في البدء كانت المشاركة
شكلت نهاية الثمانينات من القرن الماضي مرحلة جديدة للعمل السياسي القانوني بالنسبة للحركة الإسلامية المعاصرة، ففي ظل سياق اتسم بالانفتاح السياسي في بعض الدول العربية، أنظمت الجماعات الاجتماعية ذات الطابع الديني إلى الحياة السياسية من خلال أحزاب جديدة كما هو الشأن في لبنان والجزائر و الأردن وموريتانيا...أو من خلال أحزاب تقليدية قائمة في التجربة المغربية. ورغم أن هذه الأحزاب مازالت تناضل من أجل الحفاظ على شرعيتها المهددة من طرف أنظمة شبه قمعية وتسلطية، وأصبحت الظروف السياسية والوضع الدولي تزيد من صعوبة حركة مثل هذه الأحزاب الحاملة للمرجعية الإسلامية، إلا أن تجربتها في الحقل السياسي و نتائجها في الانتخابات الأخيرة تسمح بمساءلة رصيدها السياسي، خصوصا وأن حصة الإسلاميين تراجعت بشكل مضطرد في البرلمان الجزائري، حركة مجتمع السلم النهضة و الإصلاح الوطني حققا 106 مقاعد عام 1997، و 81 عام 2003، ليتراجع الإنجاز الانتخابي إلى 52 مقعد سنة 2007. من جهته فشل حزب العدالة والتنمية المغربي في إحراز تقدم ملموس في انتخابات 13 شتنبر 2007، ففي الوقت الذي أعطته استطلاعات الرأي المرتبة الأولى إلا أنه لم يتجاوز 46 مقعد بزيادة 4 مقاعد مع خسارة حوالي 20.000 صوت مقارنة مع انتخابات 2002م؛ كما أن أغلبية قيادييه، وبرلمانيه السابقين لم يحافظوا على المراتب المتقدمة التي حصلوا عليها في ترتيب الناجحين حسب الدوائر الانتخابية، حيث تراجعوا في أخر عملية انتخابية إلى الصف الثاني والثالث. من جهتها اكتفت جبهة العمل الإسلامي بالأردن بالمشاركة الرمزية، حيث رشحت 22 مرشحا من أصل 899 للحصول على 110 مقعد نيابي في اقتراع مجلس النواب ليوم 20 نونبر، لتكشف النتائج النهائية عن تراجع مهول للحزب في حدود 6 مقاعد فقط، وكانت الجبهة قد حصلت على 17 مقعد في المجلس النيابي السابق.
فما هو دور هذه الأحزاب في صناعة انتقال ديمقراطي محتمل، في مجتمعات تعاني من تسلطية الحاكم، وتطويعه للدين بشكل غامض وذرائعي، مما يقلص من مساحة المشاركة السياسية، ويمنع النخبة من تطوير الجدل الفكري الإمبريقي المجد في الصياغة النظرية ومعالجة القضايا دون إهمال تفاعلات الواقع الاجتماعي والثقافي؟.
أن تقديم الصورة الكاملة عن الأحزاب الإسلامية المعاصرة يبدو صعبا في مثل هذه المقالة؛ كما أن إعطاء وصفات معينة عما يجب على هذه الأحزاب القيام به يعتبر خروجا عن الموضوعية، والحيادية العلمية؛ فهذه الأحزاب تدعي طرحها لبرنامج سياسي انطلاقا من المرجعية الدينية، وتعتمد في ذلك على "رجال سياسة متدينين وليس على رجال دين يمتهنون السياسة"، لذلك نسمي هذا النوع من الأحزاب بالأحزاب الإسلامية.
ومن الضروري التأكيد أن دخولها للمعترك السياسي الرسمي في سياق مجتمعي منشد إلى الدين يزيد من أهميتها في الاستقرار السياسي، رغم أنه لا يوجد لدينا معيار يثبت كونها عاملا حاسما في هذا الاستقرار كما هو الشأن في المغرب الذي يلعب فيه الملك ومن ورائه الجيش الضامن الرئيس لهذا الاستقرار.
