مفهوم الهوية مفهوم ذو دلالات مختلفة، لغوية و فلسفية و ثقافية و دينية، و إذا اعتبرنا أن لفظ «الهوية» مشتق من أصل لاتيني sameness، فإنه يعني « الشيء نفسه » بما يجعله مبينا لما يمكن أن يكون عليه شيء أخر و يميزه عنه، كما يتضمن مفهوم الهوية الإحساس بالانتماء القومي و الديني و الإثني، و هذا لا زال يشكله الاعتقاد السائد بأن الفهم الواعي للهوية لا يمكن أن يقوم إلا باجتماع أربعة أمور هي: البيئة أو الوطن في بعديه الطبيعي و البشري، ثم تأتي اللغة باعتبارها أداة تواصل بين سكان هذا الوطن، ثم إن لهذه اللغة مجموعة من الروافد التي تتجلى أساسا في التراث، و بعد كل هذا يأتي الدين مكونا رابعا و جامعا لمقومات هذه الهوية.
بتحديد العناصر التقليدية لحسم جدال الهوية قد يبدو مما تقدم أن سؤال الهوية قد تمت الإجابة عنه بشكل كافي و يبقى النظر مطروح في كيفية تمتين هذه العناصر و الارتباط بها، لكن من جانب أخر نلاحظ أن تجدد الواقع بتجدد أحواله يطرح إشكاليات جديدة و أكثر عمقا بخصوص مستقبل هوية الأمة.
لا شك أن الهويات المتعددة للمجتمعات بما فيها هوية المجتمع الإسلامي أصبحت اليوم واقعة تحت سطوة الحضارة الغربية بما تفرزه من تحولات كبرى في عالم القيم و الأفكار و المعارف و الأنساق الاجتماعية و السياسية، و التي تعتبر العولمة الناطق الرسمي باسمها كمحددات لهوية الغرب، هذه الأخيرة بدأت تتغير مع انطلاق الفلسفة العقلانية باعتبارها أساس الإنتاج المعرفي الذي سيؤدي إلى تطور الغرب ليصل إلى ما وصل إليه اليوم، فهوية الغرب لم تعد هوية دينية أو لغوية أو جغرافية، لم تعد هوية الإنسان الأوربي تحدد من عناصر المسيحية و اللغة اللاتينية و الوطن الأوربي، فهويته أصبحت هوية معرفية مرتبطة بالإنتاج الفكري و المادي و التقني و التكنولوجي، حيث أصبحت موضوعات العلم و الاقتصاد و التقنية و البيئة و الحقوق بكل تشعباتها و تعقيداتها، ترتبط بمسألة الهوية، بما هي كينونة وموقف من الوجود الاجتماعي و الكوني للإنسان.
من هنا أصبحت العناصر التقليدية للهوية – خصوصا عنصر الدين البارز فيها – أمام تحديات خطيرة و مصيرية: أولها تحدي داخلي يرتبط بمجموعة من الانحرافات السلوكية في الممارسات الدينية و اللغوية و الفكرية، و ثانيها تحدي خارجي مرتبط بما تفرضه العولمة الثقافية من تمييع و ضياع لخصوصيات الهويات المتعددة للمجتمعات.
بهذه التحديات يرتبط تجدد سؤال الهوية، كسؤال كلي حاضن لأسئلة الوجود الذاتي و الموضوعي، و الوجود الثقافي و السياسي للأمة، فالتحدي الكبير للهوية أصبح تحديا معرفيا، و التفكير في الهوية من خلال العلاقة مع الغرب و حدود الاتصال بحضارته ينبغي أن يكون شاغلا معرفيا، و ليس فقط دينيا أو ثقافيا.
نحن نسلم بأن المجتمع الإسلامي و العربي غير مطالب بانتحال و محاكاة هوية المجتمع الغربي باعتباره مجتمعا حداثيا له هويته المعرفية و التاريخية و إن ألقى بظلاله على البشرية جمعاء، لكن من جانب أخر لا ينبغي أن نتعامل مع قضية تحقيق النقلة نحو نمط إسلامي معاصر في علاقته مع الحداثة بشكل انتقائي، لأن هذه العملية ليست عملية تركيبية براكماتية مهما ارتفع داخلها مستوى التخليق، بل هي مشروع معرفي أخلاقي جديد، و البون شاسع بين تخليق الموجود و إيجاد الأخلاق، و بين أسلمة المعرفة و إنتاج المعرفة الإسلامية، و لذلك ينبغي اعتبار عامل قوة الهوية المعرفية داخل العقل المسلم كعامل مؤهل لهذا العقل لأن يكون عقلا معاصرا بعد حداثيا و ليس حداثيا.
إذا سلمنا بما سبق و تقدمنا قليلا في النقاش نقول إن المقصود في وجوب قوة الإنتاج المعرفي و صلابته ليس المعنى التصوري المتوافق عليه في الاعتقاد الإسلامي، و المستفاد أصالة من النص الإسلامي القاضي بكونية الخطاب القرآني و عالمية النداء النبوي، و إنما المقصود في هذا الوجوب الجانب التنزيلي و الترجمة المعرفية الهادفة إلى تحقيق مناطات الرؤية في و واقع الابتلاء الجديد، و هو جانب يرتبط بالفعل الإرادي للإنسان في التعامل مع واقعه لا بالصفة الذاتية للإسلام، و هو فعل تاريخي شهودي محكوم بأشكال الوعي السائدة عن الكونية القرآنية، و مطالب الشرعة الإسلامية المنبثقة عنها في الواقع المعاصر.
و بهذا يجب تحرير العقل الإسلامي و وعيه السائد عن الدين و الشريعة من أغلال التاريخ بمذهبياته و تحيزاته، ليعلو المعنى القرآني، و يتحرر القصد الإيماني و الإستخلافي و الشهودي و التشريعي، تحررا معرفيا تتبدى من خلاله الهوية الإسلامية في ثوابتها، و تتكشف أوهامها الناجمة عن آثار عوارض التاريخ فيها.
إن إظهار المعاني الفلسفية و المدلولات المعرفية الكونية القرآنية، و حضور مصداقيتها في وعي و واقع الإنسان المعاصر، شرطان تاريخيان لإثبات الذات و تثبيت عمليات التجديد و النهوض، و تخليصها من عوامل الإجهاض المبكرة، و في هذا الإطار تجب الإشارة إلى أن خطاب الهوية و النهوض ظل موسوما في خطوطه العريضة بالإجمالية و التبشيرية، و هو فيما يتضح مانعان من الحضور و الشهود، و بذلك حاجبان للنهوض و التجديد.