/

 

 

الثقافة والتنمية والحداثة وما بعد الحداثة

رضوان جودت زيادة

حصل لؤي صافي على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة وين في الولايات المتحدة الأمريكية ، وهو الآن أستاذ زائر في جامعة جورج واشنطن كما يشغل حالياً منصب رئيس مركز التوازن التنموي في ولاية فيرجينيا ورئيس جمعية علماء الاجتماع المسلمين، وكان ورئيس تحرير المجلة الأمريكية للعلوم الاجتماعية ( AGES ) ومديراً لدائرة البحوث في المعهد العالمي للفكر الإسلامي،و قد صدر له العديد من الكتب باللغتين العربية والإنكليزية أهمها (تحدي الحداثة) و(أساس العلم) باللغة الإنكليزية و(العقيدة والسياسية) و(إعمال العقل) باللغة العربية وسيصدر له قريباً كتاب (المثقف والنهضة جدلية الأصالة والعالمية والنهوض) عن دار الفكر بدمشق .

س : شغلت إشكالية الحداثة اهتمامك في أكثر في كتاب لا سيما كتابك ( تحدي الحداثة ) فكيف تقرأ مفهوم الحداثة فكرياً أم تاريخياً ، بمعنى هل تنظر إلى الحداثة كمجموعة من القيم كالعقلانية والتنوير والتقدم وغيرها ، أم أنها فترة زمنية مرَّ بها الغرب وفق خصوصيته التاريخية ، ولكل حضارة وفقاً لذلك حداثة خاصة بها ؟

ارتبط مصطلح الحداثة بلا شك بمرحلة تاريخية في الحضارة الغربية وهي مرحلة الانتقال من منظومة قيمية تصورية أخلاقية اجتماعية رافقت ما يسمى بالعصور الوسطى في الغرب ( المجتمع الإقطاعي ) إلى مجتمع حديث يقوم على مجموعة من القيم لعل في مقدمتها مفهوم المساواة وحرية الفرد وحقه في المشاركة السياسية والرقابة على الحاكم واستناد السلطة السياسية إلى الشعب وما رافق ذلك من مجموعة قيم وتصورات وممارسات على المستوى الاجتماعي المؤسسي فهذا هو ما نسميه الحداثة، لذلك فعلى الرغم من أن الحداثة تمثل إنجازاً غربياً غلا أنها تتضمن قيم ومشتركات إنسانية ليست حكراً على الغرب ولكن تعبر عن امتداد خبرة إنسانية سابقة على الغرب ، فانتقال الغرب من المجتمع القروسطي إلى المجتمع الحديث كان نتيجة الاحتكاك مع حضارات سابقة ،وهذا التفاعل تم توثيقه في بعض الجهود والدراسات ،وحوارات كثيرة ما زالت تدور حول ذلك ، فمن يلاحظ عصر النهضة ( الريسانس ) لدى الغرب ومن ثم حركة الإصلاح الديني (البروتستانتي ) التي تبعتها يلحظ أن هناك مجموعة من القيم والمبادئ التي تمسك بها رواد النهضة والاصلاح ارتبطت بحضارة سابقة هي بالتحديد الحضارة الإسلامية .
لذلك فالحداثة يمكن أن تفهم على مستويين ، مرحلة أولى هي مرحلة الحضارة وتشمل الإصلاح والنهضة والتجديد وإعادة تفعيل قيم سابقة وتأسيسها في المجتمع وهذه المرحلة تمر بها كل الحضارات ومن هذا المنطلق يمكن الحديث من حداثة إسلامية أو حداثة رومانية فالحداثة تعني هنا مرحلة النهوض الحضاري أما المستوى الثاني فيتعلق بالحداثة كمفهوم وهو لذلك لصيق بالتجربة الغربية التي أصبحت عالمية من خلال حركتي الاستعمار التي نقلت أنماط التفكير والسلوك الغربي إلى أنحاء كثيرة من العالم وشكلت نخب ثقافية متأثرة جداً بالفكر والمجتمع الغربيين ومن خلال حركة العولمة التي هي امتداد على مستوى مختلف للجهود الاستعمارية التي هدفت توسيع هيمنة الحضارة الغربية ونقلها إلى مناطق أخرى من العالم .

س : تحدثت عن حداثة إسلامية أو حداثة رومانية ،لكن قيم التنوير والتقدم والعقلانية ارتبطت بفترة محددة تاريخياً من تاريخ التطور الغربي في القرن التاسع عشر .

