/

 

 

"الغضب الإسلامي".. تفكيك العنف

رضوان السيد

مقولة الغضب الإسلامي
جاء وصف الظواهر العنيفة في الإسلام المعاصر بأنها «غضبٌ إسلامي»، أول ما جاء في مقالة لبرنارد لويس مطلع التسعينيات من القرن الماضي. ثم خاض لويس في مقالته تلك، وفي كتبه اللاحقة مثل: «كيف حدث الخلل؟» و«أزمة الإسلام» في التعليل لذلك الغضب، فأعاده لأسباب تاريخية ونفسية اقترنت فأحدثت توترا تحول إلى خلل نتيجة فشل أنظمة الحكم أو التجربة السياسية العربية الحديثة. السبب التاريخي أمجاد الإسلام العظيمة في العصور الوسطى المبكرة والمتأخرة، والتي جعلت من المسلمين أسيادا بالمعنيين الحضاري والعسكري.

لكن على مشارف الأزمنة الحديثة اندلع النهوض الأوروبي، واندلعت الإمبريالية الأوروبية فالغربية. وتحت وطأة المواجهة التي خاضها العرب والمسلمون مع الإمبرياليين الهاجمين طوال القرنين الماضيين، بل القرون الثلاثة، أفضى الفشل المتمادي من جانب السلطات والمجتمعات في ذلك الصراع إلى تكوُّن «باتولوجيا» كرهت نفسها وغيرها، وما يحدث من عنف منذ عقود من جانب العرب والمسلمين (باستثناء تركيا) في الداخل والخارج تعبيرا عن الحالة الباتولوجية التي عانت منها الشعوب الإسلامية لعجزها عن النهوض، وعجزها عن المواجهة، وعجزها أخيرا عن التلاؤم والاستيعاب واجتراح المخارج مثلما فعل الصينيون والآن الهنود.. وإلى حد ما الأتراك.
أراد برنارد لويس في الأصل من وراء وصف «الحالة» بالغضب بيان أنها ليست حالة تكوينية أو تاريخية. لكنه عندما حوَّلها إلى باتولوجيا أو حالة نفسية مرضية وقع في خطأ ليس أقل فداحة، بل أضاف إلى فضائله تلك ما نُسب إليه من نصائح إلى إدارة بوش قبل واقعة 11 أيلول (سبتمبر) 2001 وبعدها بغزو العراق وكسر العرب (استنادا إلى خبرته مؤرّخا في ماضيهم وشخصيتهم) توصلا لإخماد عنفهم واستئصال مرضهم المزمن.
وبين يدي كتاب حديث الصدور للباحث معتز الخطيب بعنوان: «الغضب الإسلامي، تفكيك العنف.. دراسة نقدية» (دار الفكر، 2007)، يمثل وجهة نظر نقدية في خطاب العنف وتفسيراته وتأويلاته بين الدارسين الغربيين والعرب.
ومع أن معتز الخطيب يأبى – بوعي - الرجوع إلى التاريخ أو النصوص في مسألتي العنف والحرب، لكي لا يصبح تأصيليا بطريقة معاكسة لطريقة برنارد لويس، فإنه يستعرض المسألتين في الأدبيات الفقهية الوسيطة، وأفهام المسلمين المُحدثين المسيسين وغير المسيسين لها. ففي القرآن نصوص في الجهاد الدفاعي والآخر الهجومي. والفقهاء يقسمون العالم إلى دار إسلام ودار حرب، ويروحون يذكرون وصايا الرسول صلى الله عليه وسلّم وأصحابه في إنسانية الحرب بقدر الإمكان، واعتبارها ضرورة وليست خيارا تاريخيا أو نصيا.
لكن معتز الخطيب واضح في التفرقة بين النصوص والتعاليم والمبادئ من جهة، والسلوك الحربي أو السلمي للدول الإسلامية الوسيطة، والذي يتخذ من «المصلحة» دليلا بغض النظر عن النصوص والوصايا.
تعليلات العنف
وأود أن أضيف هنا - ومن باب الكشف والبيان - أن جمهور الفقهاء منذ القرن الثاني الهجري إلى نهايات العصور الوسطى ظلوا يعتبرون «الجهاد» دفعا للعدوان أو خوفه، كما ظلوا يعتبرون العالم وحدة واحدة. أما التقسيم فهو تقني وفقهي وليس إيذانا باستمرار الحرب ما استمر الكفر، كما ذهب إلى ذلك بعض المستشرقين وبعض المسلمين المعاصرين المتطرفين. وقد ذكرت هذا الأمر اختلافا مع مقدّم الكتاب المستشار طارق البشري، ومع المؤلف معتز الخطيب إلى حد ما. إذ إن الأستاذ البشري يضع على كاهل الظروف والسياقات الجائرة صيرورة الإسلاميين المعاصرين المتشددين إلى اختيار نصوص الجهاد الهجومي، واجتهادات دار الكفر والحرب.
وسياقات الإمبريالية والجَور والسياسات الدولية تبرر العنف في مواجهتها بالفعل، لكنها لا تبرر التكفير (لتحويل الجهاد إلى عنف داخلي)، كما لا تبرر الانتحاريات. إذ إن الفقهاء الأوائل فسّروا الجهاد القرآني بالفعل، وحروب الصحابة بجهاد الدفع، أو أنهم حددوا الجهاد الواجب بهذه الطريقة.
لذلك لا بد من ضم أمور أخرى في التعليل إلى جانب «السياقات»، وهي تتمثل من وجهة نظري في ثلاثة أمور: النزعة التأصيلية لدى المتشددين بالعودة إلى بعض النصوص فقط مقطوعة عن سياقاتها (أسباب نزولها)، وعن منظومات الفقهاء، وأن أولئك المتشددين إنما هم انشقاقات دينية واجتماعية في داخل الجماعة وليس حركات تحرير أو نهوض، ولذلك فإن الأمر الثالث يتمثل في أن عودة هؤلاء إلى النصوص أو التاريخ إنما هي عودة رمزية أو شعائرية، المقصود بها تسويغ السلوك المقرر لدى الجماعة المقاتلة (في نظر نفسها وليس في نظر الجمهور)، وليس النظر للتوصل إلى حكم قياسي أو إجماعي.
والواقع أن المؤلف الذي يتحدث عن «المصالح» في حروب المسلمين الوسيطة، لا يستطيع تبرير عنف «القاعدة» بالسياقات فيسميه جهادا عبثيا، في حين يستخف بأطروحة الجهاد المدني (القاطعة مع المفهومين القديم والراديكالي المعاصر)، في حين أن تعليلها بالسياقات أوضح وأصرح.
ويقدم المؤلف معتز الخطيب قراءة جديدة بالفعل لفكر قطب وسياقه التاريخي. لكن المراجعة على أساس السابق واللاحق من الكتابات لا تخدم غرضه كثيرا. فسيد قطب أشد راديكالية في «معالم في الطريق» (وهو آخر كتبه تقريبا) من سائر كتاباته في الخمسينيات [1].
وقد أُعدم الرجل عام 1966، ولسنا ندري ماذا كان يمكن أن يرى لو قرأ ما كتبه صالح سرية أو محمد عبد السلام فرج أو عمر عبد الرحمن. والأحرى هنا أن نتأمل الفروق ليس قياسا على صيرورة الشافعي إلى مذهب آخر في مصر في أُخريات حياته، بل أن نفهم لماذا خالف الشافعي سائر شيوخه وفقهاء عصره في اعتباره الكفر علة للجهاد، وليس دفع العدوان.
ويتقدم الباحث خطوات واسعة في القسم الثاني من كتابه الذي يحمل عنوان: «الإسلام والإرهاب». إذ يقرأ قراءة تفكيكية مقولة ربط الإسلام بالإرهاب، وهو يستعرض النماذج التفسيرية؛ الدينية والثقافية والسياسية والإستراتيجية والفلسفية، ولا شك في أن نقده للتفسيرين الديني والثقافي مُحق ومُقنع. وأهم ما فيه أنه لا يقصد إلى مجرد الإدانة، ومن ناحية أخرى لا يلجأ إلى التبرير والاعتذارات.

