سبق لي أن علقت على مواقف الفقهاء من الإبداع بمناسبة ما دار من جدل أجوف حول أعشاب البحر. فميزت حينها بين الإبداع الذي لا يجادل في حرية التعبير فيه إلا سخيف الرأي وقليل الذوق وبين توظيفه لجعله أداة نضال إيديولوجي ضد عقائد الآخرين كما يحصل عند من لا يقل سخافة عن معارض الإبداع باسم الدفاع عن الدين. ولعل المعركة الدائرة حول تكفير الروائية الليبية البوعيسي بسبب روايتها "للجوع وجوه أخرى" (راجع في ذلك عرض المسألة بإسهاب في موقع ألف نقلا عن العربية نت بقلم فراج إسماعيل في يوم السبت 12 كانون الثاني 2008) يساعد على فهم طبيعة الظاهرة المرضية التي تخفي أعماق حقيقة تفسد على الإبداع والدين معا منزلتهما الرفيعة ودورهما في الثقافة.
فالبدائل الزائفة من الفن والدين عند موظفيهما وتبلد الذهن النقدي عند الحزبين من الأصوليتين الدينية والعلمانية لا يمكن إلا أن يؤولا إلى قتلهما فضلا عما يسببانه من فوضى روحية قد تؤول إلى حرب أهلية تبدأ رمزية وتنتهي عسكرية. فكلا الصفين يترك معايير التجربة الفنية والتجربة الروحية ليكتفي بمعايير الإيديولوجية يحاكم بها صاحبه: وهذا الداء هو مرض الروحانية العربية الحالية في مجال التجربتين الفنية والروحية مرضها الذي يعاني منه الحزبان الديني والعلماني وعلة الداء هي المعركة الدنكيخوتية بين الأصوليتين الدينية والعلمانية.
وسأبدأ بالوجه الدنكيخوتي عند الأصولية الدينية التي تبدو أصل الداء لبيان سخفه ثم أنتقل إلى نفس الوجه عند الأصولية العلمانية التي هي أيضا مسهمة في تأجيج أعراض الداء. ذلك أننا سنلحظ تناظرا وتوازيا مطلقا بين الموقفين بمجرد أن نستبدل التجربة التي يتكلم باسمها الصفان: فما يمثله إفساد التجربة الروحية عند الأصولية الدينية يناظره إفساد التجربة الفنية عند الأصولية العلمانية لمجرد أن الصفين لم يفهما بعد أن التجربتين لا تنفصلان عندما تكونان صادقتين.
وبخلاف ما يتصور الكثير فإن من يقدمون أنفسهم بصفة التنويريين لا يختلفون عن خصومهم: فهم أعداء ما يزعمون الدفاع عنه أعني الإبداع لمجرد توظيفهم إياه في حرب علتها الخلط بين إفراط المتكلمين باسم الدين والدين مثل الصف الثاني الذي هو عدو ما يزعم الدفاع عنه لمجرد توظيفه في حرب علتها الخلط بين إفراط المتكلمين باسم الفن والفن. ونفس الأمر حصل في كل مؤسسات البحث العلمي في جامعاتنا التي تحولت إلى هندام في الصراع الإيديولوجي فتخلت نهائيا عن الوظيفة الإبداعية في المعرفة العلمية وصار جل الأساتذة إما في خدمة الأحزاب الحاكمة أو في خدمة الأحزاب المعارضة فضلا عن المصالح الأجنبية التي توظف الجميع بوعي منهم أو بغير وعي.
وقصدي في هذه الملاحظات السريعة أن أبين أن الموقفين يدلان على درجة كبيرة من السخف العقلي والتبلد الذوقي في الساحة الثقافية العربية مكتفيا بالإحالة إلى كلامي على طبيعة الظاهرة عندما تنتسب حقا إلى الإبداع وعلى إيماني بأنها بشروطها التي تجعل السجال محفزا للإبداع يمكن أن تكون ظاهرة صحية أحيل إلى كتابي في الشعر المطلق والإعجاز القرآني (دار الطليعة بيروت) أو كتابي وحدة الفكرين الديني والفلسفي (دار الفكر بيروت ودمشق).
