/

 

 

من الاستشراق إلى دراسات الشرق الأوسط:صراع الرؤى ومتغيرات المصالح

رضوان السيد

كتاب زاكاري لوكمان (*) – الأستاذ في جامعة نيويورك لدراسات الشرق الأوسط – والمسمى «الرؤى المتنافسة للشرق الأوسط: تاريخ الاستشراق وسياساته»، ليس أولى القراءات النقدية لهذا التخصص. فقد سبق الى ذلك كثيرون أهمهم بالطبع إدوارد سعيد صاحب كتاب «الاستشراق» الشهير. بيد أن لوكمان – تلميذ إدوارد سعيد – يستفيد من نواقص تجربة الأستاذ الكبير فيأتي كتابه جامعاً بين خمسة أمور: قراءة سريعة لبدايات التعرف على الإسلام في أوروبا بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر، والرؤيتين المتناقضتين لعالم الإسلام في عصر النهضة وحتى القرن الثامن عشر (وفي هذا القسم يعتمد على كتاب ريتشارد سوذرن: الرؤية الأوروبية للإسلام في العصور الوسطى، والذي ترجمتُه الى العربية عام 1983).
والأمر الثاني: متغيرات الرؤى للإسلام في القرنين التاسع عشر والعشرين. وهذه الحقبة هي التي استند إليها إدوارد سعيد في دعوييه: انّ المستشرقين الفرنسيين والبريطانيين من هذه الحقبة (1850 – 1970) هم الذين كوَّنوا الرؤية الغربية السائدة عن عالَم الإسلام، وأن هذه الرؤية خدمت مقولة المركزية الغربية في أزمنة الاستعمار والإمبريالية. أما الأمر الثالث الذي عالجه كتاب لوكمان، - وقد تجاهله إدوارد سعيد – فهو التاريخ الأول للاستشراق الأميركي، والذي ظلَّ عالة على استشراقات أوروبا حتى حقبة ما بين الحربين. وفي الأمر الرابع أوضح لوكمان العلاقة المتشابكة بين المصالح الوطنية للدولة الأميركية في زمن الحرب الباردة، وأساتذة وطلاب وخبراء «الشرق الأوسط» الذي تجاوزت بحوثه اهتمامات المستشرقين وأساليبهم. وينصبُّ الأمر الخامس على قراءة المرحلة الراهنة على مشارف أحداث 11 أيلول (سبتمبر) وما بعدها، وهو يسميها أحياناً: حقبة «الاستشراق الجديد».
في القسمين الأولين (العصور الوسطى، والتاسع عشر والعشرين) يفيد المؤلّف كثيراً من الأعمال الدراسية السابقة مثل نورمان دانييل، وسوذرن. ويغلب عليه (أكثر من إدوارد سعيد) فيهما وعي المؤرّخ وليس الأيديولوجي. ولذلك، فإضافة الى الاقتباس من المختصين وبخاصة إدوارد سعيد، ينصرف إلى قراءة كُتُب الرائين والمختصين أنفسهم. وهو لا ينسى الفروقات والرؤى الخاصة، وتفاوتات العلائق بين الأنظمة والعلماء، ثم التمايزات بين الكُتّاب والمتأملين. وهكذا، فإنه لا يتجاهل السياقات في الحالتين: الصراع العسكري بين الأوروبيين والمسلمين (وبخاصة الأتراك) في العصور الوسطى وحتى عصر النهضة، والصراع العسكري والثقافي في المرحلة الثانية على الخصوص حينما كانت أوروبا تُقبِلُ على الاستيلاء على الشرق الإسلامي كما فعلت في سائر أنحاء العالم. وكما سبق القول، فإن لوكمان يتميز فيهما بالموازاة بين الرؤية والقراءة، والتزام دقة المؤرخ من دون تجاهل للسياق العام.
