إنه لأمر صادم حقاً أن يكتشف المرء بأن تأثير المدرسة الإصلاحية في جنوب شرق آسيا أكبر بكثير من تأثيرها في العالم العربي موطنها الأصلي، وعلى الرغم من أن معرفتنا في العالم العربي بأن انتشار تفسير المنار في هذه المنطقة ليس بالهين، إلا أن البحث التفصيلي عن التأثير المباشر بين إصلاحيي المشرق والحركة الإصلاحية الدينية في جنوب شرق آسيا لا تكترث له كثيراً الدراسات العربية عن الإصلاحية والإصلاح الديني في تلك المنطقة، وذلك على الرغم من أنها تشهد ازدهاراً اقتصادياً ونمطاً إسلامياً هو بشكل من الأشكال متأثر بإصلاحية الشيخ محمد عبده.
تأثير الإصلاحية في تلك المنطقة من العالم لا تصفه البحوث والتأملات قدر ما تصفه النصوص والوثائق العائدة للمدرسة الإصلاحية، والواقع أن جزءاً مهماً من هذه الوثائق تتضمنه مجلة المنار التي أسسها العالم الشامي رشيد رضا، وأهمية هذا الجزء من الوثائق تنبع من أن رشيد رضا كان صلة الوصل بين أفكار الإصلاحية ودعاتها في تلك البقعة من العالم منذ العام الأول لصدور مجلته التي امتد صدورها قرابة 29 عاماً، بقيت خلالها على تواصل بل وتدخل في خصم المعارك الثقافية – السياسية التي كانت آنذاك تشغل مسلمي جزيرة جاوة وأرخبيل الملايو.
هذا ما دفع الدكتور أحمد أبو شوك (الأستاذ المشارك بقسم التاريخ والحضارة في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا) إلى استخراج "الآثار الكاملة لمجلة المنار عن جنوب شرق آسيا" في مجلدين (ط1، 2006)، والتقديم لها بدراسة تكشف عن الدور الكبير الذي لعبته مجلة المنار في بعث وتطوير فكر الإصلاح الديني، بل وفي توريثه أزمتها الفكرية.
كان جنوب شرق آسيا يعيش انقساماً فكرياً وصراعاً ثقافياً وسياسياً مع الاستعمار الهولندي والبريطاني، بين تيار نخبوي يؤمن بأن في اتباع الحضارة الغربية الخلاص، وآخر تقليدي يسعى لتمكين المذهب الشافعي بجوار التصوف وشعائره، وبين هذين كان ثمة نزوع للتخلص من الخيارين الواقفين على طرفي نقيض، لكنه كان يفتقر إلى سند فكري واضح ودعم شعبي يمكنه من الفعل على الأرض، وبرأي أبو شوك فإن هذا النزع لدى فئة من الشباب في تلك البلاد كان الأرض التي مهدت لاستقبال المنار إذ وجدت فيه ضالتها المنشودة، وأدى التواصل الذي لم ينقطع طيلة تسعة وعشرين عاماً إلى نشوء ما عرف بـ"جماعة المنار" أو "قوم مودا".
لقد كان لمدرسة الدعوة والإرشاد التي أسسها الشيخ رشيد رضا عام 1912 في القاهرة بهدف تأهيل دعاة أكفاء في مواجهة المد التبشيري التنصيري وتبصير المسلمين بأمور دينهم أن تقوم بدو القناة االرئيسية لنقل أفكار رضا إلى جنوب شرق آسيا، فقد عاد هؤلاء الطلبة إلى بلادهم وعاظاً، وبعضهم امتهن العمل الصحافي والإعلامي، ومع تزايد انتشار أفكار المنار الإصلاحية عين الشيخ رشيد رضا (السيد محمد بن عقيل آل يحيى) وكيلاً له في مدينة سنغافورة لتوزيع مجلته في أرخبيل الملايو وجزيرة جاوة، وبمرور الزمن نشأت عدة مؤسسات تعليمية وجمعيات خيرية اجتماعية في إطار أفكر رشيد رضا ولعبت دوراً مهماً في نشره.
الحقيقة أن الحامل الاجتماعي لأفكار رشيد رضا كان العرب الحضارمة الذين استوطنوا تلك المنطقة، والصراع بين الإصلاحيين والتقليديين كان في الواقع صراعاً بين نخبة الحضارمة العلويين (المنتسبين لأهل البيت النبوي) وغير العلويين، فقد قسموا المجتمع إلى طبقتين، طبقة السادة العلويين، أصحاب الدم النبوي المبارك، وطبقة العامة، وهو تقسيم لا معنى له من دون الامتيازات الاجتماعية الطبقية، كان هذا واقعاً مؤسفاً بجوار ما يبدو وكأنه تفسخات ثقافية أمام بريق الحضارة الغربية التي جاء بها المستعمر، الأمر الذي كان يدفع بالشباب منهم إلى أحضان أفكار المنار الإصلاحية، إن هذا يفسر إلى حد بعيد كيف انتقلت أفكار المنار إلى هذا الجزء من العالم، لقد كان العنصر العربي - الذي كان قادراً على فهم المنار وأفكارها في شكل جيد - هو العامل الرئيسي في ذلك.