مرة أخرى أقول بأن هناك خصوصيات،لنأخذ مثلاً مفهوم تداول السلطة وعلاقة الشعب بالسلطة السياسية نرى أن المجتمع الغربي قد دفع باتجاه ذلك إلى مرحلة متقدمة جداً فمن الصعب أن تتحدث عن أمثلة مشابهة، وكثيراً ما نعود إلى نموذج المدينة اليونانية ،لكن ذلك النموذج كان مرتبطاً بنموذج دولة المدينة أما النموذج المعاصر فهو أوسع من ذلك بكثير ولكن هناك عناصر استمرارية تشترك فيها جميع الحضارات ، فمن يدرس الحضارات يجد أن مفهوم سيادة القانون مفهوم مركزي في كل الحضارات ، ربما تختلف القوانين لكن يبقى مفهوم القانون بما يعنيه من تحديد للحقوق والواجبات وحدود المقبول والمرفوض ،هذا المفهوم أساسي في كل الحضارات فلم تقم حضارات أساسية ذات امتداد بدون وجود قوانين تضبط سلوك المجتمعات وتحدد طبيعة العلاقات ،وتفصل الحقوق كما في الحضارات الآشورية والبابلية والفارسية والرومانية والإسلامية وطبعاً الحضارة الغربية .
لكن طبيعة القوانين وطريقة مصادر التشريع وتطوير هذه المصادر والقوانين وطريقة الأحكام أو حل الخلافات ضمن المجتمع تختلف باختلاف المجتمعات، فلا شك أن هناك أنماط مختلفة ،لكن المبدأ يبقى واحداً ، لذلك فأقول أن هناك مجموعة من القيم يجب أن تجتمع من أجل إحداث فعل حضاري وبقدر ما تكون القيم أقرب إلى تحقيق نوع من العدل، أي شعور الأفراد بأنهم قادرون على المشاركة والإبداع وكشف الخطأ والمطالبة بالحقوق كلما اقتربت الحضارة من هذا النموذج كلما كانت أكثر فعالية .

س : لكن مفاهيم سيادة القانون والتداول السلمي على السلطة والديمقراطية وغيرها ارتبطت بنموذج الدولة - الأمة التي هي إحدى منجزات الحضارة الغربية وخاصة فترة نشوء عصر القومية ، فذلك يعيدنا إلى أن الحداثة بمفاعيلها التاريخية هي غربية بامتياز.

إن نموذج الحداثة الذي تصفه هو بلا شك غربي، فنموذج الدولة القومية التي تشرع وتنظم الحياة الأسرية والسياسية والاقتصادية هي دولة حديثة مرتبطة بالحداثة الغربية والعودة إلى الحضارة الإسلامية يظهر أن النقيض هو الحاكم ،بمعنى أن الحضارة الإسلامية قامت على مبدأ تحديد سلطة الدولة في إطار الأمن الداخلي والحماية الخارجية ووظائف التعليم والعناية بالصدقة والتوجيه وغيرها والوظائف الاجتماعية ارتبطت بالأمة أو المجتمع المدني حسب التعبير الشائع اليوم ،فالأمة لديها مؤسساتها وليست الدولة ، ربما شاركت الدولة في بعضها لكن لم تكن مهيمنة عليها ، فإحدى إنجازات الحضارة الإسلامية هو قدرتها على تفعيل مؤسسات الأمة أو المجتمع المدني وتحريرً إرادة الفرد وتوجيهها إلى الفعل بتطوير الحياة وتنظيمها وحصر مهمة الدولة في قضايا الأمن والحماية ضد الخطر الخارجي أو التوسع العسكري .
فمفهوم الدولة – الأمة أوالدولة القومية ارتبط بالحضارة الحديثة لكن هذا لا يغير أن هناك مجموعة قيم اشتركت في صنعها الحضارة الإسلامية منها وفي مقدمتها سيادة القانون وما يميز أطروحات الحضارة الإسلامية عن الغربية مفاهيم المساواة وموضوع الحريات ولكن بمعالجة مختلفة ، فالمجتمع الغربي الحديث خرج على أنقاض مجتمع يقوم على مبدأ السلطة المطلقة لصاحب القوة على عكس الحضارة الإسلامية التي لم تنشأ في ظل دولة مركزية وإنما كان هناك مجتمع قبلي فالهم الأساسي في الحضارة الإسلامية كان مسألة النظام ، نظام يحتكم إليه الجميع، أما الهم الأساسي في نهوض الحضارة الغربية فهو محاولة التخلص من هذه السلطة المركزية وإفساح المجال للحرية الإنسانية .

س: كنت أستاذاً زائراً في إحدى أكبر الجامعات الماليزية لمدة طويلة ،مما مكنك من الإطلاع على الثقافة الآسيوية ولا سيما تعايشها المشترك في ظل التعدد الديني والاثني، فكيف تقرأ تجربتها في التطور التاريخي والاجتماعي والسياسي خاصة وأنها حققت نمواً ملحوظاً في هذه المجالات كافةً .

