لا يجد الباحث في مقاصد الشريعة تعريفاً دقيقاً لمقاصد الشريعة في المصادر المتقدمة لعلم أصول الفقه، لكنه سيجد مفردات أخرى تعبر عن جوهرها والوعي بها وعياً دقيقاً كالمقاصد الخمس (حفظ الدين والنفس والعقل والعرض والمال)ن كما قسموا المصالح إلى ضرورية وحاجية وتحسينية، وتحدثوا عن الحكمة والعلة، والمصلحة والمفسدة، ووضعوا ضوابط لكل ذلك، كما استنبطت من نصوص الشريعة والأحكام الفقهية ما يعرف بالقواعد الفقهية الكلية والجزئية والتي تعبر عن آلية استنباط الفقهاء للشريعة والنسق الذي يمكن فهم الشريعة من خلاله.
إن مبحث مقاصد الشريعة في كتب المتقدمين يكشف عن بنية التفكير الفقهي ويدل على ما صرحوا به من أن الشريعة جاءت لحفظ المصالح، ولم يكن بحثهم للمقاصد معزولاً عن درسهم للنصوص، بل إن المقاصد نفسها تأسست على فهمهم للنص نفسه، سواء بتصنيفها أو بترتيبها، لذلك نجد بعض الخلافات الجزئية بينهم في ترتيب المقاصد ودرجاتها، بل إنهم بحثوا فيما هو أدق وهو المقاصد الخاصة في أبواب الفقه كمقاصد التصرفات المالية، ومقاصد مباحث الأحوال الشخصية، وغيرها.
إن مباحث المقاصد والكتب التي اختصت بها إن كان لها من دلالة فأهم دلالاتها أن الأحكام لم تبن عبثاً أو تشهياً أو بمعزل عن الفهم والانسجام المنطقي، إنما تعني أن الشريعة لها قيم حاكمة تعبر عن رؤية تشريعية متكاملة سواء في الموضوع الجزئي أو المواضيع الكلية، وبالتالي فإن سياق هذه الأحكام الفقهية الاجتهادية ينبغي أن يكون مترابطاً ومنسجماً مع روح الشريعة التي تعبر عنها مقاصدها.
ما يؤكد هذه الحقيقة ما أورده الأصوليون من ضوابط للاجتهاد واستنباط الأحكام، فمثلاً عند حديثهم عن علل الأحكام التي ترتبط بها الأحكام وجوداً وعدماً تحدثوا عن منهج دقيق، هو السير والتقسيم، فينبغي جمع كل الاحتمالات الممكن أن تكون علة ثم إسقاط ما لا يصلح علة منها لوجود نص آخر في قضية أخرى يدل على عدم اعتبار هذه العلة في الشريعة، وهذا يشير إلى أن العلة التي تستنبط لحكم مسألة معينة ينبغي ألا تكون ملغية في نص آخر وهذا عين التكامل، فمثلاً عند الحديث عن الخمر لا يصح اعتبار علة تحريمه أنه مصنوع من العنب، لأن هناك أشياء كثيرة مصنوعة من العنب لم يحرمها الشارع، وهكذا تستجمع كل الاحتمالات حتى يبقى احتمال يمكن اعتباره ويعبر عن مقصد الشارع، هذا في العلة، وقد تحدثوا عن الحكمة في التشريع التي يمكن من خلالها فهم الحكم أكثر وهي تعبير عن العلل غير المنضبطة التي يمكن أن تفسر وجه الحكم وتقنع به.
مبحث العلة والحكمة من المباحث المتعلقة بالمسائل الجزئية والحكم المتعلق بمسألة واحدة، وبناء على العلة لحكم مسألة معينة تقاس مسألة جديدة لا حكم فيها إذا توفرت شروط التشابه بين المسألتين، فإذا جمعنا المسائل المتشابهة التي فيها نصوص، وعللها سنجد أن قاسماً مشتركاً بينها هو ما يمكن تسميته بمقصد الشارع، فهناك أحكام جزئية تتشابه وجوهرها العام والرابط بينها كونها تحرص على حفظ النفس الإنسانية وصيانتها، وأخرى لحفظ الدين أو العرض أو العقل أو المال.
وعليه فإن مباحث مقاصد الشريعة تكشف عن روح الشريعة وفلسفتها ورؤية الإسلام للكون والإنسان والحياة بتفاصيلها، ويستثمر علم المقاصد في كيفية تطبيق الأحكام، وذلك من خلال ترتيب الأولويات عندما يتعذر تطبيق جميع الأحكام فيقدم منها ما هو بمرتبة الضروري على ما هو بمرتبة الحاجي، والحاجي على التحسيني، وكذلك يقدم ما فيه حفظ النفس على ما فيه حفظ المال، وهكذا حسب المسائل المطروحة.