كانت المنار تستنفر الطاقة وتحفز على مواجهة المستعمر، في الوقت الذي تواجه في الامتيازات الاجتماعية للنخبة العلوية المتترسة بالإرث والتقاليد، وتمنح مناصريها القدرة على مواجهة العصر ومحاولة التفاعل معه. وقد وصل دخول أفكار رشيد رضا - من خلال مجلته - في تلك البلاد حداً أقحم فيه رضا نفسه في معارك وصراعات الفتاوي التي كانت في حقيقتها سياسة واجتماعية وثقافية في آن معاً، وقد كانت فتاوى رشيد رضا - كما يلاحظ أبو شوك - تعكس نزوعاً سلفياً لدى رشيد رضا في بعض الأحيان.
إحدى أهم القضايا التي أثارت على رشيد رضا خصومة السادة العلويين هي المساواة الشرعية بين المسلمين، فقد كان معظم العلويين يرفضونه، ويترفعون عن بقية الشعب باعتبارهم طبقة نبيلة، بحكم انتمائهم الذاتي النَّسَبي لا الصفاتي الاتباعي للنبي وحسب، كان هذا الأمر يضرب أحد أهم جذور التقليد في المجتمع المسلم في جنوب شرق آسيا الذي كان يلعب دوراً رئيسياً فيه - دينياً واجتماعيا - الحضارمة العرب.
انتشرت تعاليم المنار أولاً في "أوساط القطاعات المتنورة من شبان السادة العلويين الحضارمة في سنغافورة" من أمثال السيد حسن بن علوي بن شهاب الدين (ت 1912) والسيد أبو بكر بن عبد الرحمن بن شهاب الدين العلوي (ت1922)، والسيد محمد بن عقيل بن عمر آل يحيى (ت1931)، الذين كانوا ينشرون مقالاتهم في الصحف القاهرية! ثم أخذ ينتقل مركز ثقل هذه الحركة بدءاً من مطلع القرن المنصرم إلى إندونيسيا، حيث بدأت شكلها المؤسسي في "جمعية الخير" التي تأسست عام 1901، والتي ورثتها "جمعية الإصلاح والإرشاد العربية" عام 1914 بعد أن تم إيقاف الأولى عن العمل، وامتد تأثير المنار عبر جمعيات أخرى كانت أقرب إلى الحركات والتنظيمات منها إلى الجمعيات الأهلية الخيرية، مثل "الجمعية المحمدية" التي أسسها الحاج أحمد دحلان عام 1912 بجاكرتا، و"جمعية الاتحاد الإسلامي" التي أنشأها الحاج زمزم عام 1920 مع مجموعة من الإصلاحيين في مدينة باندونغ.
ونشأت عدد من المجلات والصحف لبثِّ تعاليم المنار والعمل في ظلالها، مثل "مجلة الإمام" السنغافورية التي صدرت عام 1906 من قبل مجموعة شباب تربطها صلة وثيقة برشيد رضا، كانت تقتبس كثيراً من مقالات المنار وتترجمها لتعيد نشرها على صفحاتها، وبعد توقف "مجلة الإمام" بثلاث سنوات لأسباب مالية، صدرت "مجلة المنبر" الملايوية في مدينة بادانق جنوب سومطرا عام 1911، المدينة التي أصبحت أهم مراكز الإصلاح الديني في جنوب شرق آسيا، وما لبثت المنبر حتى أغلقت هي الأخرى بسبب العجز المالي عام 1916، إلى أن ظهرت "مجلة الذخيرة الإسلامية" عام 1923 بمدينة جاكرتا باللغتين العربية والملايوية.
وعلى الرغم من أن هذه المجلات حملت على عاتقها مباشرة نشر أفكار المنار، إلا أنها لم تكن الوحيدة، لكنها كانت الأكثر شهرة، فقد ظهرت إلى جانب هذه المجلات الثلاثة مجموعة من المجلات أقل شهرة عملت في الخط ذاته، منها "نجم الإسلام"، و"لواء الإسلام"، و"اللسان الإسلامي" بجوار صحف مثل: الإرشاد، والإصلاح، والهدى، والمصباح، والمشكاة، والمرشد، بل إن تأثير المنار أدى إلى نشوء الصحافة الإسلامية في جنوب شرق آسيا التي يقدر عددها بخمسين صحيفة وعشرات المجلات معظمها صدر في الفترة ما بين الحربين العالميتين.
يبدو أن أفكار الإصلاحية كانت في الحقيقة أفكار رشيد رضا أكثر منها أفكار محمد عبده، وما كان يصل من أفكار محمد عبده إلى جنوب شرق آسيا فإما عبر رشيد رضا غالباً، غير أن رشيد رضا ـ بحسب المحقق أحمد أبو شوك ـ كان يحمل فكراً إصلاحياً متناقضاً؛ فمن جهة يحث أنصاره الإصلاحيين على تطعيم الثقافة الإسلامية ببعض العلوم العصرية المزدهرة، ومن جهة ثانية يقدح في قيم الحضارة الأوروبية ويصفها بالإلحاد وعدم التوافق مع الثوابت، الأمر الذي "خلق نوعاً من الرؤية الضبابية في عقلية الإصلاحيين الجدد في جنوب شرق آسيا"، وبرأيي أنها انعكست على التصورات والممارسات الدينية في المجتمع الماليزي المعاصر.