الحقيقة انني توقعت الى حدٍ ما ما سيقوله الفقيه المعروف الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، بيد انني لم أتوقع على الاطلاق ما سيقوله صديقي أبو يعرب المرزوقي. خلاصة ما قاله الشيخ البوطي انه لا تجديد ممكن في أصول الفقه، بل الممكن الانصراف الى تعلم الشريعة لبلوغ درجة الاجتهاد، أي درجة القدرة على النظر في الأدلة (المصادر) والدلالات اللغوية والأصولية المترتبة عليها أو المأخوذة منها بالطريق المباشر، أو بطريق الاستنباط والاستقراء. فالمشكلة لدى البوطي لا تتمثل في قِدَم علم الأصول (علم قراءة النصوص)، ولا في إقفال باب الاجتهاد لأسباب تاريخية وتقنية، بل هو قصور وتقصير المسلمين في استخدام الطرائق والآليات التي وضعها الآباءُ والأجداد لاستنباط الأحكام من النصوص.
أما أبو يعرُب المرزوقي فهو لا يوافق على هذا الرأي، ويرى إمكان التجديد في أصول الفقه، لكنه ينصرفُ بعدها ليس إلى هدم أُطروحة البوطي وحسب، بل وإلى تحطيم أطروحات المجددين من دعاة الاجتهاد، ودُعاة مقاصد الشريعة!
البوطي مشكك منذ البداية، أي منذ أواسط الستينات من القرن العشرين في دعوتين: دعوة التجديد باسم مقاصد الشريعة، ودعوة الاجتهاد باسم الخروج على التقليد وفتح باب الاجتهاد. ولذلك ففي أطروحته للدكتوراه، وهي أطروحة رائدة وقتها حول «المصلحة» أصرّ على النص في العنوان على «الضوابط» أي ضوابط المصلحة بما لا يتناقض مع الكتاب والسنّة أو الإجماع. وحدود الاجتهاد عنده هي الحدود الفقهية القديمة: القياس، باتحاد العلة بين النص المعلَّل والواقعة الجديدة. والأمر الآخر: الاستحسان بلغة الأحناف القدماء، أو المصلحة الراجحة المنضبطة، بلغة المالكية القدامى في الماضي، والشيخ البوطي في الحاضر. وقد كان البوطي بين أوائل من تمرد على منهج السلفيين في الاجتهاد. فقد سمّى دعوتهم «اللامذهبية» إذ كانوا حادّين في التصدي لكل أتباع المذاهب السنية بحجة أنهم «مقلِّدون». وهم مقلِّدون فعلاً تقليداً كلياً أو جزئياً من الناحية النظرية، لكنهم يتغيرون بوعي ومن دون وعي في كل المجالات، بحيث لا يصح القول ببقاء التقليد إلا في العبادات.
لكن ما معنى ما يقوله الشيخ البوطي في الحقيقة؟ هو يقول بخلاف قول الغزالي ( - 505 هـ) الذي ذهب الى أن النصوص تتناهى والوقائع لا تتناهى، ولذا فالاجتهاد عند الغزالي على وجهين: وجه تتغير فيه الأحكام بتغير الزمان، ووجه هو منطقة فراغ تشريعي يُنشئ فيها الفقيه أحكاماً بإذن الله وتوفيقه. أما الشيخ البوطي فلا يرى أن النصوص تتناهى، أي من حيث القدرة على توليد الأحكام لا من حيث القداسة طبعاً. وقد وضع الفقهاء الكبار قواعد لغوية وأصولية لاستنباط الأحكام منها، اتخذت سِمات اليقين. ولذلك فالتشكيك فيها على رغم يقينيتها، خروج على الشريعة، وتخرصات علمانيين وملحدين تحت غطاء الاجتهاد.
والدكتور أبو يعرب المرزوقي يقول ببساطة ان أصول الفقه هي منهج أو مناهج في قراءة النصوص الدينية. والمناهج تتغير بتغير البراديغمات والإبستيمات، ولذلك فالإصرار على أصول الفقه القديمة هو إصرار على الجمود، وظلم للشريعة وللشروط الجديدة لحياة المؤمنين. وهناك بعض الأفكار الطريفة لديه مثل التساؤل عن العلاقة الحقيقية بين الاجتهاد الفقهي والأصول، وهل الفقيه كاشف للأحكام أو مُنشئ لها، وما الفرق بين المنطق الأرسطي والمنطق الفقهي. لكنه لا يملك بدائل، بل هو يسد الطريق على البدائل أو أطروحات التجديد الممكنة: فمقاصد الشريعة لا قيمة لها لأنها لا تنضبط، والبوطي آراؤه غير مفيدة لأنه منضبط، والمنطق الأصولي القديم لا يفيد لأنه غير تجريبي، والمنطق التجريبي لا يفيد لأنه غير مبدئي. وتأملوا النتيجة: ليس أن الشريعة تملك نصوصاً تحتاج الى نهج أو مناهج جديدة في القراءة، بل إن محمداً مات، وخُتمت شريعته، ونحن طليقي السَراح. وهذا في الحقيقة ليس اعتقاد المسلمين ولا سلوكهم.