وهكذا، فعندما نتحدث عن هذه الأحزاب في جو الاختناق السياسي العربي الحالي، فإن السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه عليها هو هل تساهم كتنظيمات سياسية شرعية في دمقرطة الحياة السياسية؟ وهل تخرج بنيتها التنظيمية عن النظام الحزبي العربي القائم عل الالتفاف حول الزعيم؟ وما دورها في إرجاع المثقف للحياة السياسية؟.
إن الملاحظ المبصر لعجلت تطور العمل السياسي عند الاسلامين، لابد وأن يقر بتفوقه الشعبي عن التيار العلماني بتاريخه الطويل، لكن استنتاجنا هذا لا يوشح صدر الاسلامين بوسام الديمقراطية، إذ لازال بعض سلوكيات قيادتها وقوانينها الداخلية وطريقة اختيار مرشحيها للبرلمان توحي بأن الطريق نحو الديمقراطية الداخلية لم تعبد بعد داخل الأحزاب الإسلامية، كما أنها أصبحت تشارك الأنظمة السياسية والأحزاب العلمانية في غلبة القيادات الهرمة، والعقليات المحافظة المسلحة بالنزعة التقنية على أجهزتها الحزبية.
ففي ظل قتل السياسة التي يمارسها الحكام العرب، وتقارب طيف كبير من العلمانيين مع السلطة، وعدم تخلص هذه الأحزاب من بعض رواسب التفكير الفقهي الذي يعتمد نظرية سد الذرائع للحيلولة دون السقوط في المحظور الشرعي –الفتنة-، كل هذا يسهل عليها إقناع المنتسبين والمتعاطفين معها بالدخول في دوامة مساندة بعض الأنظمة الشمولية التسلطية كما هو الحال بالمغرب والأردن، يصاحب ذلك بحسابات سياسية تكتيكية لقادتها دون تطوير رؤية تشاركيه تنبني على دينامكية الحراك الاجتماعي التنافسي مع باقي الفر قاء والأنظمة السياسية على قاعدة الديمقراطية، وأولوية الحريات الثقافية والاجتماعية، وحرية التعبير والتجمع... لدى فإن ضعف مثل هذه الرؤية عند الإسلاميين الحزبيين بات يشكل أرضية خصبة لاستمرار التسلط، وازدراء النخبة العلمانية المحتكة ثقافيا مع الغرب بالمذهبية الإسلامية عموما، ومن الطرح الإسلامي المعاصر على وجه الخصوص.
التقنية بدل المعرفة السياسية
ولعل خيبة الأمل في التكتلات الحزبية الإسلامية اليوم في تطوير نظرية إسلامية معرفية في السياسة، لا تظهر في جانبه النظري، بل أن انجازات النخبة الحزبية لهده التكتلات تبقى شحيحة، وفرص توسيعها تحتاج إلى دفعة حقيقية، وسريعة للنظام الفكري والمعرفي عند الإسلاميين الحزبيين؛ وهذا يجعل موقف الأحزاب الإسلامية في القضايا الكبرى دون مظلة ورافعة فكرية-سياسية صالحة لمحاججة الغير ومغالبته أكاديميا في صالونات النخبة، ومراكز الأبحاث. ويبدو واضحا أن الفشل في هذا المجال أخد يعوض بصياغات سياسية بديلة مشكوك في صوابيتها، لأنها في عمومها تنحو منحا تقنيا تنافس تسلطية الحاكم وازدرائه بالأسس المعرفية والتطبيقية للديمقراطية. ويمكن للمتتبع لمسار الأحزاب الإسلامية أن ينظر إلى حالة جبهة العمل الأردنية (بصراعاتها الداخلية)، وحزب العدالة والتنمية المغربي (باختلافاته الداخلية)، ليلحظ أن السعي الدؤوب في مسار التيقنوقراطية السياسية تنتهج في ظل نسق سياسي غير ديمقراطي بمبررات غير مقنعة وبرامج سياسية عير متقنة.
ففي حالة حزب العدالة والتنمية بالمغرب، أصبح منطق احتراف السياسة يحتل جل مربعات احتراف التفكير الموروث أصلا من احتراف الدعوة الدينية القائمة على الإقناع والبحث العلمي، وامتدت أجواء هذه "القناعات الجديدة" عند الإسلاميين، لتدخل في معيار الترشيح للانتخابات البرلمانية والبلدية، وتساهم في بناء نظام علائقي جنيني أقرب إلى البنية الزبونية داخل التنظيم الحزبي منه إلى إتباع المساطر والقوانين الداخلية للحزب.