كيف تفسد الأصولية الدينية الإبداع الروحي
هبنا جارينا الأصولية الدينية فاعتبرنا أقوال الأبطال في العمل الإبداعي معبرة عن رأي صاحب العمل أفلا يكون المبدع عندئذ معبرا بصدق عن أزمة حقيقية في الوجدان الجمعي الذي ليس هو منه إلا إحدى العينات؟ فهل يمكن عندئذ محاكمته على صراحته في التعبير عما يعاني منه من شكوك ووصف لحاله الروحية التي تحتاج إلى فهم بدل الحرب عليها؟ أليس الأولى بمن يزعم الكلام باسم الدين والدفاع عن القيم أن يحاول فهم الأمر ليستفيد من التعبير الأدبي الذي يمثل محرار حال الأمة الروحية وما يتهدد حصانتها فيكون العلاج بطلب أصل الداء بدل الاقتصار على تكفير الصادق من المعبرين بصراحة عما يختلج في سرائرهم ؟
يكفي لفهم سخف هذا الموقف الذي يحارب التعبير الحر عن الشكوك الدينية والحيرة الروحية بيان عقم مستويات هذه الحرب الغبية على الإبداع لكأن الإيمان ليس طريقا طويلة يقطعها المرء بين حدين تكاد المسافة الفاصلة بينهما أن تكون لامتناهية:
1-في المستوى الأول: فهذا الموقف سيدفع كل أديب حقيقي يريد أن يعبر عن تجربته الوجدانية بصدق أو متأدب خاصة يتظاهر بذلك إلى البحث عن حام داخلي أو خارجي ضد البوليس الديني الذي انحطت إليه وظيفة الفقيه. وبذلك يكثر الجنود الذين يوظفهم الحامي في حربه النفسية على الحضارة العربية الإسلامية. فيكون من يزعمون حماية الأمة أكبر مخربيها. ذلك أن هذا الموقف يؤدي المبدعين سواء من كان منهم في مرحلة التجريب أو من تأكدت قدراته الإبداعية -على الأقل من باب الدفاع عن النفس ضد المتكلمين باسم الدين -إلى الكفر بالثقافة الوطنية.
وبدل من أن يكونوا مجرد ساعين إلى التعبير عن معاناة شخصية في تجربتهم الروحية دون معاداة للدين الصادق يتحولون إلى مناضلين من أجل أمور ليست مشروطة في الإبداع بل لعل عكسها هو الأصح كما سنرى. وينبغي أن يعلم من يزعمون الخوف على الدين أنه ليس مما يخاف عليه إلا عند من لا يصدق بقيمته في ذاته. ذلك أن كل من كان صادقا في تعبيره عن تجربة فنية فعلية فإنه بالضرورة سيكون ذا وجدان روحي أعمق من وجدان من يمارس الشعائر دون إيمان قلبي حقيقي ككل الذي يتدينون بالعادة ومن دون تجربة روحية حقيقية: التجربة الفنية والتجربة الروحية وبخلاف الظاهر أختان لا تفترقان ما كانتا صادقتين.
2-في المستوى الثاني: وهذا الموقف سيدفع كل يريد أن يعبر بصدق دون أن يجد من يحميه من البوليس الديني رغم كونه يعاني من نفس الداء إلى أن يصبح منافقا ومن ثم فهو دون شك أخطر على الدين وعلى أهله من الصنف الأول الذي أعلن الحرب صراحة فضلا عن انحطاط الأخلاق العامة عندما يصبح جل المواطنين يتعبدون خوفا من البوليس لا حبا في ما يتظاهرون بالإيمان به. وبدلا من العمل على جعل الدين محبوبا لذاته يجعله هذا السلوك المنفر مكروها فيكون هذا الموقف الذي يتصوره أصحابه دفاعا عن الدين هو الحرب الحقيقية على الدين وليس المعبر بصدق عن تجربته الروحية خاصة إذا لم يصحبها توظيف من حماة من علمانيي الداخل أو من الأجانب.
