/

 

 

إعادة مقدمات "تنوير العقل الجديد"

عبد الرحمن الحاج

ما يزال تحديث مناهج التفسير وإعادة قراءة القرآن يشكل اهتماماً استثنائياً لدارسي العلوم الإسلامية ومراكز الاستشراق الحديث، وعلى الرغم من اختلاف سبب اهتمام الطرفين بهذه القضية إلا أن اجتماعهما عليها يكسب الأمر أهمية استثنائية من الناحية العلمية والفكرية فيما يتعلق بالقرآن، خصوصاً وأن تحديث مناهج التفسير وإعادة قراءة القرآن كانت موضوع أهم السجالات الفكرية في القرن الماضي، والتي شغلت الرأي العام، بدءاً من "تاريخ القرآن" لتيودور نولدكه، مروراً بـ"الشعر الجاهلي" لطه حسين، وصولاً إلى محمد أركون ونصر حامد أبو زيد ومحمد شحرور، وربما كان يتوقع ذلك محمد عابد الجابري في كتابه الأخير عن القرآن.

ويشكل تنوير العقل الإسلامي وعصرنته هدفاً مشتركاً بين مختلف المعنيين بإنجاز هذا التحديث لمناهج التفسير والقراءة الخاصة بالقرآن، بغض النظر عن اختلافهم العميق في مفهوم "التنوير" و"العصرنة" أو "التحديث"، وربما في هذا السياق أُعيد نشر مقدمات تفسير العلامة محمد الطاهر بن عاشور بشكل مستقل (بعناية: محمد الطاهر الميساوي، دار التجديد، 2006) المعروف بـ"التحرير والتنوير"؛ ذلك أن بابن عاشور هو سليل المدرسة الإصلاحية في تونس، والتي كانت متأثرة إلى حد كبير بآراء الشيخ عبده، بل إن الشيخ ابن عاشور كان قد كُلف من قبل شيخه (عمر ابن الشيخ) بإلقاء كلمة احتفالية بحضور الشيخ محمد عبده بمناسبة استقباله، وذلك في رحلته الأخيرة إلى تونس قبيل وفاته عام1905، ولقبه الشيخ محمد عبده وقتها بـ"سفير الدعوة والإصلاح في الزيتونة".

والواقع أن تفسير محمد الطاهر ابن عاشور لم يحظ باهتمام واسع إلا بدءاً من التسعينيات المنصرمة، على الرغم من ان ابن عاشور كان معروفاً في المشرق العربي منذ وقت مبكر، يعود ذلك لأسباب عديدة، أهمها مشكلة النشر المزمنة في المغرب العربي، وتونس على وجه الخصوص، ولسوء حظ الشيخ ابن عاشور أن الكتاب لم ينتشر بشكل واسع إلا عبر طبعة غير شرعية قامت بها إحدى دور النشر المشرقية!.

وباعتبار أن ابن عاشور ينتمي إلى الإصلاحيين فقد كان شأنه شأن كل الإصلاحيين الإسلاميين السالفين، إذ حمل تفسيره عنواناً إصلاحياً دالاً للغاية: "تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد"، ويمكن للمرء أن يفهم بوضوح من هذا العنوان تصور ابن عاشور لدور تفسيره في مشروعه الإصلاحي، ويبدو أن ثمة علاقة وثيقة في العنوان تربط بين تفسير شيخ الإصلاحية محمد عبده "المنار"، وتفسير سفير الإصلاحية ابن عاشور "التحرير والتنوير" فكلاهما اشتق اسمه من "النور"!.

مقدمات التفسير متأثرة إلى حد بعيد بمقدمات الشاطبي، التي حاول فيها تحديد رؤيته لعلم الأصول وتأسيس رؤية جديدة فيه لا ستنباط الأحكام الفقهية الفرعية؛ إذ تبدو هذه المقدمات (عشر مقدمات) كما لو أنها نوع من المشاكلة لمقدمات كتاب الشاطبي الاثنتي عشرة، فابن عاشور كان يريد فيها "تصفية الحساب وتحقيق القول بنوع من الحسم في عدد من القضايا والإشكاليات التي لم تزل منذ نشأ علم التفسير مثار أخذ ورد وإيراد واعتراض بين العلماء" على حد تعبير الطاهر الميساوي (مقدم الكتاب)، وليس غريباً بعد ذلك أن يكون الشيخ الإصلاحي أن يعتمد التحليل المقاصدي في تفسير القرآن وارتباط آياته، ليستكمل علاقته الحميمة بالشاطبي ومقاصده فيما بعد بكتابه الشهير "مقاصد الشريعة"، فقد "هيمن على عمل ابن عاشور في إنشاء التفسير .... نوع من الهيام بفكرة المقاصد" حسب الميساوي، والذي يلاحظ أن ابن عاشور يذهب بفكرة المقاصد أبعد من التفسير فهي "تمثل ما يمكن عدُّه منظوراً كلياً وجَّه مجمل إنتاجه العلمي وعمله الفكري".

