/

 

 

الشريعة والسلطة في العالم الإسلامي

رضوان السيد

يذكر الكاتب دافعه الأساسي لكتابة الكتاب، وهو يتمثل بالدعوات القوية لتطبيق الشريعة في النصف الثاني من القرن العشرين. وترتبط تلك الدعوات الى حدٍ بعيد بما صار يُعرف بحركات الإسلام السياسي، لكنها لا تقتصر عليها. والمؤلّف ينتهز الفرصة – اذا صحَّ التعبير – لتأصيل المسألة في علاقتها، أي الشريعة، بالدولة منذ القرن الثالث الهجري وحتى مشارف الأزمنة الحديثة. وهو يمضي في ذلك على خطين: خطّ التبلور العقدي والتشريعي للشريعة بما في ذلك تبلور فئة الفقهاء أو المؤسسة الدينية بمذاهبها المختلفة، وخطِّ العلائق المعقدة والمتشابكة بالدولة الإسلامية في أزمنتها المختلفة.
يبدو المؤلّف – وهو باحثٌ متمرسٌ، لكن ليس في المسائل الدينية الإسلامية – حائراً بشأن الظهور الأول للمنظومات الفقهية. وهو يعتمد في فصوله الثلاثة الأولى على المقارنة بين أربعة مؤلّفين: جوزف شاخت، ونورمان كولدر، وباتريشيا كرون، وأميل كيّان، ووائل حلاّق. في الفصلين الأولين يدرس زبيدة «المفاهيم والأصول والتحولات»، و «المؤسسات: المحاكم والقُضاة والمفتين» – ليبدأ في الفصل الثالث – أطول فصول الكتاب – بقراءة علائق الشريعة بالسلطة. والمعروف إنما شاخت وتلاميذه مثل كرون وكولدر، يذهبون الى أن الفقه الإسلامي إن نشأ نتيجة أعراف الأمصار، وأحكام القضاة، والديانات والتقاليد القانونية السابقة على الإسلام في البلدان المفتوحة، وما كان للقرآن أو السنّة في المرحلة الأولى غير تأثير ضئيل. ومع أن المؤلّف شديد الاحترام لتدقيقات نورمان كولدر – التي تؤخر التدوين الفقهي والتقعيد الى القرن الثالث الهجري -، فإنه يعرفُ النقد الجذري الذي وجَّهه كلٌ من وائل حلاق، وهارالد موتسكي، الى شاخت ومدرسته لجهتين: جهة ظهور الفقه والفقهاء (بين أواخر القرن الأول، ومنتصف القرن الثاني)، وجهة علاقة الفقهاء بالقرآن والسنّة. وهو يتفق مع الطرفين في تقدير الدور المحوري الذي أدَّاه الشافعي في «الرسالة» تدويناً وتقعيداً؟ لأنه لا يعتني عناية «كافية» بأمرين مهمين: التدوين الفقهي، والذي ظهر مبكّراً بخلاف ما تزعمُهُ باتريشيا كرون عن الشفوية التي سادت في تلاوة القرآن وتناقل آثار النبي (صلى الله عليه وسلم)، والفتاوى. والأمر الآخر الجدال المبكّر الذي دار بين القُضاة والفقهاء أو الذين مارسوا التدريس والفتوى من دون أن يتولوا منصباً رسمياً، والذي اقتضى التدوين، والاهتمام بالتدقيق والتقعيد والقياس والاستنباط، فيما يشبه احتجاجات المتكلمين في الفترة نفسها. ويستند زبيدة في الفصل الثاني بشأن المؤسسات القضائية الى اميل كيان صاحب المؤلَّف ذي الجزءين في ذلك. والكتاب جيد بالفعل، لكنه مكتوب قبل خمسين عاماً، ويرجع بدوره الى بحوث المستشرقين في مطالع القرن العشرين. وزبيدة أستاذ للعلوم السياسية بجامعة لندن، ومهتم بالايديولوجيات بزوغاً وانتشاراً، ولذلك فهو شديد الحساسية تجاه موقع الدولة ليس في المؤسسة القضائية فقط، بل وفي التشريع أيضاً. ونعرفُ الآن – ومن نصوصٍ مرَّ عليها شاخت وكرون وكولدر وغيرهم مرور الكرام – ان الدولة هي التي أقامت المؤسسة القضائية، لكن الفقهاء (ومن بينهم بعض القُضاة الكبار) هم الذين تحكموا في التشريع، واضطرت الدولة للاعتراف لهم بذلك بعد واقعاتٍ معروفة منذ مطلع القرن الثاني الهجري. أما الفكرة الأخرى، التي يستمدها زبيدة من كيان وكرون وإرنست غلز، لكن بدايةً من هاملتون غب (في بحوثه الأولى عن الماوردي) فتقول إنه ما كانت هناك صلةٌ وثيقةٌ عبر التاريخ الإسلامي كلّه بين مثاليات الفقهاء، وسياسات الدولة وتصرفات الحكام. يعترف زبيدة مراراً خلال كتابه بأن هذه النظرة تبسيطية، لكنه لا يقدّم رؤيةً بديلة. ولنراقب ذلك في فصول الكتاب السياسية.