3-في المستوى الثالث: وبسبب المستويين الأولين يصبح باب الاجتهاد الفني والروحي في الأمة ممتنعا فيصبح الإنسان مضطرا أن يتبع بصورة نهائية أحد نهجين حديين لا وسيط بينهما فتكون البذرة المؤدية إلى الحرب الأهلية التي تبدأ جدالية رمزية وتنتهي عسكرية مادية. فإذا حصرنا المجتهدين في خيار بين أن يكون إما كافرا بإطلاق أو مؤمنا بإطلاق نلغي مفهوم الإيمان من أصله لأنه ليس غاية العقد بل مسار العقد الذي يزيد وينقص ومن ثم فهو طريق لامتناهية. لذلك فالمرء الصادق في إيمانه ولمجرد كونه صادقا وحيا لا يمكن إلا أن يكون ممن يعانون تجربة الشك والتردد والبحث الذي لا يتوقف لأن أحوال الوجدان ليست خاضعة لمنطق عدم التناقض والثالث المرفوع: التجربة الفنية والتجربة الروحية لا تعيران بالغاية بل بالمسار الناقل من البداية إلى الغاية.
4-والمستوى الرابع: واجتماع المستويات الثلاثة السابقة لا يقتل التعبير الفني الحر عن الحالات الروحية والوجدانية فحسب بل هو يقتل كل حياة فنية كانت أو دينية أو علمية فيكون حائلا دون أهم علاج روحي ونفسي للأمم أو ما يسميه أرسطو علاج التطهير فيعم الجفاف والتصحر الروحي وتعود الأمة إلى بربرية البداية التي يعلم الجميع موقف القرآن الكريم منها. اجتماع المستويات الثلاثة السابقة هو عودة الثقافة إلى بربرية البداية بمعنى حصر الوجود الإنساني في الأكل كما تأكل الأنعام التي يعيبها القرآن على كل من لا يتدبر الآفاق والأنفس: ولا يمكن تدبرهما من دون شك وحيرة خلال المسار الموصل عند الصدق إلى الطمأنينة. ووظيفة أسمى أجناس الآداب والفنون هو التعبير عن معاناة المسار وليس من دوره أن يكون داعية لا بالإيجاب (كما يريده غلاة الفقهاء من الدينين) ولا بالسلب (كما يريده غلاة الفقهاء العلمانيين).
5-والمستوى الأخير: يفيد بأن أصحاب هذه المواقف السخيفة تجعلهم يزعمون الغيرة على الإسلام والدفاع عن الدين وهم بهذا السلوك أول الكافرين بثورة كتابه الروحية. فلا أحد يجهل أن سبب نزول أهم آية تتعلق بحرية المعتقد والإيمان هو أن أحد الآباء الذين أسلموا حديثا أراد أن يفرض الإسلام على ابنيه اللذين اختارا المسيحية ولم يتبعاه في إسلامه فأراد أن يكرهما عليه فنهاه النبي عن ذلك ونزلت الآية 256 من البقرة مباشرة الآية التي ظنها البابا محكومة بظرف الضعف الذي كان النبي عليه وليست قضية مبدئية في القرآن الكريم: "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم".
أفيكون هؤلاء المدافعون المزعومون أكثر غيرة على الإسلام من رب الأنام؟ ومن نبي الإسلام ؟ أم إنهم من حيث لا يعلمون يعملون كل ما في وسعهم لإخراج الناس من الإسلام بسبب ما ينتج عن هذه العلل التي ذكرت والتي تعبر عن تخلف في المعرفة بأسرار الروح البشرية والآليات النفسية في مسائل العقائد التي كل عنف أو إكراه ينفر منها ولا يساعد على انتشارها ؟ وهب هذه السيدة خرجت من الإسلام فهل يعني ذلك أن الأرض أخرجت زلزالها؟ كم من غير المسلمين دخل الإسلام في مقابل ذلك؟ ثم لماذا لا نلحظ ما يثلج الصدور ونهتم بالقشور: فغالب الذين يسلمون من الغربيين يسلمون لعلمهم وعدم الحاجة المادية وغالب الذين يخرجون من الإسلام يخرجون منه لجهلهم وبسبب الحاجة المادية. ألا يكفي ذلك !؟
لماذا لا يفهم هؤلاء الذين قال فيهم حجة الإسلام إنهم أخطر على الإسلام من كل أعدائه أن هذه السيدة إذا كانت جائعة حقا-سواء كان جوعها عضويا أو روحيا- ستشبع يوما وأنها إذا كانت صادقة في طلب الحقيقة ستهتدي حتما إلى ما يريده لها الله -هذا على الأقل عند من يؤمن بأن للبيت رب يحميه- أعني إلى ما يرضاه لها منزلة بين العالمين. أفيعقل أن ينهى الله نبيه عن إكراه الناس على الإيمان وأن يذكره بأنه ليس عليهم بمسيطر ثم يحق لفقيه أو مفت مهما كان علمه أن يدعي لنفسه ما حرمه الله على النبي؟
كيف تفسد الأصولية العلمانية الإبداع العقلي
ما لم أفهمه هو الفرح الصبياني وشبه الشماتة بحال المسلمين كلما حدثت حادثة تافهة من هذا النوع-والمعلوم أن حال المسلمين في مجالات أخرى اخطر لا تسر الصديق وكنا نأمل أن يتألم منها العلماني وأن ينشغل بها في ما يزعمه من ثورة قيمية إذا كان حقا صادقا في سعيه للتحديث وليس جاعلا منه نقمة على كل شيء-كلما ظهرت مثل هذه الظاهرات التي يطبلون لها ويزمرون ثم يحولونها إلى منجنيق يتوالى منه رمي الإسلام والمسلمين فينضمون إلى صف أعدائه بدلا من العمل الجدي على تدبرها والبحث عن علاجها مثل أي إنسان نزيه يريد مناخا منفتحا للحياة الفنية والروحية على حد سواء.
