شهدت الأيام الماضية في إسبانيا الاجتماع الثاني لمنتدى «تحالف الحضارات» الذي أقامه رئيسا الوزراء الإسباني والتركي، وافتتح أعمالَه بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة بكلمة أكد فيها ضرورات الحوار بين الحضارات والأمم والثقافات، لأن البديل عن ذلك، لن يكون غير الصراع الناجم عن سوء الفهم وتعذر التفاهم. وكان رئيس الوزراء الإسباني ثاباتيرو قد دعا الى إقامة هذا التحالف عام 2004 على مشارف الانتخابات النيابية الإسبانية، وأيَّده في ذلك يومها رجب طيب أردوغان، رئيس الوزراء التركي. ثم تبنّت الأمم المتحدة تلك الدعوة، ودعمت إنشاء «التحالف» المذكور الذي شهد أمينها العام إطلاقه الجديد في الأيام القليلة الماضية.
عندما أطلق ثاباتيرو الدعوة الأولى للتحالف، كان يرى ضرورة فعل شيء لتخفيف التوتر في مجالين: المجال الإسباني الداخلي، وسط تصاعد التذمُّر في أوساط المهاجرين المغاربة في البلاد، ومجال تحسين العلاقات مع المغرب والبلدان العربية والإسلامية الأخرى، بعد أن كانت إسبانيا قد تورطت مع الولايات المتحدة وبريطانيا بإرسال جنود إسبان الى العراق بمبادرة من رئيس الوزراء السابق اثنار. وأثناء الانتخابات عام 2005 حدثت هجمات مدريد التي ثبت ضلوع بعض الشبان ذوي الأصول المغربية فيها، وقيل يومها إن التذمرات من المشاركة الإسبانية المباشرة في غزو العراق وتخريبه.
والواقع أن اقتران مفرد الحضارة أو الحضارات بالصدام او الحوار أو التحالف، يشكل قضية مفهومية كبيرة، ما نجحت الكتابات الكثيرة في جلاء غوامضها والتباساتها. ففضلاً عن الاختلاف بين الدارسين منذ زمن بعيد في مفهومي الحضارة والثقافة، هناك التأويل الأحادي الذي قام به صمويل هنتنغتون في مقالته (في مجلة الشؤون الخارجية الأميركية) عام 1993، حيث ربط الحضارة أو الثقافة، أي حضارة أو ثقافة (وهما لدى الأنثروبولوجيين والمؤرِّخين ليستا مترادفتين) بالدين الذي اعتبره محوراً لها أو لهما. ثم ذكر أن الحضارات أو الثقافات الحية هي ست أو سبع في محاكم اليوم، وأهمها من حيث الفعالية والتأثير: الحضارة الغربية، والحضارة الكونفوشيوسية/ البوذية، والحضارة الإسلامية. وتابع أن الحضارة الكونفوشيوسية تتميز تحركات أممها بعد الحرب الباردة بالانضباط، والتسالُم مع حضارة الغرب، في حين تتميز الحضارة الإسلامية بصِداميتها وأنها تميل الى إقامة حدود دموية مع الآخرين، وبخاصة أن الصراعات أو الحركيات العامة تميل للعودة الى طبائعها الأصلية، أي أنها ليست أيديولوجية أو سياسية بل ثقافية! وجاءت أحداث السنوات اللاحقة لتؤيد ظاهراً أُطروحة هنتنغتون الصدامية، كما تجلّت في هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، والهجمات اللاحقة، وفي إعلان «الحرب على الإرهاب» الإسلامي، وغزو أفغانستان والعراق.
مع أن الجميع وبخاصة الأميركيين والأوروبيين شاركوا في «الحرب على الإرهاب» ولا يزالون وإن بدرجات متفاوتة. لكن مشكلة الأميركيين مع الإسلام والمسلمين، ظلّت مختلفة عن مُشكلات الأوروبيين معه. ففي الولايات المتحدة وكندا جاليات عربية وإسلامية عريضة ، لكن التعددية الدينية مستقرة هناك، وواضحة المعالم من حيث الحدود والحقوق والواجبات. ولذلك ظلّت قضية الأميركيين مع الظاهرة الجديدة خارجية الى حد كبير، ولها أسباب سياسية واستراتيجية، في حين تمثلت مشكلة الأوروبيين (في وسط القارة وغربها) في الهجرة الكثيفة من آسيا وأفريقيا الى بلدان أوروبا المتقدمة والمزدهرة وبخاصة فرنسا وألمانيا. فأوروبا العلمانية بعُمق ما استطاع مثقفوها وعامتها تقبُّل خصوصيات المسلمين المهاجرين إليها، حتى أن الرئيس الفرنسي السابق شيراك المعروف بصداقته للعرب والمسلمين، تحمَّس لإصدار قانون في البرلمان الفرنسي يمنع التمايُز في اللباس ذي الأصل الديني (الحجاب). أما الرئيس الفرنسي الحالي ساركوزي، فخلافاته مع أقطاب من الجالية المغاربية المسلمة مشهورة عندما كان وزيراً للداخلية. ومع أن الاستطلاعات والإحصاءات تقدر أن هناك أكثرية ساحقة من المسلمين الفرنسيين تميل للاندماج ومن دون خصوصيات، فإن الحواشي النافرة ظلّت تُقلق الأوروبيين حتى قبل ظهور أحداث العنف المنسوبة الى شبان مسلمين في بعض المدن الأوروبية قبل 11 أيلول وبعدها. وهذا يعني أن للتوترات الحاصلة أغطية ورموزاً دينية وثقافية، وتظهر في الأوساط الأوروبية من الجانبين، في حين لا تظهر إلا بقدر ضئيل في الولايات المتحدة وكندا.
