في ظل التغيرات الكبيرة في بنية المجتمع الفرنسي المتمثلة بحدة التناقضات الاجتماعية بين تيارات ثقافية وإثنية ودينية وإيديولوجية، وبالتحديد بين أصحاب الديانات الأكثر حضوراً وتمثيلاً في فرنسا، والتي يأتي في طليعتها المسيحية والإسلام ـ الذي بات يمثل اليوم الدين الثاني في فرنسا من ناحية عدد أتباعه وفق الإحصاءات الرسمية الفرنسية ـ يلاحظ زيادة وتيرة النقاش على المستويات الفكرية والصحفية والسياسية والدينية حول معالجة هذه التناقضات بغية توفير مناخ من الاندماج والتعايش السلمي، وإبعاد لشعور متنام بالخوف(1) من عنف كامن يجد بعض تجلياته في مثل الأعمال التخريبية التي تشهدها الضواحي من حين إلى آخر، أو في بعض الحوادث التي تسجل في المدارس العامة حيث البيئة الأكثر إبرازاً للانتماءات والديانات المختلفة الحاضرة على مقاعد الدراسة.
في الواقع تمثل العلمانية قطب الرحى لكل السجالات والمبادرات التي تتناول هذه الأزمة، ومن هذه الزاوية يمكننا أن نرصد دائرتين من دوائر الحدث تقعان في اتجاهين مختلفين تماماً من حيث الشكل والأسلوب، وإن كان الجامع بينهما هو الشعور بالأزمة واتخاذ موقف من العلمانية تجاهها.
بداية، يحتدم الجدل في الأوساط الثقافية الفرنسية حول مراجعة جزئية أو شاملة للعلمانية التي شكلت بحسب البعض الضمانة للسلام الاجتماعي الداخلي لنحو قرن من الزمان، في حين إنها لم تعد قادرة على لعب هذا الدور بعد التغير الحالي في بنية المجتمع وتركيبته الدينية والثقافية، فمن أكبر التحديات التي تواجه العلمانية اليوم الإسلام المتنامي فكراً وأتباعاً، الحاضر اعتدالاً وتشدداً، القابل لقراءات انتقائية لا تفتقد إلى ذاكرة تاريخية تضعه في قلب الأسباب الموجبة للخوف، مما يوحي بأن سؤال علاقة العلمانية بالمسيحية الذي كان مطروحاً بداية القرن الماضي تعاد صياغته من جديد بداية هذا القرن وتحويله إلى السؤال عن علاقة العلمانية بالإسلام(2) .
لكن السؤال الأهم الذي يرد قبل ذلك هو: هل العلمانية فكرة مطلقة غير قابلة للنقاش أم هي بحاجة إلى المراجعة المستمرة في مواجهة التطورات الواقعية؟(3)
إن الإشكالية التي يطرحها هذا السؤال تجد ميداناً خصباً للنقاش في ضوء الطرح الجديد لفكرة تدريس "الظاهرة الدينية" في المدارس العامة، خاصة أن هذه الفكرة تجد يوماً بعد يوم المسوغ الواقعي لطرحها، بعد أن "أصبحت الأديان مصادر للنزاع وسط الصفوف"(4) .
يمكن إرجاع بداية هذا الطرح إلى مطلع القرن العشرين عندما اقترحت رابطة التعليم في أحد مؤتمراتها تعليماً يتضمن أفكاراً عن تاريخ الأديان، وعادت لتذكر في العام 1982م ضرورة الأخذ بالاعتبار لبعض النصوص الأساسية للأديان الكبرى بتدريس تاريخها وإسهاماتها السلبية والإيجابية في تطور الحضارات، ثم وبدءاً من العام 1986 افتتح الجدل حول الموضوع بإسهامات لكتاب من داخل السلك التربوي(5) حيث سرت شرارته إلى الصحافة وصار من المواضيع الإشكالية التي استدعت مؤسسة أونيفيرسالي عام 1988م لإجراء استطلاع عام حول إمكانية وجود تعليم لتاريخ الأديان في المدارس العامة بفرنسا، وقد جاءت نتيجة الاستطلاع مدهشة، حيث اعتبر 65% من المستطلعين أن ذلك ممكن انطلاقاً من أن هذه التجديد يتواءم مع معنى العلمانية، ولا يعد خروجاً عليها، في حين لم تكن نسبة الرافضين أصلاً للفكرة إلا 11% فقط(6) .