ذلك أنه إذا كان يمكن للمبدعين أن يكونوا صادقين في التعبير عن مثبطات تجاربهم الروحية بشكل إبداعي إما على لسانهم مباشرة أو على لسان أبطالهم بصورة غير مباشرة فإني لا أفهم كيف يمكن أن يتحول ذلك-على أهميته التي لا ينكرها إلا معاند-إلى حجة على الإسلام أو على المسلمين كما يفعل جل الأصوليين من غلاة العلمانية بدلا من أن يكون وصفا لحال المسلمون هم أنفسهم أول من يعتبره من بقايا الانحطاط وليس من جوهر عقيدتهم.
أليس ذلك مما يمكن أن يجعل مغالاة بعض العلمانيين- رسامي الكاريكاتور لحال المسلمين والإسلام- تيارا سيؤدي إلى نفي الحكمة والروية على الفكرة نفسها فيؤدي إلى تعطيلها بدل المساعدة على تحقيق الممكن منها وفي الحدود المعقولة بحسب نضوج الشروط وتنوع التجارب الحضارية ؟ ترى هل منهم من يمكن أن يكون له نصيب من العقل والاتزان فلا ينساق أمام الدعاية الكاريكاتورية التي لا ترى من المسلمين إلى غبي الفتاوى ومتزمت المواقف وتنسى أن جل القادة في ثورة التحرير العالمية منهم حتى وإن كان ذلك رغما عنهم بسبب التكالب على أرضهم وعرضهم وربما بسبب إدبار اليسار عن أداء دوره في معركة التحرير ؟
أليس من المفروض أن يكون العلماني محايدا في أمر العقائد فلا يحول الأدب إلى مجرد سلاح عقدي بحيث بات ينظر إلى الأديان بعين لم تعد ترى مسائل الإيمان والكفران والعقائد من أسرار الضمائر؟ أليس في ذلك منافاة للموقف العلماني المزعوم أم إن للعلماني الحق في الحرب على الدين فيحول معركة حرية التعبير والإبداع إلى مجرد قوس يرمي بها المسلمين انسياقا مع الباحثين عن بديل من العدو الاشتراكي فوجدوه في المسلمين ؟ هل يعقل أن يصبح من شروط الموقف العلماني والحداثي تحويل الفن إلى مدفع لدك الحصون والحرب على مقدسات الشعب لاستفزازه دون داع بدلا من أن يكون موقفا ذا فكر بناء يساعد الأمة على التطور الرصين الذي يحيي القيم بدل العمل على تعميم الفوضى الروحية التي لن تزيد الثقافة إلى عنفا رمزيا وماديا؟
ومثلما ميزنا مستويات موقف الصف الديني في حالة الدنكيخوتية الأصولية الدينية فإننا نستطيع أن نحدد بالتناظر العكسي نفس المستويات في الصف العلماني الذي يعاني من الدنكيخوتية الأصولية هو أيضا. ذلك أننا لو جاريناهم فحولنا أقوال الشخوص ومواقفهم في العمل الإبداعي إلى بيانات ذات التزام نضالي مع العلمانية وضد الدين فإن الفن سيفقد طبيعته الإبداعية التي تترجم عما يعاني منه صاحبه من شكوك وتعبر عن وصف لحاله الروحية التي تحتاج إلى فهم بدل توظيفها في النضال العلماني. لو جاريناهم في هذا التصور هل يبقى للفن والإبداع طابعة الفني المخلص للقيم الجمالية أم تراه يتحول إلى دعاية مذهبية ؟ ألسنا نرى أن النقد الأدبي عند الحداثيين لا يكاد يتجاوز النقد الثقافي الذي هو في الحقيقة نقد إيديولوجي لمضمون إيديولوجي ليس لهما من الإبداع الفني أدنى ذرة.