بالنسبة للتجربة الماليزية تمتلك خصوصية هامة لا بد من فهمها من أجل فهم عملية التنمية التي حدثت في هذه البلاد، فالمجتمع الماليزي متعدد الأعراق والأديان إذ يوجد ثلاث أديان رئيسية وثلاث أعراق ، العرق الملاوي و يعتنق معظم ابنائه الدين الإسلامي ثم العرق الصيني ويعتنق أبنائه الديانة البوذية والمسيحية وأخيراً الهنود الذين يعتنقون الهندوسية فهناك إذاً حوالي 10% من السكان من الهندوس و32% من الصينين والباقي الذين هم في حدود أكثر من النصف تقريباً مسلمين، والهندوس والصينيون أحضروا إلى البلاد في فترة الاستعمار البريطاني للعمل في مناجم التصدير وفي المزارع التي أنشأها المستعمرون البريطانيون ولا سيما مزارع النخيل وأيضاً الأعمال التجارية، فعملية الاستقلال حصلت نتيجة تفاوض خاصةً بين السـكان الأصلييــن ( الملايو ) الذين كانوا يطالبون بالاستقلال وبين الاستعمار البريطاني،وصيغة الاستقلال أعطت هيمنة كاملة للملايو على مؤسسة السلطة السياسة في حين بقي الصينيون متفوقين في المجال الاقتصادي وخاصة الصناعة والتجارة فالتنمية في ماليزيا هي نتيجة تفاعل هذه العناصر، فالدفع التنموي والاقتصادي كان مرتبطاً بالصينيين وشبكاتهم والعلاقات التي كانت بينهم وبين الصينين في تايوان وهونغ كونغ ثم في سنغافورة فالرأسمال الذي ساهم في صنع النهضة الماليزية كان الاقتصاد الصيني وقد تم نقله بعد حدوث تنمية اقتصادية في تايوان وهونغ كونغ، فالتنمية في ماليزيا في جوهرها كانت تنمية اقتصادية وهناك مجموعة عوامل ساعدت على ذلك وخاصةً وجود سياسة ماليزية مسلمة نيرة تعلمت في الغرب لكن انتماءها الإسلامي والإقليمي قوي وارتباط مصالحها بمصالح الأغلبية المسلمة قوي أيضاً في مواجهة التحدي الصيني والهندي الماليزي، لذلك تجد الأحزاب والتكتلات السياسة في ماليزيا مهما اشتد الصراع فيما بينها يبقى هناك تفاهم شفوي غير مكتوب بأن هذا الصراع يجب أن لا يتحول إلى انقسام ضمن الأغلبية المسلمة لأن هذا الانقسام يعنى الهيمنة الكاملة للرأسمال الصيني فاجتماع هذه العناصر وضعت شروط سمحت بقيام عاملين أساسيين :
وجود قيادة نيرة ارتبطت مصالحها بمصالح قواعدها الرئيسية ولا تعمل بمعزل عنها، ووجود عناصر لديهم علاقات اقتصادية واسعة وعندهم قدرات تجارية وصناعية متميزة ، فالوحدة السياسية والقدرة على الحفاظ والاستمرارية ومنع التجذر والصراع الداخلي من ناحية ووجود مجموعة سكانية ذات طموحات اقتصادية من ناحية أخرى ساهم في نجاح التجربة الماليزية .

س: يتهم الفكر العربي بعدم إطلاعه الكافي على الفكر الآسيوي رغم غناه النظري ،فكيف تنظر إلى هذه الثقافة أدبياً وفكرياً وفنياً.