لكن على فرض صحته أو إمكانه تبقى حقيقة أن النصوص التشريعية وغير التشريعية تحتاج الى منهجية قراءة أو منهجيات، والمرزوقي لا يكاد يقترح شيئاً، بل حتى أسلوبه في الهدم ليس مُجدياً ولا معقولاً. وقد مكّنت هذه العشوائية الدكتور البوطي من العودة للإشادة بالمصالح (وهي بحسبانه: المقاصد متخذة طابعاً فقهياً) والاستشهاد لها بكلام العز بن عبدالسلام (- 665 هـ) في «قواعد الأحكام»، وهو كلام سبق للبوطي أن لم يوافق عليه. يقول ابن عبدالسلام: «الشريعة كلها مصالح إما تدرأُ مفاسد أو تجلب مصالح...». وهكذا قال ابن عقيل (-514 هـ) الحنبلي القديم: حيثما تكون المصلحة فثمة شرع الله. ووافقهما على ذلك الحنبليان الآخران: ابن تيمية (- 728 هـ)، وابن قيم الجوزية (-751 هـ). ثم جاء المالكيان: القرافي والشاطبي. وإذا كان العلاّمة البوطي حريصاً على التقليد الفقهي، وعلى جدية الأخذ بالنص في الوقت نفسه، فلا شيء أقرب من النظر في مسألة التجديد أو إمكانه من هذا المنظار: منظار المصالح. ولست أنكر هنا أن العلاّمة البوطي يراها حقيقة في الاعتبار، لكن ضوابطه شديدة من أجل تحويلها الى «دليل» أو «علة» لإصدار الأحكام، لأنه لا يقول في الحقيقة بوجود منطقة فراغ تشريعي، إذا صح التعبير، يستطيع الفقيه أن يتحرك فيها في المباح والحلال.
ولنستجمع أطراف الموضوع مرة أخرى: بحث الاستاذان محمد سعيد رمضان البوطي وأبو يعرب المرزوقي، مسألة التجديد في أصول الفقه. وهذا موضوع جديد. فقد اعتدنا على قراءة كتب في التجديد الفقهي وليس الأصولي. بيد أن العلاّمة البوطي رأى عدم ضرورة ذلك، بل عدم إمكانه، لأنه يملك أصولاً ومباحث يقينية. وما فهمت رأي المرزوقي في النهاية، لكنه ينقد البوطي بمرارة شديدة.
والذي أراه أن هناك طريقتين ممكنتين لتجديد أصول الفقه: اللجوء الى مقاصد الشريعة، وتجديد مناهج وآليات القراءة، أي قراءة النصوص الدينية. ولا بد من الاعتراف أن الدراسات الكثيرة في «مقاصد الشريعة» ما جلبت جديداً كثيراً، بينما تندد الدراسات في الأصول، وقليلون هم الذين يُقبلون عليها. لقد أشاد الاصلاحيون طويلاً ولا يزالون بالآفاق التي تفتحها المصالح الضرورية أو مقاصد الشريعة، لكنهم ما اجترحوا طريقة تتمكن بها تلك المقاصد من انتاج الأحكام من خلال «فقه المصالح» أو «المقاصد». كما لم يمضوا بعيداً في الاعتراف بها باعتبارها «فلسفة» للتشريع، خوفاً من ظلم النصوص أو تجاوزها. أما علم أصول الفقه فهو علم دقيق ومنضبط، وفيه انتاج كلاسيكي جاد. لكن المنطق الذي قام عليه (المنطق الأرسطي) تهاوى منذ قرن ونصف القرن. فلا بد من قواعد لسانية جديدة، ولا بد من قواعد أصولية وفقهية جديدة.
--------------------------------------
الكتاب: إشكالية التجديد في أصول الفقه
تأليف: محمد سعيد رمضان البوطي، وأبو يعرب المرزوقي.