ويكفي لفهم سخف هذا الموقف الذي يوظف التعبير الفني الحر فيجعله أداة نضال إيديولوجي ضد الدين أو مع العلمانية بدل من أن يكون تعبيرا عن شكوك وجدانية وحيرة روحية أن نظهر عقم مستويات الحرب بالإبداع على الدين عند الأصولية العلمانية المناظرة للحرب عليه بالدين عند الأصولية الدينية:
1-في المستوى الأول: هذا الموقف سيجعل كل من يطلب الحظوة عند أصحاب الإيديولوجيا السائدة يدعي أنه مبدع في حين أنه بروباجندي في خدمة بوليس الثقافة العلمانية التي انحطت إليها وظيفة المثقف الحداثي فيجف معين الإبداع ويقتل أصحاب التجارب الصادقة من العلمانيين. فالتوظيف الإيديولوجي باسم الالتزام الإيديولوجي-كما حصل للأدب المزعوم واقعيا-سيحول منتوجهم إلى ريبورتاجات صحفية وبيانات حزبية من جنس مانيفاستو العقلانيين.
ولعل الدرك الأسفل هو ما يعرض من أفلام نضالية ضد ما يسمونه الإرهاب ويزعمونها إبداعا في حين أنها لا تتجاوز البروباجندا المبتذلة ضد من يزعمونهم ظلاميين. فهل يمكن أن يعد إبداعا فنيا مجرد ترديد الكاريكاتورات التي تعمل بها الاستعلامات الغربية في حربها النفسية ؟ كيف ينسى هؤلاء المزعومون مبدعين لو كانوا حقا صادقين أن النضال التحريري سواء ضد الاستبداد الداخلي أو الدولي ليس له من جنود إلا هؤلاء المزعومين ظلاميين بعد تخلي اليسار عن واجباته وارتداده تحت راية الليبرالية الجديدة وبالذات بهذا الفن المنحط الذي يختزل الثورة العالمية في اللحي والتعاويذ وينسى أن هؤلاء الثوار ليسوا من فقراء العالم الإسلامي بل هم من أكبر أثريائه فضلا عن كونهم ليسوا من أقل الناس اطلاعا على الحضارة الغربية التي يحاكيها من لا يعلم منها إلا القشور؟
ولنكتف بمثال الكلام عن الصلاة عند هذه الآنسة. فهي لم تقل شيئا يخالف ما قالته وفاء سلطان فيها تفضيلا لمفهوم الصلاة المسيحية عن مفهومها المسيحي. هل في هذا تعبير عن الإبداع أم عن الجهل بالمعاني؟ فليس من شك أن الكسالى يفضلون تخيلات من يهذي وهو ساكن في السرير على حركية الرياضي الذي يعانق السماء بما يشبه الرقص الوجودي. فصلاة تكتفي بالتمتمة الكسلى وصلاة تشبه الرياضة البدنية سواء كانت فردية أو جماعية لا تقبلان المقارنة إلا عند العودة إلى خلق ممارسهما. فإن كان كسولا ولا يفهم العلاقة بين البدن والروح فإنه سيفضل الأولى وإن كان نشطا ويفهم العلاقة بينهما فإنه سيفضل الثانية. لكن ذلك لا علاقة له بالإبداع الأدبي بل هو من مجال علم النفس والوجود.