أخذ النقاش بعداً جديداً في نوفمبر 2000 مع تظاهرة أطلقتها الأسبوعية الفرنسية لافي (الحياة) بعنوان "الإله في المدرسة" استمرت لمدة سنة وشهدت مؤتمرات ومقالات واستبانات بالتعاون مع العديد من الهيئات والمنظمات(7) ، وكل ذلك قبل أن تأتي أحداث سبتمبر في أمريكا لتضع الموضوع على نار الجدل الإعلامي مع أخذ البعد الرسمي بتكليف وزارة التربية الفيلسوف ريجيس دوبرييه بإعداد تقرير عن الدور الجديد للتعليم الديني في المدرسة العلمانية، حيث جاء التقرير الذي نشر في شباط عام 2002م بوجهة نظر قسمت الوسط الثقافي الفرنسي وأذكت الجدل حول الطرح الجديد مفادها أنه لابد من إجراء تجديد في المناهج الدراسية لمواد مثل التاريخ والفلسفة والجغرافيا لتتضمن معلومات عن الأديان وتاريخها بما اعتبره لا يثقل المناهج الحالية ولا يعد خروجاً على التقاليد العلمانية لأن "تدريساً عن الدين ليس تدريساً دينياً"، معللاً ذلك بالحاجة إلى فهم التطورات والأحداث الواقعية المهمة إذ كيف يمكن فهم 11سبتمبر2001 على سبيل المثال دون الاطلاع على الوهابية والمدارس المتنوعة في فهم القرآن؟ بالإضافة إلى ضرورة محو ما سماه الأمية الدينية عند الشباب وتمكينهم من فهم الكتابات الأدبية والتاريخية والفنية وإدراكهم لبعض الأبعاد الحياتية كالتقويم والعطل(8) . ومن هنا يلح الموافقون على هذه الفكرة على أن الشباب بحاجة إلى أن "يفهموا ويواجهوا كل أشكال الاعتقادات والفلسفات والتنوعات المتناقضة"(9) ، بل إن الحاجة ماسة إلى تزويد الأساتذة قبل الطلاب بثقافة دينية يمكنهم من خلالها مواجهة بعض المواقف المحرجة التي يصادفونها إزاء الأسئلة والنقاشات ذات الخلفية الدينية.
على المستوى الأوروبي يؤكد جيمس ويمبرلي على ضرورة حل مشكلة العلاقات السيئة داخل المجتمعات الأوروبية حيث تأخذ العرقية والتمييز وقلة التسامح أبعاداً إثنية وحتى دينية(10) .
على كل حال، فعلى الرغم مما أثاره تقرير دوبرييه من جدل، وعلى الرغم مما أعقبه من كتب ومقالات إلا أنه يمكن القول أن ذلك كان كطاحونة هواء حركتها رياح سبتمبر 2001، وأعطتها الزخم لتوجد وتتفاعل وسط كهنوت علماني متشدد، ومع مرور الوقت يبدو أن هذا الزخم قد خفت وتيرته خصوصاً بعد استقالة دوبريه من رئاسة المعهد الأوروبي للعلوم الدينية الذي أنشئ مباشرة عقب تقريره والذي كان الثمرة الوحيدة لهذا التقرير على المستوى الرسمي مبرراً ذلك بعدم وجود تشجيع قومي حقيقي لإجراء مثل هذا التعليم. مما جعل الساحة مفتوحة لمزيد من الجدل الذي مازال جعجعة وليس طحناً.
بمحاذاة هذه الدعوة إلى تطوير أو تعديل أو تلطيف العلمانية والتي تأتي من داخل المعسكر العلماني نفسه، يمكن رصد اتجاه آخر يقع على ضفة أخرى هي الأكثر حضوراً في نقاشات العلمانية الهادفة إلى تقديم صيغ جديدة للتوافق والاندماج الاجتماعي، لمواجهة الخوف المستبطن والتوتر المتوقع في بلد يعد الانفتاح أحد خياراته الاستراتيجية، أقصد الجانب الإسلامي على وجه التحديد، إذ يلاحظ نمو تيار قوي في الأوساط الإسلامية الفرنسية أو الموجودة في فرنسا يبغي الوصول إلى التعايش مع العلمانية عن طريق نفي تناقضها مع الإسلام، وهو ما تمثله " سلسلة من الحركات التي تناضل من أجل إسلام متحرر" كما تسميه. من مثل حركة المسلمين العلمانيين في فرنسا، والمجلس الفرنسي للمسلمين العلمانيين، وحركة المغاربة العلمانيين في فرنسا.