الثقافة الماليزية بصورة عامة هي ثقافة تشدد وتعطي أهمية كبيرة لعنصر الاجماع على القرار والتوحد في التوجه والثقافة المالوية بصورة خاصة تعزز الإجماع حول القيادة وعدم التمزق أو التشر ذم ، وهذه الثقافة هي التي تجعل الفرد قادراً على ضبط النفس ودعم القيادة حتى عندما لا يتفق معها تماماً،مما أعطى الثقافة السياسية قوة كبيرة في حين أن الجانب السلبي فيها يكمن عند عدم وجود قيادة سياسية نيرة تعمل بالإصلاح والتطوير والتنمية للمجموع،إذ يصبح هذا الإجماع سلبياً ويكون من الصعب تغيير هذه القيادة السياسية ووضع حدود لتجاوزاتها ، لكن من حسن الحظ أن الماليزيين عندهم قيادة متميزة رغم أخطاءها وقصورها، لكن بصورة عامة كانت حريصة على التنمية بسبب الشعور بالارتباط بين مصلحة القيادة الشخصية ومصلحة النخبة الحاكمة ومصلحة الشعب ، فهناك شعور بأن تطور البلاد أساسي لاستمرار استقلالها والحفاظ على البنية السياسية والمصالح الاقتصادية ،هذا هيئ فرصة جيدة للتنمية، فالثقافة السياسية إذا تجنح وفق ذلك للمصالحة والإجماع وإعطاء القيادة السياسية الفرصة الكاملة من أجل تحقيق برنامجها أما على المستوى الثقافي العام فهناك ثقافات متعددة وليس ثقافة واحدة فهناك ثقافة المالاويين الإسلامية التي هي امتداد للثقافة التاريخية لشعوب الملايو المسلمة وهناك ثقافة صينية متغربة إلى أبعد الحدود في نمط حياتها وأذواقها وتفكيرها وفي لغتها ،فاللغة الإنكليزية هي لغة التعليم الأساسي لديها، فهذه الثقافات تعايشت تعايشأ سلمياً رغم تناقضها ويعود ذلك إلى روح التسامح العالية التي يتمتع بها مسلمو ماليزيا والتي تقوم على قبول الآخر وإعطاءه المجال لممارسة قناعاته ،فهو تسامح لم أجد له مثيلاً لا في الشرق ولا في الغرب ،وهذا ما سمع بتعددية ثقافية ،فالمسلمون الملايو أعطوا الحرية الكاملة للصينيين في تدريس لغتهم الخاصة ومحافظتهم على ثقافتهم التاريخية ، وهذا يدفع للتأمل على قدرة هذه الثقافات على التعايش السلمي إلى حد كبير واحترام خصوصيات الثقافة الأخرى .

س : هذا ينقلنا إلى علاقة الثقافة بالتنمية ، وذلك أن العلاقة الجدلية بينهما كانت مثاراً لسجالات متعددة فالبعض يصر على أولوية الثقافة بوصفها مخزن التحولات السياسية والاجتماعية ، في حين أن البعض الآخر يرى في ذلك رؤية انتربولوجية ثابتة لا تقرأ التحولات والتغيرات التي تمر بها المجتمعات تبعاً لظروفها السياسية والاجتماعية ، كيف تقرأ هذه العلاقة ؟ 

هناك علاقة جدلية تبادلية بين البعد الثقافي والبعد الاجتماعي فالثقافة والقيم والتصورات والمفاهيم تؤثر في تشكيل البني الاجتماعية وتغيير هذه البنى يؤثر في الثقافة ، فمن الخطأ النظر إلى الطرفين باعتبارهما يخضعان لقوانين ساكنة،فهناك حركية ثقافية وحركية اجتماعية تجعل الثقافة بحالة تغير مستمر كما تجعل البنى الاجتماعية في حالة تحول ، و البنى تخضع لأمور كثيرة منها القوى الاقتصادية والسياسية وتغير علاقاتها ، والثقافة هي محصلة ثقافات إذ ليس هناك أحادية في أي مجتمع ، وهذه الثقافات في حالة تفاعل مع القوى السياسية التي تعطى أولوية على أخرى مما يجعل الثقافة في النهاية هي محصلة توازنات وتوافقات القوى الموجودة في المجتمع ، فمن الخطأ أن نقول أن هناك علاقة سببية تبدأ من نقطة ثم تنتهي في أخرى ، بل هناك علاقة تضايفية جدلية تجعل من أي تغيير في هذا المجال يحدث تغييراً في المجالات الأخرى والعكس صحيح .

س : إذا أردنا أن نقرأ علاقة الإسلام بالحداثة ،فهذه الثنائية تجمع بين دين سماوي وزمن تاريخي فهل تعتبر هذه الثنائية استمراراً للتوليفات الثنائية التي نشأت مع عصر النهضة كالإسلام والاشتراكية والأصالة والمعاصرة وغيرها أم أنها تختلف عن ذلك كلياً؟