2-في المستوى الثاني: وهذا الموقف العلماني المغالي سيضطر كل من ليس له من يحميه ضد البوليس العلماني من المسيطرين على الساحة الثقافية وأصحاب صكوك النجومية فيها خاصة إذا كان صادقا ويعاني من نفس الداء سيضطره إلى أن يصبح منافقا في الموقف من العلمانية على الأقل ليعيش. وليس من شروط النفاق أن يكون بالإضافة إلى الدين بل هو يمكن أن يكون بالإضافة إلى أي عقيدة بما فيها العقيدة العلمانية: ولعل أفضل مثال على ذلك ما سمعته من الكثير من "العقلانيين العرب" هزؤا باسم رابطتهم لكنهم بحاجة إلى ما يُدفع لهم مقابل مناشير إيديولوجية لا صلة لها بالعلم ولا بالإبداع. وليثق القارئ أني لا أتكلم على الأداني منهم بل على بعض رؤسائهم أو على الأقل ممن ليسوا من أواخر الأسماء في القائمة الرسمية لأصحاب الرابطة وممن حضروا نزهة باريس التأسيسيه.
وسيكون الصادق من العلمانيين في التعبير عن شكوكه في العقيدة العلمانية وحيرته من مفارقاتها عاجزا عن التعبير عنهما لأن مناخ الأصولية العلمانية لا يختلف عن مناخ الأصولية الدينية في قتل الحرية المبدعة على الأقل بالروح المذهبية والتعصب الطائفي. ومن ثم فسيكون هذا النوع من المقموعين أخطر على الموقف العلماني وعلى أهله من النوع الأول الذي أعلن عليهم الحرب صراحة.
3-في المستوى الثالث: لن يكون باب الاجتهاد الروحي الذي يجادل في العلمانية أكثر انفراجا من باب الاجتهاد الروحي الذي يجادل في الدين لأن الأصوليتين تتفقان على القمع والعنف الرمزي وأحيانا المادي (عند الديينين في الساحة العسكرية وعند العلمانيين في الساحة الثقافية: كلاهما له تورابوراه والفرق في رفاه الثانية وشظف الأولى لا غير) بحيث يصبح الإنسان مخيرا بصورة نهائية بين حدين لا وسيط بينهما. فعليه أن يكون إما علمانيا أو ظلاميا ولا وسط بين الموقفين في حين أن المرء الصادق في مواقفه خاصة إذا كان من المبدعين ولمجرد كونه صادقا وحيا لا يمكن إلا أن يكون ممن يعانون تجربة الشك والتردد والبحث الذي لا يتوقف لأن أحوال الوجدان الروحي أو العقلي ليست خاضعة لمنطق عدم التناقض والثالث المرفوع.
4-والمستوى الرابع: سيكون قتل التعبير الفني الحر عن الحالات الروحية والوجدانية بمناسبة الخيار الخلقي بين الانتساب إلى العلمانية أو إلى مواقف أخرى حائلا دون أهم علاج معرفي ونفسي للأمم أو ما يسميه سقراط علاج السؤال واللاأدرية فيعم الجفاف والتصحر الروحي العلماني وتعود الأمة إلى بربرية الغاية أو التصحر الحداثي الذي يشكو منه جميع فلاسفة المراجعة ما بعد الحداثية بما في ذلك أشد العلمانيين علمانية الذين باتوا يرون ضرورة الجرعة الروحية في النظام السياسي قصدت هابرماس مثلا.
5-وفي المستوى الأخير: فإن كل أصحاب هذه المواقف التي يزعم أصحابها الغيرة على العلمانية والدفاع عن العقل هم أول الكافرين بمبادئهما. فقل أن تجد من يجهل أن أهم مبادئ العقل هو التحرر من الوثوقية وسذاجة القول بالحقائق الميتافيزيقية النهائية سعيا إلى القول بحرية المعتقد سواء كان دينيا أو فلسفيا من موقف مثبت أو ناف كما يحدد ذلك الفصل المتعلق بحرية التعبير من حقوق الإنسان بوصف حرية التعبير هي عينها التعبير عن الحرية فيتلاحم الوجود الحر الذي هو موضوع التجربة الروحية والتعبير الحر عنه الذي هو موضوع التجربة الجمالية.