من جهة ثانية، يمارس الحزب السياسة من منطلق السياسة كمخاض يومي تدبيري يخضع لرد الفعل، مما يجعل استراتيجة الحزب غامضة عند أعضائه، فضلا عن منتقديه، والحاقدين عليه. وفي ظل هذا المنطق أصبحت السياسة تعني المشاركة في الانتخابات وتجييش الصف الداخلي خلال هذه المرحلة، وتراجعت مركزية بعض الأسئلة الكبرى مثل الموقف من:
- علاقة الدين بالسياسة؛
- الإسلام والديمقراطية؛
- علاقة تطبيق الشريعة بالمؤسسات الدستورية ، من يطبق الشريعة، الدولة أم الأمة: المجتمع المدني؟؛
- القانون الوضعي وعلاقته بإعادة صياغة مقاصد الشريعة؛
- حدود علماء الشريعة ودورهم في السياسة وخاصة في مراقبة دستورية القوانين؛
- القداسة والسلطة السياسية، من المقدس إرادة الأمة أم شخصية الحكم؟.
ولعل محاولة حزب جبهة العمل مجاراة الملكية الأردنية في البحث عن الحلول والأفكار التقنية لبعض القضايا، يظهر بجلاء فشل نموذج إسلامي( خاصة التيار الذي يزعم أنه المعتدل داخل الحزب) في لعب دور يتصادم مع بعض الأسس المعرفية للإسلاميين، حيث رسخ الفقهاء قولهم المشهور: العلم قبل العمل. كما أن توسيع قاعدة النخبة الأكاديمية كما هو الشأن بالنسبة لتجربة للحركة السلفية الكويتية- الأحزاب ممنوعة بالكويت-، أنجح سياسيا وأكاديميا من وضع التقنيين في الواجهة السياسية للمشروع الإسلامي الحضاري.
ولسوء حظ الأحزاب الإسلامية، أن زحف التقنيين ومتوقعهم في قمة الهرم الحزبي، يعيد إلى الأذهان ما طرح بعد نكسة 1967م من استقالة الإنتليجينسيا العربية العمل السياسي العام المباشر لصالح نخبة نفعية ذات أغراض فردا نية، كما أن رسالة الإسلاميين التي يبشرون الجماهير بها تصبح مبهمة وتنزع إلى بعض الشعارات للتغطية عن إعطاب التواصل والقدرة على تفسير رؤاها للنخب المجتمعية المختلفة معها، فترفع شعارات مثل " الإسلام هو الحل" أو "الوسطية والاعتدال". ففي غالب الأحيان يجهد المراقب الموضوعي لظاهرة الأحزاب الإسلامية نفسه في دراسة برامجها الحزبية، فيجد أن مضمونها لا يقر بكثير اختلاف، وتمييز، أو تفرد في الإستراتيجيات مقارنة مع الأحزاب الأخرى التي تعاني من أزمة هوية وشعبية، كما يصدق ذلك حتى بمقارنتها مع النظام الغير الديمقراطي.
ورغم أننا نقر بالاختلاف الكبير بين هذه الأحزاب والنظم القائمة ومع العلمانيين، إلا أن النظرة التقنية تعمق من أزمة الإسلاميين، وتجعلهم أكثر إخفاقا في مواجهة الأنظمة والنخبة المتغربة، فهي لا تستميل بشكل جيد "المتدينين البسطاء"، حيث تستقطبهم الدولة في أجهزتها الدينية الرسمية، كما يضع بعض هؤلاء أنفسهم كمتتبعين لحالة الاحتكاك التي تحدث بين الفينة ولأخرى مع السلطة السياسية. أما القسم الأخر من النخبة المتدينة، فأمام ضيق القنوات الحزبية واعتمادها على التيقنوقراطيين في تسير الشأن الحزبي، فقد اختار الإصلاح من خلال الالتحاق بالدولة وأجهزتها تحت ذريعة لا تعدو كونها مبررا نفسيا خالصا، إذ ما هي حدود الإصلاح ومنه السياسي والديني أمام سيطرت الأمني عليهما؟ وما هدف الأحزاب الإسلامية: التبليغ البيروقراطي المعتمد على الرجل التقني، أم التبليغ العلمي المعرفي المستند إلى رجل العلم في الميدان السياسي؟
أن اختلاف الإسلاميين مع غيرهم ناتج بالأساس عن الإيديولوجية والرسالة الدينية المحمولة من طرفهم، وبناء على معطيات التاريخ الإسلامي نلاحظ أن إسلامي اليوم لم يستوعبوا قوة المجتمع وتفوقه الكبير على الدولة فبل الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي، كما لم يستفيدوا من تجربة رجل العلم والسياسة -العالم- الذي كان عاملا حاسما في مناهضة الطغيان والدفاع عن العدل وتغير المشهد السياسي.