فهم العلاقة الثنائية يختلف بحسب تعريفنا لمفهوم الإسلام فهل نعرف الإسلام على أنه نصوص تاريخية مرتبطة بعصر معين، ظهرت وبرزت وبدأت تؤثر في الفكر والفعل أم ننظر إلى الإسلام باعتباره تفسيراً لتلك النصوص، فالإسلام والحداثة ليسا طرفين متناقضين متقابلين إلا إذا فهمنا الإسلام بمعناه التاريخي والحداثة بمعناها الغربي، فهناك إذا مساحات واسعة للتناقض كما أن هناك مساحات واسعة للتوافق بين الإسلام كمجموعة من القيم والمفاهيم والتصورات وبين الحداثة، فإذا نظرنا إلى الإسلام على أنه يحوي قيماً ثاوية ثابتة فيه على اعتبار أن الإسلام هو النص القرآني وتطبيق الجيل الأول من الصحابة إضافة أنه عبارة عن مجموعة من القيم والتصورات فنحن إذاً قادرون على أن نتحدث عن إسلام خاضع لقوى التغيير فهناك ربط القيمة بالنموذج أو المؤسسة، وهذا ما يحول الإسلام من صيغة عامة إلى صيغة مؤسسة ضمن ظرف اجتماعي وتاريخي محدد ، فإذا نظرنا إلى الإسلام من هذا المنظور وقلنا أن الإسلام هو عبارة عن تفسير لمجموعة من القيم والمعادلات فيمكننا إذاً الحديث عن حداثة إسلامية قادرة على أن تضع الحداثة من خلال القيام بمشروع حضاري ومن خلال قيم العدالة والرحمة والمساواة فهذه القيم كلية بحاجة إلى أن تعطى خصوصية أو تتجسد في نموذج تاريخي من أجل ممارستها، لذلك فأعتقد أن المشكلة اليوم في التعامل مع الإسلام تتعلق بأمرين، فالبعض يتعامل مع الإسلام كمجردات بحيث نفتقد تحويل هذه المجردات إلى المطلقات إلى مؤسسات وعلاقات ، والأمر الثاني النظر إلى الإسلام كنموذج ناجز تم استكماله في مرحلة سابقة وليس علينا إلا استعارة أشكاله التاريخية مرة أخرى فكلا الفهمين أساءا للإسلام وللمجتمع العربي المعاصر ، فكل مجتمع بحاجة إلى النهوض و يحتاج إلى توظيف هذا الزخم الهائل من القوى الدينية في المجتمع فعملية التغيير بحاجة إلى التزام عميق بمجموعة من القيم ، هذا الالتزام بالتعريف هو التزام ديني أي التزام عميق يجعل القيمة أمراً مرتبطاً بتعريف الذات ومعنى الحياة ، فنحن غير قادرين على توظيف القدرة الروحية للإسلام في تطويرالمجتمع المعاصر فنحن نحتاج إلى مجموعة من القيم لا بد منها من أجل توحيد الصفوف وتحقيق التعاون والصدق في التعامل والإخلاص والتفاني ، ولكننا اليوم بسبب الانفصام بين الديني والدينوي محرومون من هذه الطاقة الروحية الهائلة التي لا بد لها للمضي في أي مشروع نهضوي حضاري جديد .

س : في ضوء كتابك ( إعمال العقل من النظرة التجزيئية إلى الرؤية التكاملية ) نلحظ أنك حصرت مفهومك للعقل بتعريف المنظومة الأرسطية التقليدية لها ، ولم تأخذ بعين الاعتبار النقد الذي وجهه تيار ما بعد الحداثة وخصوصاً ليوتار لهذا المفهوم ؟ 

للعقل عدة مستويات ،إحدى مستويات العقل : العقل المنطقي البرهاني الذي ينظر إلى محيطه فيحاول أن يبحث عن الثابت والمتغير ويحلل الأشياء ويربطها بطريقة منطقية ،هذه الطريقة المنطقية هي التي يحاول المنطقيون البحث عنها وفصلها وتحليلها وتحديد بعض خطواتها ،فالعقل الإنساني يملك مستوى وعي منهجي يحكم علاقات الأشياء وفهمها كما أن للعقل مستويات أخرى كما أشرت في الكتاب، مستوى روحي أو عرفاني بتعبير محمد عابد الجابري في كتابه( نقد العقل العربي) وله مستوى آخر بياني يتعلق بالقيم وتحليل النص والبحث عن القيم ،فالناظر إلى تاريخ المجتمعات يجد أن النص عنصر أساسي في الفهم والتفسير والتحليل وحتى اليوم مع غياب أي نص له صفة الإطلاق أو التنزيل أو التقديس نجد أن البحث الأخلاقي المعياري يتعلق بالبحث ضمن نصوص مرجعية تتعلق برواد حركة التنوير الغربية من كانط وهيغل وديكارت وغيرهم فما كتبوه هو انطباعاتهم ونظراتهم وتحليلاتهم ،لقد أصبحت نصوصهم نصاً مرجعياً يستعاد من أجل فهم ضوابط الفعل والقواعد الأخلاقية . 
فالأخلاقي والإشراقي فيما يتعلق في تلك اللمعات التي هي مقدمة للعلم، فالعلم هو مرحلة متقدمة من المعرفة والمعرفة أمر تلقائي ذلك أن الوعي البشري قادر على استنتاج واستنباط نتائج من خلال الملاحظة والتحليل والوعي لمحيطه ، فيأتي دور العلم بنقل الإشراقات الحديثة وضبطها والبحث عن المعايير التي تنقلها من مرحلة المعرفة إلى مرحلة العلم المشترك ، فالحدس هو الأصل وقد أكدت على ذلك في كتابي ( إعمال العقل ) فالمعرفة تفترض قيام خبرة و بدون خبرة الإنسان العارف تصبح الكلمات مجردة من أي معنى،إذ تصبح كلمات فارغة فالمعنى ناتج عن ربط بين مجموعة مفاهيم وتصورات وبين خبرة عملية مرتبطة بخبرة الإنسان العارف، لذلك فأنا لا أتفق مع من يدعو إلى تقليص العقل إلى عقل برهاني والقضاء على مساحات العقل البياني أو الإشراقي ، فتقليص العقل إلى عقل برهاني هو محاولة لتقمص العقل الوضعي الغربي في حين أن مستقبل الثقافة والنهضة العربية ترتبط مباشرة باستعادة الأخلاقي والروحي الذي يعطي للحياة معنى ورسالة، لذلك فالقول بأن الطرح الذي قدمته هو استعادة للعقل الأرسطي غير دقيق ، وإن كنت قد ركزت في بحثي على الجوانب البرهانية ثم البيانية ودعوت إلى إصلاح مناهج التفكير ضمن التحليل اللغوي البياني كما دعوت إلى إصلاح علم أصول الفقه الذي هو العلم الأساسي الذي يحدد منهاجية تعامل العقل مع النص . 