أم إن هؤلاء المدافعين المزعومين عن العقل أكثر غيرة عليه من الفلاسفة المؤسسين فيصبحون راقصين كلما سمعوا بسخافات دارت بين فقهاء أميين وأديب ناشئ غالبا ما يكون زبيب حرمص لا يحسن التعبير عن أحواله الوجدانية فيحولها إلى منشور نضالي وقد يكون الدافع طلب الشهرة. فالتعبير عن الأحوال الوجدانية في الإبداع الحقيقي ليس بالأمر اليسير ولا هو في متناول كل من هب ودب: فهو أعسر من الإبداع العلمي لأنه مشروط به فضلا عن التمكن من ثقافة قل أن تجدها عند المتآدبين الذين لا يكادون يفقهون أكثر من مائة كلمة من لغتهم القومية فضلا عن لغات الإبداع العالمي.
ويكفي النظر إلى ما بادر إليه الكبار من أمثال شكسبير أو جوته أو دستويفسكي أو المعري: فكل هؤلاء لا يعبرون عن أحوال نفوسهم السطحية بل هو يغوصون بعلوم عصرهم إلى أعماق التجارب الروحية والفنية. فقد بلغوا بالجرأة النقدية لعلاج أسرار الوجود والنفس البشرية والحياة الروحية حدا يلامس كل المحظورات الاجتماعية أو التابوهات وفي ذلك يشاركهم كل الأنبياء كما يفهم ذلك كل من يتدبر القرآن الكريم ولم يكفرهم أحد. لكن غلاة العلمانية ليس لهم الصبر على قراءة الكتب عامة والكتب الدينية خاصة سواء آمنوا بها أو لو يؤمنوا لتأكدوا من ذلك: فالجهل يحميهم من عدوى الظلامية المحتملة !
ذلك أن علاج أمثال هؤلاء من المبدعين علاجهم لهذه المسائل لم يحول كلامهم إلى خطاب مباشر يعبر عن مواقفهم الشخصية في مسائل عرضية هي في الغالب من علامات النفوس الضعيفة وليست من دلائل الإبداع. فالمهم في الإبداع ليس هو أحوال النفس الفردية بمعنى الأحاسيس السطحية لمن لم تعركه الأيام ولم تثقفه التجارب الروحية العميقة التي لا يسيطر عليها للتعبير عنها إلا صاحب السلطان الإبداعي المتين بل هو علاج فني ووجداني للكلي من مغلقات الوجود التي يشترك فيها الوجدان الإنساني من حيث هو إنساني إذ إن الإبداع ليس تاريخا ولا هو صحافة فضلا عن أن يتحول إلى مواقف نضالية مباشرة أفسدت التجربتين الفنية والروحية فكانت مرتع الذباب والبعوض الذي أنتج هذا المرض المسمى حربا أهلية بين الأصوليتين الدينية والعلمانية.
كلمة خاتمة
وإلى أن يفهم كلا الحزبين الأصوليين هذه الحقائق لم يبق لنا إلا أن ننعى ما هو أهم من المناخ الذي يزعمونه شرطا في الإبداع. فالمفقود حقا هو الإبداع وليس شروط حرية الإبداع التي يتذرع بها من يحاول أن يجعل الإبداع في المغامرة التاريخية الفعلية فضلا عنه في المغامرة الرمزية مجرد اتباع للحاصل من التجارب سواء كانت من ماضينا أو من ماضي الغرب دون أن يرى المفارقة في الجمع بين الدعوة إلى الاتباع في الوجود الفعلي للحضارة والإبداع في وجودها الرمزي. لم تكن انجلترا زمن شكسبير ولا ألمانيا زمن جوته ولا روسيا زمن دستويوفسكي ولا الشام والعراق زمن المتنبي والمعري لم يكن أي من هذه البلاد ينعم بالحرية والديموقراطية أو يخلو من التعصب الديني والتزمت الفقهي وإنما حصل الإبداع عند هؤلاء الرجالات لأنهم كانوا عظاما حقا فغلب شلال الإبداع من ينابيعهم الدفاقة التعلل السخيف للمدقع من القرائح فكانت أباديع هؤلاء الفرسان المصابيح التي تهدي خطى كل إنساني يؤمن التلازم الدائم بين التجربتين الفنية والروحية.
وليس معنى ذلك أننا لا نتمنى ولا نسعى إلى تحقيق مناخ الحرية في كل المجالات وليس في الإبداع وحده. لكننا نريد أن نشير إلى أن الحرية ثمرة الإبداع وليست شرطه وخاصة الإبداع العلمي والسياسي والاقتصادي والحقوقي بالإضافة إلى الإبداع الفني.