وتأتي المُفارقة من حقيقة أن أطروحة «صِدام الحضارات» هي أميركية الأصل، وكذلك الحرب على الإرهاب الإسلامي، في حين أنه لا سبب ثقافياً أو دينياً لذلك الصِدام الواقع، بينما تبرز لدى الأوروبيين الأسباب الدينية والثقافية، في حين يُصرّ الشبان المسلمون المتشبثون بالخصوصية أو المتورطون في العنف داخل أوروبا على الأسباب السياسية، مثل موقف الحكومات الأوروبية من الحرب على العراق، ومن الكوارث في فلسطين!
وهكذا، فالواقع أن الأطروحة ذاتها وبشقيها الصِدامي والحواري (فضلاً عن التحالفي) لا تثبت أمام التفحص والنقد. فالحضارات ليست كائنات حية تتصادم أو تتصالح، وإنما الأفراد والدول والأمم هي التي تتصادم أو تتآلف ولأسباب جيو- سياسية واقتصادية واستراتيجية. وإذا كان العرب في اليرموك أو القادسية أو موقعة ذات الصواري قد انتصروا على البيزنطيين أو الإيرانيين، فليس معنى ذلك أن الحضارة الإسلامية هي التي انتصرت على الحضارة المسيحية أو الزرادشتية. والعكس صحيح أيضاً. فانتصار «الروم» أو الترك أو المغول على جيوش الخلافة، لا يعني أن حضارة هؤلاء قد انتصرت على حضارة أولئك. فالعلاقات بين الحضارات هي علاقات طويلة الأمد وذات تقلبات خفية وكثيرة، ويغلب عليها التقابُس والاستيعاب، وليس التنابُذ أو الصِدام، لكن في مديات هائلة الامتداد والاتساع. بينما تنشب أقسى النزاعات والحروب بين الدول والأمم الواقعة في مجال حضاري واحد، فلا تكون الثقافة المتجانسة سبباً للقاء القريب، ولا علّة للنزاع المتمادي، وإنما هي المصالح المعروفة، وتدافعات الهيمنة والدفاع والاستجابة للتحديات.
ولست ضد التواصل الثقافي وحوارات المسيحية والإسلام. لكن إرادة ثاباتيرو الطيبة في التواصل الحضاري، ما خففت من النزاع التاريخي الطويل على سبتة ومليلة بين المغرب وإسبانيا. كما أن المسيحية والإسلام ما كانا أيضاً سبباً في نشوب النزاع بين الطرفين على السواحل المغاربية والإسبانية وبعض الداخل. وقبل مبادرة «تحالف الحضارات» من جانب ثاباتيرو، كانت هناك مبادرة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي لحوار الحضارات، والتي دعمته فيها الأمم المتحدة حين أعلنت عام 2001 عاماً لحوار الحضارات. وفي العام نفسه حدثت واقعة 11 أيلول، ونشبت الحرب على الإرهاب. وفي عام 2002 أعلن الرئيس بوش الحرب على «محور الشر» وعلى رأسه إيران، ولا تزال العلائق بين إيران/ الدولة والغرب مشتعلة الأُوار الى اليوم، وليس على الدين أو بسببه، بل لأسباب أمنية وسياسية واستراتيجية.
ماذا يعني هذا كله؟ وألا نحتاج الى التواصل والتآلف؟ نحن العرب والمسلمين على الخصوص نحتاج الى العلاقات العارفة والمعرِّفة والمؤلِّفة والمُزيلة لأسباب سوء الفهم. فهناك غربيون كثيرون – أفراداً وفئات -، وبسبب المشكلات المختلفة مع بعض العرب أو المسلمين، يسيئون الظن بالإسلام، دين أولئك الذين يتنازعون معهم. وبذلك تتخذ النزاعات المصلحية أو الاقتصادية او السياسية غطاء دينياً، وبخاصة لأن المسلمين المهاجمين أو المدافعين يرفعون شعارات دينية، كما يفعل سائر الناس في الأزمات ذات الطابع الخطير أو الوجودي. وعندما يُعرف العرب أو المسلمون باعتبارهم بشراً عاديين أفراداً وإثنيات وجماعات، تتراجع الأغطية والرموز والتمايُزات القائمة على العوامل الثقافية والدينية، وتصبح معالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أسهل، إذ تعود إليها طوابعها وأسبابها الحقيقية. وفي ظل فهم كهذا لا مكان طبعاً لمصطلحات مُلغِزة كمصطلح «التحالف بين الحضارات»، لأن التحالف يكون بين طرفين أو أكثر ضد طرف ثالث أو أكثر. وهذا معهود بين الدول والشركات والأفراد، وليس بين الحضارات!
إن لدينا ثوراناً دينياً أو ثوراناً شبابياً يتخذ من الإسلام شعاراً له. وتعمد سائر الدول لمكافحة ذلك الثوران عندما يظهر عنفه على أراضيها. لكنها وهي تحاول الحفاظ على أمنها بالإجراءات القامعة والقوانين الجديدة المتشددة، تحاول أيضاً الحفاظ على علاقاتها بالعرب والمسلمين صوناً لمصالحها لدينا، في أهم مناطق العالم المعاصر ومجالاته: المنطقة الممتدة ما بين ضهر البيدر وممر خيبر! وسواء بحوار الحضارات أو بتحالفها. والسليم والصحيح والباقي السياسات المنفتحة والمتوازنة في نظام عالمي جديد بالفعل!