صحيح إن الإسلاميين قبل أن ينتقلوا إلى العمل الحزبي كانوا وما يزالون في المجتمع المدني، إلا أن تطوير عملهم لبناء مجتمع مدني قوي، وثري، له اهتمامات سياسية، ووعي راشد وديمقراطي لازال ضعيفا، ولا يبالي بدراسة تاريخ المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية في الإسلام وتاريخ المسلمين، وكيف يدار المجتمع اقتصاديـــا واجتماعيـــــــا و علاقته بالقضايا الجوهرية، كالدفاع المبدئي عن حقوق الإنسان وفق القوانين الإنسانية.
أن عمل المجتمع المدني، وانشغاله الثقافي والعلمي عبر مراكز للبحوث بالوضع السياسي، يضفي صفة الواقعية الحقة على الفكر السياسي النخبوي و الشعبي، مما يخلق تكاملا صحيا مع النشاط الحزبي المباشر؛ من جهة أخرى فإن ولاء جزء من المجتمع المدني لخط، أو مرجعية سياسية يرفع من نسبة تجاوز النظرة الغامضة والشعاراتية حول بعض القضايا الكبرى، مثل كيفية تسريع وتيرة الديمقراطية.
ولعل تجربة الانتقال الديمقراطي في أمريكا اللاتينية تعطي درسا بالغا، وتجربة عملية، للأحزاب السياسية الإسلامية حيث جسدت بجلاء صورة لمجتمع مدني بإيديولوجيات متنوعة ، دينية، ووضعية، استطاع أن يتحول بسلاسة إلى لوبي لخلق تحالفات مجتمعية، وسياسية خدمة للهدف الشعبي الأكبر، وهو تحقيق الديمقراطية ودحر الاستبداد.
خاتمة
لقد كشفت التجربة المتواضعة، والخيارات السياسية لهذه الأحزاب عن قدرة لا بأس بها في التكيف التكتيكي مع الوضع السياسي المأزوم والموبوء عربيا، ودوليا، بيد أن علة الوجود بالنسبة لهذه الأحزاب الإسلامية، تكمن في إيجاد أطروحة سياسية نظرية وقابلة للتطبيق، تستجيب لطموحات الشعوب المفتقدة للعدالة والحقوق الأساسية؛ وهو ما لا يمكن إدراكه في خضم انشغال القيادات بالتدبير التقني والاستكانة لمخطط قتل السياسة باحتكار السلطة السياسية عبر الدستور الغير الديمقراطي، أضف إلى ذلك النزاعات الداخلية وخلق الاصطفاف وراء هذا الزعيم أو ذاك تحت ذريعة مراعاة الظروف السياسية، أو تقديم صورة معتدلة عن الحزب، فقد أصبح حال لسان بعض القيادات يقول: "التيقنوقراطيين ضمانتنا لتسريع العمل و مرور القرارات، والتواصل مع العالم الخارجي".
إن وضع هذه الأحزاب يجعلنا غير متأكدين من قدرتها على معالجة اختلافاتها الداخلية ، مما يسبب لها رخاوة داخلية، وابتعاد نخبتها الأكاديمية عن العمل التنظيمي قد يجعلنا أمام أحزاب متدينين بمرجعية شبه علمانية. وبالمقابل لن يخبو نجم هذه الأحزاب قريبا كما يزعم أصحاب نظرية أفول الإسلام السياسي، فهذه الأحزاب تملك تماسك قيمي داخلي مشترك مع الشعوب، الشيء الذي مكنها من التموقع في الحقل السياسي للدولة العربية في عصر الحداثة السياسية، دون أن تحدث قطيعة معرفية مع التراث السياسي الديني.