عنف انشقاقي
صرتُ بحكم التكوين الديني، وبحكم شبه الإبادة التي تعرضت لها أُسرتي في الحرب الأهلية بلبنان، تؤثر فيّ التعليلات النظرية للعنف أكثر مما يؤثر العنف ذاته. ولذلك فقد رُوّعت لكتابي «معالم في الطريق» لسيد قطب، و«الفريضة الغائبة» لعبد السلام فرج.
وكثيرا ما تناقشت مع أستاذيّ محمد البهي وعبد الحليم محمود لماذا كتَب هذين الكتابين مصريان، وليس أحد الإسلاميين الفلسطينيين أو السوريين أو حتى أحد السلفيين المتمردين على السلفية المتحالفة مع الدولة؟! لكن عندما راقبت في ثمانينيات القرن العشرين ظهور «مجتمع جديد» منفصل في داخل المجتمعات العربية، انصرفت عن تشبيه الثوار الإسلاميين بثوار المدن في ألمانيا وإيطاليا واليابان في السبعينيات. فالعنف الجديد في المجتمعات العربية والإسلامية الأخرى عنف ديني، وهو يحظى بالقبول أحيانا وبالاستحسان أحيانا أخرى، والتبريرات السياقية أو السياسية غير كافية لتعليله.
إن العنف الإسلامي هو عنف انشقاقي عمودي يخترق أحشاء مجتمعاتنا، بمعنى أن هناك شريحة واسعة من الناس لا تُحسُّ بالانتماء إلى هذه المجتمعات وأعرافها وآليات حركيتها وتضامناتها واختلافاتها. وإلا فكيف نفهم ما قامت به «حماس» عنفا عبثيا بحتا دون أن يفقد طبيعته الانشقاقية الأصلية. وقد أضيفت إلى مصائبه في الأعوام الأخيرة مصيبة استخدامه حتى من جانب أولئك الذين كان يُعالنهم التكفير والعداء.
أراد الأستاذ معتز الخطيب الإسهام في تعقل ظاهرة العنف الإسلامي أو باسم الإسلام، وقد رفض التفسيرات الغربية لها وهو مُحق. لكنني أرى أن حيرة الغرب وخوفه من تلك الظاهرة ليست أكثر من حيرتنا وخوفنا. فالداء في الأصل داؤنا والمشكلة مشكلتنا: «والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون».
ــــــــــــــــــــــــــــ

[1] هذا ما يثبته الكتاب فعلاً؛ فلا خلاف يبدو بين رضوان السيد ومؤلف الكتاب. (المحرر). 

 

 

25-08-2007 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=500