في أطول فصول الكتاب: الشريعة والسلطة السياسية، عكّرت هوامات باتريشيا كرون وهايندز بشأن «خلافة الله» نظرة زبيدة في البداية بعضَ الشيء. لكن المؤلف ما لبث أن تحرر منها حين قال انه ما بدا منذ أواخر القرن الثاني أن الخلفاء كانوا يرون لأنفسهم مهمةً تشريعيةً ربما باستثناء المأمون، الذي اختلف مع أحمد بن حنبل. لكن الواقع أن المأمون اختلف مع أحمد وأهل الحديث والسنّة ليس بشأن الاشتراع أو الاجتهاد الفقهي، بل بشأن طبيعة القرآن. ومنذ ما قبل المأمون نجد كتباً في الاجتهاد الفقهي ما توقفت بعده بل تكاثفت، حتى أنّ مجاميع السنّة رتبت ترتيباً فقهياً قبل أن تتحول الى موسوعات وتتخذ مبادئ تصنيفية متنوعة. ولذلك فإن المؤلّف يقرر في الاستنتاج النهائي أن الاجتهاد الشرعي الذي يقوم به الفقهاء، ويطبّقه القُضاة استقل عن الدولة في عصور الإسلام كلها، وما صارت اجراءات الحكام أو سياساتهم المدوَّنة جزءاً من التشريع إلا أيام العثمانيين، لكن بعد «أسلمتها»، أي وزنها بميزان الشريعة. لكن العلائق والتمييزات ظلت بالغة التعقيد والتشابك، حتى بعد ثبات المذاهب الفقهية، وبروز أعراف كثيرة ليست اسلامية الأصول. وباب «السياسة الشرعية» الواسع، دليلٌ على ذلك. وكما ضرب زبيدة بمحنة أحمد بن حنبل مثلاً على التوتر بين مرجعية الشريعة والنص، واجراءات الدولة، عاد فدرس بالتفصيل تجربة ابن تيمية القائل بشرعية الدولة وسياساتها الكبرى، والداعي في الوقت نفسه الى اصلاحاتٍ جذرية. وفي حين تابع المؤلّف هاملتون غب في اعتبار الماوردي تلاؤمياً كبيراً (من دون أن يتنبه الى ملاحظة نورمان كولدر الثمينة بشأن تدخله في ادارة الشأن العام، وعدم السماح للسلطة السياسية بالتدخل في الشريعة)، انصرف لقراءة أعمال ابن تيمية قراءةً واسعةً، ليس بسبب تجديده للاجتهاد الفقهي وحسب، بل ولتأثير نموذجه في السلفية والسلفيين المعاصرين. وكما اعتمد على هـ. غب وكيّان بشأن مؤسستي الخلافة والقضاء، اعتمد على كلٍ من مؤمن وهنري لاووست في تتبع حياة ابن تيمية وكتاباته وصراعاته مع الصوفية والقضاة الى نهاية حياته في سجن السلطان الناصر محمد بن قلاون، الذي كان يقدّره ويتبركُ به!