بيد أن ميزاته تبدو على خير وجه في القسمين الثالث والرابع، قسم الاستشراق الأميركي، وكيف تحول الى دراسات أو بحوث المجالات (الشرق الأوسط). في القسم الثالث يدرس الرجل نماذج أخذ وعطاء. فالأساتذة الأوروبيون كانوا يأتون الى الولايات المتحدة، والأميركيون كانوا يذهبون للدراسة في أوروبا. وتميز المستشرقون الأميركيون الأوائل بأنهم كانوا في أكثرهم من اللاهوتيين البروتستانت أو اليهود. كما تميزوا بالابتعاد الكامل من السياسة والدولة والسلطات. وهكذا شغلت قسماً منهم المقولات الأوروبية حول «أصالة» الإسلام كدين، أو بالأحرى عدم أصالته، واقتباساته المستفيضة من اليهود والمسيحيين. ولا ننسى أن الأميركيين منذ منتصف القرن التاسع عشر كانوا يمارسون التبشير في البلدان العربية والإسلامية، وأن لاهوتييهم البروتستانت نافسوا زملاءهم البريطانيين في الاهتمام بفلسطين التوراتية والإنجيلية. بيد أن قسماً من هؤلاء مثل لوثروب ستودارد (صاحب كتاب «حاضر العالم الإسلامي»، 1910، والذي ترجمه الأمير شكيب أرسلان الى العربية وعلّق عليه تعليقات بالغة الطول في العشرينات) تأثروا بنظريات ومقولات الأجناس والعناصر، والتي ازدهرت في أوروبا منذ مطلع القرن العشرين وحتى الحرب العالمية الثانية. وقد لفت انتباه إدوارد سعيد أن المستشرقين الأميركيين الكبار بعد الحرب الثانية ظلّوا في معظمهم من أصول أوروبية (مثل هاملتون جب وبرنارد لويس وغوستاف فون غرينباوم)، وقد علَّل بذلك استمرار الرؤى الاستشراقية وتفاقمها. أما لوكمان فيهتم أكثر بالسياقات. إذ ظهرت بعد الحرب مباشرة رؤية «المجالات» السياسية/ الثقافية، وهي ابتداع أميركي لا علاقة للأوروبيين به. إذ ان تلك التقسيمات الدراسية للمجالات الجيو- سياسية، إنما صارت تُمثّل رؤية الساسة الاستراتيجيين الأميركيين لمصالح الدولة العظمى و «العالم الحر» في زمن الحرب الباردة. وقد صار من واجب سائر الدارسين، حتى أولئك الذين يبحثون في الفلسفة الكلاسيكية الإسلامية أو الأدب العربي القديم أو الحديث، أن يتلاءموا مع «القيم» الثقافية التي تنشرها أميركا، ومع المصالح الأميركية، وإن بحسب فهمهم لها. وقد اقتضى ذلك تغييراً في الأساليب، بحيث لا يمكن القول إن «التاريخانية» الاستشراقية أو رؤية الحضارات والأديان المتقابسة أو المتضاربة هما اللتان ظلتا سائدتين. وفي حين استطاع أفراد منهم مثل برنارد لويس وغرينباوم التلاؤم الى حد كبير، ما أمكن ذلك بالنسبة لهاملتون جب وجورج مقدسي على سبيل المثال!
وهنا ومن دون أن يصارح لوكمان أستاذه إدوارد سعيد بالمخالفة، ألمح الى أن ليس المستشرقون الأوروبيون أو التاريخانيون هم الذين صنعوا الرؤى الأميركية للعرب وللإسلام في زمن الحرب الباردة، بل إن ذلك كله جرى تجاوزه في بحوث ودراسات الشرق الأوسط تحت راية مصالح الدولة العظمى. وهذا لا يعني أن دارسي الشرق الأوسط كانوا أقل أو أكثر إمبريالية، بل إنهم كانوا بالتأكيد مختلفين في المناهج والاهتمامات، وتحت ضغوط الأفهام الجديدة للمصالح والاستراتيجيات، والأفهام الجديدة للعلوم الاجتماعية والتاريخانية.