الناشر: دار الفكر بدمشق
طبعة: أولى 2006 (سلسلة حوارات لقرن جديد).
-----------------------------
(تعقيب)
البروفيسور أبو يعرب المرزوقي
أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية
للصديق رضوان بالغ تقديري واحترامي مع تنبيهه إلى أمرين قد يعني أحدهما أنه لم يقرأ من عملي إلا الرد على البوطي دون الدراسة علما وأني كنت رفيقا بالشيخ إلى أقصى حد ولطيفا في تعليقي على حلوله ويعني الثاني أنه في حالة القراءة بخلاف ما تصورت فإنه يكون قد قرأ بعين الفقهاء الذين لا يزالون يسعون إلى استبداد سلطة القضاء والإفتاء اللذين هما فرض كفاية على سلطة التشريع الذي هو فرض عين كما هو معلوم.
الملاحظة الأولى: كيف يتهمني بأني اكتفي بسد الأبواب دون اقتراح حل بديل في حين أني اعتبرت مؤسستي التواصي بالحق للاجتهاد التشريعي والتواصي بالصبر للجهاد التشريعي عمدتي الاجتماع المدني الحديث المشرع لذاته في كل ما ليس فيه نص حول أصناف القيم الخمسة أعني قيم الذوق والرزق والنظر والعمل والوجود واعتبرت الفقهاء يستشارون في ذلك بوصفهم ذوي خبرة في المعرفة بما فيه نص يمكن اللجوء إليهم لجوءنا إلى ذوي الخبرة علهم يساعدون السلطة التشريعية التي تنتحبها سلطة التواصي بالحق وتحميها سلطة التواصي بالصبر
كما هو شأن كل المجتمعات الحديثة, فقيم المجتمع ليست أمرا مهملا بل هي من أهم معاني الوجود التي يحميها المواطنون بالدفاع عنها وانتخاب من يشرع فيها باسمهم وبمقتضى أخلاق الأمة وهي في هذه الحالة الأخلاق الإسلامية.
الملاحظة الثانية: لما دحضت نظرية المصالح والمقاصد لم يكن القصد التهديم فلا يوجد ما يستحق التهديم والصديق رضوان نفسه يعترف في هذا التقديم بأن هذين المهربين (المصالح والمقاصد) لم يقدما حلولا بل ما ظل الباب مفتوحا لما سماه الخلاء التشريعي في ما ليس فيه نص بل كان قصدي أن أشير إلى أصلي استحواذ الفقهاء من حيث هم سلطة قضاء وإفتاء (قضاء تعبدي بين المرء ونفسه عندما يستشير الفقيه في ما له فيه تحير) على
السلطة التشريعية التي هي فرض عين على كل المسلمين مباشرة في ما يمكن فيه التشريع الجماعي كما هو شأن تشريعات العرف غير المعين نظام تشريعه وهي الأغلب في مجال الذوق خاصة لأن الذائقة العامة تتحدد كما يتحدد الأدب الشعبي من دون مؤلف محدد وبمن ينوبونه تنويبا صريحا بآلية من آليات الانتخاب لكي يشرع باسمهم بمقتضى أخلاق الأمة وهي في هذه الحالة مفروضة أخلاقا إسلامية، كيف إذن يفترضني أهدم ولا أبني؟ هل تراه يريد مواصلة اغتصاب الفقهاء لسلطة التشريع نظيرا لاغتصاب الأمراء سلطة التنفيذ فنبقى بين استبدادين تشريعي باسم القياس على النص القياس الناقل مغالطة لقدسية المقيس عليه إلى المقيس ومن ثم الواضع لسلطة روحية تقوم مقام الكنيسة في الديانة النصرانية وإن بشكل خفي. ولما كان من بين النصوص نص طاعة أولى الأمر وهم العلماء والأمراء بات تأسيس سلطان الفقهاء مقدمة لتأسيس سلطان الأمراء فيكون الاغتصاب الأول فاتحة تأسيس الاغتصاب الثاني. وكذلك كانت الحال طيلة القرون الأربعة عشر التي مرت.
كنت أتصوره من دعاة الإصلاح الحقيقي وليس من القائلين بالقياس الناقل لقدسية المقيس عليه إلى المقيس ومن القائلين بعودة السلطة الروحية الوسيطة في الإسلام عودتها من النافذة بعد أن طردها القرآن الكريم من الباب؟