س : يقف الكثير من المثقفين والمفكرين العرب موقفاً سلبياً من تيار ما بعد الحداثة على اعتبار أن المجتمعات العربية لم تنجز حداثتها لذلك لا ترى ضرورة في الدخول في جدل نقدي مع تيار ما بعد الحداثة ،إذ هي تتبني مفهوماً خطياً للتاريخ ،إذ يجب على المجتمعات أن تسير بخطى متلاحقة ومتتابعة، ما رأيك بذلك ؟ 

اتفق مع من يقول بأن المجتمع العربي لم يدخل مرحلة الحداثة، فالحداثة التي يعيشها المجتمع العربي هي حداثة مستعارة لم يتم التعاطي معها من خلال نقد عميق وإعادة تحوير لكي تتناسب مع الخبرة التاريخية للمجتمع العربي فالحداثة التي تعبر عن أصالة لم ندخل بها أو مازلنا في بداياتها ،لكنني اختلف مع من يقول بأنه ليس هناك حاجة للتعاطي مع الفكر ما بعد الحداثي على اعتبار أننا لم ندخل مرحلة الحداثة بعد،فالتعامل والتفاعل مع هذا الفكر هو مهم وضروري لفهم الحداثة الغربية ذاتها فالفكر ما بعد الحداثي في الحقيقة هو عملية نقد عميقة جداً للفكر الحداثي ، وفحوى هذا النقد أن الفكر الحداثي لا يملك أساس خارج عن الأطروحات التي تقدم بها مفكروا الحداثة الغربيون، ولا يملك مرجعية خارج السياق التاريخي للمجتمع الغربي ،وهذه ملاحظة بالغة الأهمية ، إذ تشير إلى أن هناك أساس قديم تم تجاهله في عملية تطوير الحداثة الغربية، في تقديري أن هذا الأساس يتعلق بالبعد العلوي الغائب في الفكر الغربي، فالعلوي قديم تم استبعاده من خلال محاربة الفكر الميتافيزيقي ،و من خلال ذلك تم استبعاد العلوي وهو الكل وعندما تتجاهل الكل يصعب عليك العودة من أجل ربط العناصر و المساحات المعرفية الاجتماعية فلذلك من المفيد أن نتعامل مع هذا الفكر و أن نفهمه وأن نستفيد من نقده للتجربة الحداثية، لكنني أتفق أيضاً أن الفكر ما بعد الحداثي لا يصلح لكي يكون أساس لبناء جديد فهو تعبير عن أن الحداثة الغربية قد بلغت مداها وأن المنطلق الاجتماعي التاريخي الغربي اليوم يقوم في مساحة كبيرة منه في غياب ضوابط ترتبط بالفكر الحداثي والقيم الحداثية وفي غياب بديل يمكن للجميع تبنيه عوضاً عن الرؤية الحداثية .

س : هل تشعر أن المجتمعات الغربية اليوم بحاجة إلى مشروع حداثي جديد يطلق عليه (ما بعد الحداثة) أم أن مشروع الحداثة نفسه مشروع لم يكتمل كما عبر هابرماز ؟ 

أعتقد أن المجتمع الغربي غير قادر على تطوير ذاته وإعادة توليد ثقافته بالعودة إلى مرجعية الحداثة .