ترى هذه الحركات أن " الإسلام متطابق بشكل كامل مع قوانين الجمهورية" وأن "العلمانية هي الضمانة لحرية العقائد وللتعبير الديني الحر"(11) .
وبغض النظر عن البحث في الولاءات السياسية والمكاسب المادية لبعض ممثلي هذه التيارات، وبغض النظر عن الحضور الدائم للعبة السياسية في إقامة تحالفات معها من قبل فرقاء السياسة الفرنسية، ودون الاقتصار على تصنيفها في خانة ردود الأفعال الساعية إلى تلميع صورة الإسلام "الأصولي" أو "المتشدد" كما يسميه البعض فإن هذا الاتجاه يتحاور مع جانب واحد من جوانب العلمانية، وهو الجانب الحقوقي التشريعي الذي "يحدد وينظم مكان العقائد في الفضاء الجمهوري ويبين صلاتها مع السلطات العامة"(12) دون أن يصل إلى عمق الروابط والعلاقات الاجتماعية، ويتناول العقلية التي تصدر عنها هذه العلاقات.
إن هذا التطابق الذي تتحدث عنه هذه التيارات بين العلمانية والإسلام لا يعدو توافقاً في بعض التشريعات التي تكفل الحريات والكرامة الإنسانية والمساواة أمام القانون، والتي هي بالأصل منوط تطبيقها والسهر على حفظها بالدولة، وبالتالي فهو لا يعالج قضية التنوع بالتأثير في خلفياتها الثقافية وأسسها التربوية، يمكن أن تقدم هذه الوصفات للناشئة لوائح بقوانين المساواة ولكنها عاجزة عن تربية جيل يحمل تكامل الشخصية بوصفه يحمل معتقداً غريباً في بيئته، وتكامل الشخصية الإسلامية في مجتمع كهذا لا يأتي من بوابة التطابق مع العلمانية وإنما من زاوية هضمها والتعايش مع قوانينها. والمدخل التربوي هو الأساس في بناء ثقافة الاختلاف، وتعلم العيش مع الآخر المختلف دون أن يشكل الاختلاف عائقاً عن التواصل الإنساني، إن القضية ليست قضية تسجيل مواقف، فالمهم قبل كل شيء هو الوعي التام بحدود الاتفاق والافتراق.
بالمحصلة فإن كل واحد من هذين الاتجاهين يحمل من التناقضات والخلافات ما يوهنه ويعرقل تطويره، فضلاً عن غياب التفكير بعمل مشترك يصدر عن رؤى مختلفة و يقدم مشاريع حل لأزمة تهم الجميع. ما بين الدعوة إلى تجديد العلمانية والدعوة إلى الانخراط فيها تبقى أزمة التنوع الثقافي والديني حاضرة في مجتمع منفتح وعالم قلق.
ــــــــــــــــ
(1) Cresh, Alain ; Tubiana, Michel , Vivre ensemble, 1905 – 2005 : Les enjeux de la laïcité, L’Harmattan, 2005, Paris, p.7.
(2)Voir : RP
(3)Jean Baubérot , La laïcité, une chance pour le xx1 siècle, l’introduction du : La Laïcité à L’épreuve, Universalis France, 2004, p9.
(4)Claire Chartier, Les religions font leur rentrée, L’Express du 28/02/2005.
(5) Mireille Estivalèzes, Les religions dans l’enseignement laïque, Presses Universitaires de France,Paris, 1° édition : 2005, p 17-19.
(6) Jean Baubérot, RP, p7.
(7)Mireille Estivalèzes, RP, p25.
(8) http://lesrapports.ladocumentationfrancaise.fr/BRP/024000544/0000.pdf
(9) Vincent Utz, L’enseignement religieux en Collège et Lycée,
http://www.col-barr.ac-strasbourg.fr/Page.php?idd=127
(10) l’éditorial de John Fox, Enseignement religieux est-il en hausse ? Le site de l’UNESCO :
http://portal.unesco.org/fr/ev.php-URL_ID=12326&URL_DO=DO_TOPIC&URL_SECTION=201.html
(11)Claire Chartier, Musulmans mais laïques, L’Express du 13/12/2004.
(12) Michel Morineau, La commission Laïcité et Islam : historique et philosophie d’un débat, 1905- 2005 les enjeux de la laïcité, p13.