وقد ظهرت نقلة نوعية في الدعوة لاستثمار مقاصد الشريعة في استنباط النصوص مع الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور عندما دعا إلى استنباط الأحكام من المقاصد الكلية بدلاً من العلل الجزئية، ذلك أن المقاصد الكلية تعبر عما هو أقرب وأوثق وتجعل الحكم أكثر انسجاماً مع مقصد الشارع، ويتم ذلك من خلال استنباط المقاصد الكلية لكل موضوع من المواضيع الفقهية، لكن دعوته لم تتحول إلى التطبيق، وإن حظيت بالاهتمام والدراسة والمتابعة حديثاً، ومما أعطى دفعاً جديداً للبحث المقاصدي كثرة المسائل المستجدة التي لم تسعف في دراستها أدوات الاستنباط المعهودة، وكذلك تجدد الجدل حول الاجتهاد والتقليد، وتجديد الفقه الإسلامي، فكان البحث المقاصدي مدخلاً مهماً في هذا النقاش.
في سياق آخر تم التعسف في توظيف المقاصد فلسفياً واعتبارها مؤشراً لإعمال العقل، وباعتبار أن الشاطبي من أبرز علماء المقاصد كان من المغرب الإسلامي، فاعتبره من يفرق بين فلسفة مشرقية وأخرى مغربية شاهداً على ادعاء تطور الفلسفة المغربية، ومع دخول بعض الباحثين العلمانيين في مجال الدراسات الإسلامية وتحولهم إلى فقهاء حداثيين، تم خطف مصطلح المقاصد بما له من شرعية وأصالة علمية ليجعل بذلك مفتاحاً للاجتهاد العلماني في الإسلام، فاستعير مصطلح المقاصد دون تحديد مدلوله في استعمالهم، ووظفوه في معنى غير الذي يستعمله علماء الأصول، فهم يعنون به روح الشريعة وما وراء اللفظ وما يسعى النص إلى تحقيقه، بغض النظر عما تقتضيه النصوص من أحكام وتطبيق لتحقيق هذه المقاصد، ويتم ادعاء الاجتهاد بآلية المقاصد دون توضيح لهذه الآلية، والعبرة عندهم ليست بالنص بل بما وراء النص، وما وراء النص ليس هناك ما يضبطه من قواعد تدل عليه، وبالتالي لم يعد من دور للمقاصد سوى التبرير للحلول التي يمليها التأمل في النصوص، وما يحتله مصطلح المقاصد من شرعية بين العلوم ربما يساعد على تمرير المعنى التأملي للنص طالما عجزت المناهج الحديثة عن أداء دورها في تأويل النص بطريقة مقنعة، فكل تفسير يصلح أن يكون مقصداً لدى من يدعيه، فبينما يقعّد الأصوليون لتحديد مقاصد الشريعة بالاعتماد على مجموع نصوصها حول قضية معينة وذلك للاستفادة من هذا المقصد في تشريع القوانين فيما يطرأ للمسلمين من قضايا دون أن يكون لهذا المقصد أثر في دلالة النصوص الدالة عليه، نجد العلمانيين يستعملون المقصد كبديل عن النص ومن غير تحديد قواعد للاستدلال عليه.
هذا الهزال في التوظيف العلماني للمقاصد رافقه تسطيح من قبل بعض الباحثين في الدراسات الإسلامية الذين أوغلوا في الحديث عن المقاصد دون دراسة علم الأصول والتعمق فيه، فأصبحت المقاصد عنواناً مبتذلاً وحشرت في كل شيء في ظل ما يمكن تسميته حمى البحث المقاصدي، وهذا أورث ردود فعل عكسية رفضت فكرة البحث المقاصدي.
ما يمكن أن ألخص به ما أود قوله هو أن مقاصد الشريعة علم أصيل من علوم الشريعة، ولد في رحم علم أصول الفقه، وتطور ليصبح علماً مستقلاً، وحاول البعض اعتباره بديلاً عنه، هذا والتعمق فيه يعتبر مفتاحاً مهماً في الاجتهاد المعاصر والتعامل مع القضايا المستجدة، ونقد الاجتهادات السابقة والأحكام التي تبدو مشكلة، إلا أن الفرق دقيق بين أن نأخذ هذا العلم كقواعد وأدوات رديفة لعلم الأصول، وبين أن نتعامل معه كشعار ودليل هلامي لكل رأي جديد .