب أية جريمة أخرى مصاحبة.
أخيراً ..إن مناقشة موضوع حد الردة ما هو إلا نموذج من المواضيع الكثيرة التي تحتاج إلى مراجعة ونقد من منطلق هيمنة القرآن، وقد وعد الدكتور العلواني بإصدار مراجعات أخرى، وإن كان لنا كلمة في الختام فهي التأكيد على أهمية التراكم المعرفي في هذا المجال ورصد ما تم من مراجعات لمختلف القضايا التي تبدو مشكلة، ذلك أن هناك الكثير من الفقهاء والمفكرين أبدوا رأيهم في الكثير من المسائل لكن التاريخ طواهم في ظل أمواج التقليد والثوابت المتزايدة مع الزمن، وحال تحالف السلطة مع الفقه السلطاني دون نشرها أو تكاثرها، في الوقت الذي تستدعى وتستحضر هذه الآراء اليوم من قبل من حال دون انتشارها لتوظيفها في المصلحة الجديدة، من هنا تأتي أهمية المراجعة في ضوء المنهجية المحكمة لا في ضوء الحاجة الزمنية، وهذا ما أكدت عليه هذه الدراسة.