ولوكمان ليس أقل انتقاداً للأيديولوجيات الاستعمارية والإمبريالية، وتمظهراتها في الدراسات الاستشراقية والأنثروبولوجية والتاريخية. لكنه يسلك لذلك سبيلين مختلفين عن سبيل إدوارد سعيد. إذ يتجاوز منظور الاستمرارية الأوروبية في ثقافة أميركا والغرب، ويوضّح التشابك بين الدراسات والمصالح في العوالم الأكاديمية الأميركية حتى في الجامعات المستقلة. ثم إنه يبحث ذلك كله من منظور المصالح «الحقيقية» للولايات المتحدة وللشعب الأميركي. وهو لذلك يصرّح ومن دون مواربة أن الدعم الأميركي غير المحدود لإسرائيل سبب مهم ومهم جداً للعداء المنتشر في العالمين العربي والإسلامي ضد أميركا والغرب. ثم إن سيطرة «المحافظين الجدد» – وبينهم مستشرقون جدد، يحملون رؤية تصادم الحضارات – على السياسة الخارجية الأميركية، زادت الأمور تفاقماً وبخاصة بعد أحداث 11 ايلول وغزو أفغانستان والعراق. بعد هنتنغتون ومقولته في صِدام الحضارات، انصرف برنارد لويس وتلميذاه كريمر وبايبس – وهما صهيونيان أميركيان – للتنظير لأمرين: ان كل المسلمين إرهابيون، وأن الدراسات الشرق أوسطية (والإسلامية) في الجامعات الأميركية واقعة تحت سيطرة إدوارد سعيد وتلامذته، وهؤلاء شيوعيون مخرِّبون مُعادون للولايات المتحدة ولإسرائيل! وهذا الخط في القراءة والذي تحول الى سياسات في إدارة الرئيس بوش الابن، هو الذي ينبغي سؤاله عن أسباب كراهية العرب والمسلمين للولايات المتحدة، وليس القول «إنهم يكروهوننا بسبب إيماننا بالحرية، وبسبب أسلوب حياتنا»!
مثَّل كتاب إدوارد سعيد كشف حساب رفيع المستوى بين حضارتين أو ثقافتين في حقبة تصادُم متفجرة. وهي رؤية مسيَّسة بالطبع. لكنها تعتمد مقولة ميشال فوكو في العلائق بين المعرفة والسلطة. أما زاكاري لوكمان فيزاوج بين الأمرين وعلى الضفة الأميركية بالذات: أمر المصالح الأميركية في الشرق الأوسط مفهومةً بطريقة معينة، وأمر إنتاج «معرفة» أو أيديولوجيا داعمة للفهم المعيَّن لتلك المصالح. ولذلك، فإن كتاب لوكمان في قسمه الأخير هو خطاب مباشر في إدانة سياسات الرئيس بوش في «الشرق الأوسط». أما المستشرقون الجدد، وأما الصهاينة الجدد فليسوا أكثر من مصطاد في الماء العكر، من خلال التنظير لتلك السياسات بتسويغ «الحرب على الإرهاب الإسلامي»، وتسويغ استمرار اعتماد إسرائيل وكيلاً وحامياً للمصالح الأميركية في منطقة الشرق الأوسط. والحقيقة في نظر زاكاري (زكريا) لوكمان (لقمان) أن إسرائيل الصهيونية، والمحافظين الجدد، والمستشرقين الجدد المنتمين إليهما، صاروا عبئاً على الولايات المتحدة ومصالحها.
(*) ترجمت الكتاب الى العربية دار الشروق المصرية، وأعطاه المترجم عنوان: تاريخ الاستشراق وسياساته، الصراع على تفسير الشرق الأوسط، 2007.

 

 

21-02-2008 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=530