ابن عاشور الذي أخذ على نفسه عهداً في مقدماته أن يسجل تفسيره "نكتاً لم أر من سبقني إليها، وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارة لها وآونة عليها"، لم يتجاوز النكت كثيراً، وغلب على تفسيره التحقيق العلمي الواسع والرصين للتراث التفسيري، وبالتأكيد تضمن تفسير "التحرير والتنوير" وجهات نظر إصلاحية، لكنها تبدو أقل كماً وأقل جرأة مقارنة بتفسير المنار، وذلك رغم أن العلامة ابن عاشور يتفق مع أطروحات الإصلاحية المصرية عموماً، خصوصاً فيما يتعلق بإصلاح التعليم الديني؛ إذ كتب ابن عاشور في بداية تأليفه كتاب "أليس الصبح بقريب؟: التعليم العربي الإسلامي (دراسة تاريخية وآراء إصلاحية)"، بل الطريف والمؤسف أيضاً في الوقت نفسه أن التهم التي ألصقت بمحمد عبده بسبب هذه الفكرة بالذات كانت ذاتها التي ألصقت بابن عاشور للسبب نفسه!

في مقدماته لتفسير يعتبر غرضه "إصلاح الأحوال الفردية، والجماعية، العمرانية" يؤسس ابن عاشور لأصول التفسير الإصلاحي، فهو يخصص إحدى المقدمات للدفاع عن "صحة التفسير بغير المأثور" وفي مقدمة أخرى من هذه المقدمات العشر "فيما يجب أن يكون غرض المفسر"، ومقدمة أخرى "في أن المعاني التي تتحملها جمل القرآن تعتبر مرادة بها"، والمقدمة الأخيرة في "إعجاز القرآن"، وتشتمل هذه المقدمة السالفة على أهم القواعد المنهجية المشتركة التفاسير الإصلاحية في العصر الحديث، إذ تتضمن شرعنة للتفاسير الجديدة عبر التأويل اللغوي، والإسقاط الواقعي بعد ذلك على الظرف التاريخي للمفسر بغرض الإصلاح، وإثبات إعجاز القرآن والبرهنة الدائبة لأنه مصدر الإيمان بالإسلام ومستند قبول المؤمنين بالتغيير في الوقت نفسه.

والملاحظ أن ابن عاشور لم يشر إلى المناهج الجديدة في دراسة القرآن الكريم، ولكن الأمر على ما يبدو يرجع إلى تبكير ابن عاشور في كتابة هذه المقدمات العشر، فقد سبق تأليف هذه المقدمات كتابة التفسير نفسه، والذي استغرق تسعاً وثلاثين سنة وستة أشهر هجرية، وكان بالأساس دروساً ألقيت على طلبة الزيتونة، ثم نشرت مقالات في مجلة الزيتونة، وهذا يعني أن المقدمات ألفت قرابة عام 1920م، فقد انتهى ابن عاشور من تفسيره عام 1906م أي قبل سقوط الخلافة، وقبل ظهور المناهج الحديثة في التفسير (مثل: التفسير البياني والتفسير الموضوعي..) التي لم تبدأ قبل الأربعينيات، أي بعد أكثر من عشرين سنة على تدبيج هذه المقدمات.

على الرغم من النزعة التراثية الأصيلة في ابن عاشور، فإنه يحاول عبر مقدماته تأسيس أصول تفسير تجمع بين العمق التراثي والروح الإصلاحية الخلاقة، وفي زمن ما زال الخلاف والنقاش في أوله بعد حول أصول التفسير ومناهج القراءة المعاصرة القرآن، قد يكون في إعادة نشر مقدمات "تنوير العقل الجديد" ما يسهم في هذا النقاش يساعد على تطويره، ولكن دخول العلوم الإنسانية واللسانيات الحديثة طرفاً في الصراع المنهجي في قضية تحديث التفسير وتطوير القراءة يجعل هذه المقدمات قليلة الفائدة قياساً إلى الوقت الذي كتبت فيه.
 


 

 

21-08-2007 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=497