وقد اعتبر المؤلِّف تجربة ابن تيمية ممثلة لعلاقة سلاطين المماليك بالشريعة والمجتمع، فانتقل مباشرةً وفي الفصل نفسه من «السياسة الشرعية» لابن تيمية الى القانون في الدولة العثمانية. وهذه اشارةٌ ذكيةٌ، لأن ابن عقيل الحنبلي وابن قيِّم الجوزية وابن كثير والمقريزي يقيمون توازناً بين السياسة والشريعة، وإن جرت الملاءمة بينهما بالسياسة (الشرعية). ساد العثمانيون في العالم الإسلامي على مدى ما يقارب الخمسة قرون. وفي عهودهم الطويلة تضخمت المؤسسة الدينية الى ما لا نهاية، وصارت جزءاً من الدولة، بحيث مال بعض الباحثين بالاندماج بينهما لمصلحة السلطة السياسية أو سيطرة السلاطين. ولأن الباحث يعتمد في كل جزءٍ من فصول كتابه على مرجعٍ ثانويٍ معيَّن، فإنه اعتمد في وصف علاقة الشريعة بالدولة أيام العثمانيين على البحوث الكثيرة لخليل إينالجك دارس العثمانيات الكبير، مع اشاراتٍ الى آخرين مثل إمبر ويوهانسن وبركس وفاروقي وكفادار وتابر. وخلاصة رأيه بعد تفصيلاتٍ كثيرة (استناداً الى إينالجك بالدرجة الأولى) أن «نموذج» علائق الدين بالسلطة لدى العثمانيين الى ما بعد العام 1700، كان مستمداً من ثلاثة مصادر: تقاليد الشعوب والممالك التركية، وتقاليد المُلك الفارسي، ومساعي وجهود الفقهاء الأحناف. على أن النفوذ الواسع الذي كانت تتمتع به المؤسسة الدينية في المجتمع، لا يعني من وجهة النظر هذه أن الشريعة بمعناها الكلاسيكي كانت مُراعاةً كثيراً، بل كان هناك اهتمامٌ عام بالعدالة، ومحاولة دؤوبة لأسلمة أو شرعنة الاجراءات والقوانين التي تكون السلطة قد اتبعتها.

ولأن دافع المؤلف لتأليف كتابه هذا كان تفحص ماهية الدعوة القوية لتطبيق الشريعة، فإنه بعد مرورٍ على عصر الإصلاح العثماني في فصلٍ باسم: دولنة القانون، انصرف لقراءة مسألة «تطبيق الشريعة» والنقاشات حولها في تجربتين حديثتين: تجربة مصر (تحت اسم: الشريعة في المناظرات والمؤسسات الحديثة)، وتجربة ايران بعد قيام الجمهورية الإسلامية فيها في فصلٍ بعنوان: «سياسة الشريعة في ايران». في مصر درس المؤلّف بسرعة عمل الإصلاحيين، ثم السنهوري وزملائه في مزج الشريعة بالقانون المدني، وصولاً لوصف تجربة الأزهر ودار الإفتاء، ولتطور عمليات الأسلمة للدستور والقانون بعد جمال عبدالناصر، فدعوات وعمال الإسلاميين الحزبيين وغير الحزبيين في الحقبة الراهنة. والطريف هو الاستنتاج الذي يصل اليه زبيدة بشأن مصر، ومؤداه أنه لا يمكن التخلّي عن الشريعة أو الفصل فيها، بل الخلاف في: أي إسلامٍ نريد؟ وهو يعتمد في الفصل الخاص بمصر على برنارد بوتيفو مع اشارةٍ الى أعمال الإسلاميين الذين كتبوا في الشريعة وتطبيقاتها. بيد أن سلوكه في الفصل الخاصّ بإيران، يختلف عن سلوكه في الفصل الخاصّ بمصر. إذ انه في فصل ايران يقرأ الأمر قراءةً وصفيةً بحتةً اعتماداً على كتاب علي أصغر شيرازي (1997) عن الدستور الإيراني الصادر عام 1980.

كتاب الأستاذ سامي زبيدة مؤلَّفٌ شديد الجدية، على رغم اعتماده شبه الكامل على المراجع الثانوية. بيد أن تلك «الاستمرارية» الضمنية التي قال بها في فصول الكتاب (على رغم نقده لأصالية إرنست غلز) تجعل من الصعب فهم الثوران الإسلامي الهائل، وهذا التعطش لتطبيق الشريعة، التي يخيلُ لقارئ أطروحات الإسلاميين أنها انتهت قبل ألف عام!
ـــــــــــ
سامي زبيدة: الشريعة والسلطة في العالم الإسلامي. ترجمة عباس عباس. نشر دار المدار الإسلامي. بيروت 2007

 

 

17-06-2007 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=493