س : لكن التجربة التاريخية الغربية أثبتت عكس ذلك فالفكر الغربي قادر على تجديد نفسه من داخله ؟ 

نعم ، التجربة الغربية أظهرت أن المجتمع الحداثي قد مر بمرحلة نمو واستطاع من خلاله نقل عدد كبير من قيمه المثالية وتحويلها إلى واقع معيش كقضية المساواة والحريات والمشاركة السياسية هذه الأطروحات أساسية لحركة التنوير الغربية وفعلاً استطاعت هذه الحركة نقل التجربة الغربية من مجتمع إقطاعي تتحكم الأنظمة المركزية فيه إلى مجتمع يعيش حياة المشاركة القانون والمساواة إلى مدى بعيد. 
فقد حقق المجتمع الغربي الكثير مما كان ينادي به قبل قرنين أو ثلاثة واستطاع أن يعبئ الطاقات الإبداعية والإنتاجية والأخلاقية ويحولها إلى مجتمع صناعي له أدواته ونظامه المميز ، لكن المشكلة اليوم أن الحداثة بعد أن رفضت أي لقاء مع العلوي غير قادرة على الأخلاقيات الخاصة بتوليد هذا المجتمع ،فما بعد الحداثة اليوم هي دعوة تقول أن القيم الحداثية قيم ليس لها مبرر ولا تستند إلى حقيقة فالجنون والعقل بمرتبة متساوية في المنظور الما بعد الحداثي ،وسلوك معين ليس أفضل من آخر، إذ هي في النهاية مجموعة تواضعات وهذه التواضعات تخدم قوى اجتماعية ،فميشيل فوكو على سبيل المثال حاول أن يظهر كيف أن السجن والمصح العقلي هما في النهاية محاولة لرفض واستبعاد أنماط من الحياة غير مقبولة من القوى الاجتماعية السائدة، لأن هذه الأنماط لا تحقق المشروع الحداثي نفسه ، لكن تلك الأنماط مشكلتها الأساسية هي أنها لا تقبل قيم الحداثة فكما تلاحظ كثير من دعاة ما بعد الحداثة يؤكدون أن ليس هناك حقيقة مطلقة ، وأن الحداثة لا تستند على حقيقة وأن هناك أنماط مختلفة من السلوك وأن كل فرد يقوم بما يشاء من الأنماط لأن الفكر ما بعد الحداثي لا يستند إلى مرجعية فهي غير قادرة على إحداث مشروع نهضوي لكنها تقوم بنقد عميق لكل مؤسسات وممارسات وقيم وتصورات الحداثة 

س : يقرأ علماء الاجتماع ما بعد الحداثة في ضوء نمطها الاجتماعي الجديد أو ما سماه آلان تورين ظهور المجتمع ما بعد الصناعي ، فهل تعبر ما بعد الحداثي حقاً عن اصطفافات اجتماعية جديدة في المجتمع الغربي أم هي مجرد دعوات لنخب سياسة وفكرية غربية .

أعتقد أن هذا التحليل الاجتماعي لما بعد الحداثة يظهر أن المجتمع الغربي انتقل إلى مجتمع صناعي والذي يمارس معظم أفراده أعمالاً صناعية كالقوى العاملة وغيرها بعد أن كان مجتمعاً زراعياً ففي الولايات المتحدة نلحظ أن 75% من السكان كانوا قبل مائة سنة يعملون في الزراعة فإذا اقتربت أكثر إلى عام 1930 وجدت أن 60% من السكان كانوا يعملون في الصناعة في حين أن 25% كانوا يعملون في الزراعة في حين أنك إذا حللت ذلك المجتمع اليوم لوجدت 25% من السكان يعملون في الزراعة و15% يعملون في الصناعة والباقي ينتمون إلى قطاع الخامات الصحية والترفيهية وغيرها . 
فهذا التحليل هو محاولة لفهم الانتقال على مستوى البيئة الإنتاجية في حين أن التحليل ما بعد الحداثي ينظر إلى البناء الثقافي والأخلاقي والاجتماعي للمجتمع ولا يقبله كما هو لكنه يقول بأنه يقوم على إشكاليات أهمها أنه يخدم حاجات قوى سياسية واجتماعية ولا يقوم على أي ضابط معياري علمي أو أخلاقي أو أي ضابط يرتبط بأسس ثابتة مما يسمى بالحقيقة ، فالحقيقة خارجة عن الخبرة الإنسانية وأن هذه الحقيقة قادرة على توجيه هذه الخبرة وضبطها .

س : كيف تقرأ علاقة ما بعد الحداثة بالعولمة ، فالعولمة تمتلك حوامل تقنية ومعلوماتية واتصالية رئيسة فهل التوازي بين ثقافة العولمة وبين تيار ما بعد الحداثة يعد دوراً كبيراً في الترويج لهما كمدخل لنمط اجتماعي جديد ؟

لفهم العلاقة بين الفكر ما بعد الحداثي والعولمة ،يجب أن نفهم العلاقة بين ما بعد الحداثة والسلطة فالفكر ما بعد الحداثي في مجمله هو فكر معادي للسلطة المركزية ، حتى أنه يحنج في كثير من جوانبه إلى الفوضوية مع تقليل سلطة الدولة ورفض مراكز القوى الاقتصادية في المجتمع ، لذلك فأرى أن الفكر ما بعد الحداثي سيكون معارضاً للعولمة بوصفها مشروع تقوده الشركات متعددة الجنسيات والمصالح الاقتصادية من أجل الهيمنة على الأسواق وبالتالي الثقافات والإنسان في حين أن الفكر ما بعد الحداثي يؤمن بالتعددية الثقافية وبأن السلطة في النهاية يجب أن يحد استخدامها ويعطى الفرد حرية كاملة وهذا يتعارض مع العولمة ،لكني لا استغرب إذا ما وجدت بعض المفكرين ما بعد الحداثيين يرحبون بالعولمة إذا تمت تصفيتها من مؤثرات السلطة والهيمنة المركزية من خلال جعلها عولمة تقوم على التنوع والتعدد وانفتاح الثقافات على بعضها البعض ، فالفكر ما بعد الحداثي سيكون أميل إلى هذا الشكل من أشكال العولمة .

س : يستغرق البعض في وصف الآثار السلبية و الهامشية للعولمة على العالم العربي آلا ترى أن هناك فرصاً إيجابية من الممكن اقتناصها والاستفادة منها أفضل من التركيز على الجوانب السلبية .

أعتقد ذلك ، فالعولمة تشكل تحدي للعالم العربي على اعتبار أن العولمة تقودها قوى وتكتلات اقتصادية ذات مصالح لا تنسجم مع المصالح العربية، فهي بهذا المعنى تشكل تحدياً حقيقياً لكن في نفس الوقت فرصة لأن العولمة تقوم على مفهوم اضعاف سلطة الدولة وإعطاء هامش أوسع للمؤسسات الاقتصادية الثقافية فإذا عدنا إلى المجتمعات العربية نلاحظ أن المشاريع في البلاد العربية ارتبطت بالدولة ، فالمبادرة قد أخذت من الفرد ، فكل الجوانب التنموية حتى الثقافية بها محصورة بقرار مركزي وهذا ما أثر على حركة المجتمع المدني فقد فقد القدرة على المبادرة وعلى الشعور بالمسؤولية . فالتنمية ليست فقط مسؤولية الدولة وإنما هي أيضاً مسؤولية الفرد والأسرة ففي تقديري مثل هذا التغيير في التوازن بين الحكومات القطرية وبين مؤسسات المجتمع الأهلي أو المدني سيتيح المجال للأفراد للمبادرة وللشعور بأن مسؤولية التنمية والتحديث والتطوير هي مهمة الفرد قبل أن تكون مسؤولية الدولة ، ومن هذا المجال قد تكون العولمة فرصة إذا أحسن استخدامها وإذا بادرت القوى السياسية وخاصةً الحاكمة بالسماح للقوى الأهلية والأفراد لإظهار القدرات الإبداعية والإنتاجية وهي في عالمنا العربي ليست قليلة لكنها تحتاج مساحة كافية للتحرك للمساهمة في عملية النهضة الاجتماعية والقانونية والسياسية .

س : لديك علاقات واسعة مع المؤسسات والمنظمات الإسلامية الموجودة في الولايات المتحدة ، كيف تقرأ الدور الذي يجب أن تقوم به هذه المؤسسات من أجل تشكيل ضغط سياسي و حضور ثقافي في المجتمع الأمريكي .

هذه المنظمات يمكن أن تلعب دورين، الأول من خلال نشاطاتها في مجتمعات مهيمنة وخاصة الولايات المتحدة وقرب مراكز صنع القرار في العالم برمته، هذا النشاط يجعل القرار السياسي أكثر توازناً واعتدالاً في تعامله مع المجتمعات العربية والإسلامية ، أما الدور الآخر الذي تقوم به هذه المؤسسات هو دور إصلاحي تنويري لأن هذه المجتمعات تتعامل مع تراثها التاريخي الإسلامي بنوع من الحيوية فهي لا تتعامل باعتبار أن المحيط الثقافي تبدل وأن أمامها مجموعة من المشكلات عليها حلها مما أعطاها الحيوية وممارسة شيء من الاجتهاد في التعبير عن أصالتها التاريخية وتطبيقها في سياق اجتماعي مختلف كما أتاحت هذه التجربة للجاليات العربية والمسلمة للتعامل مع الآخر بشيء من الاعتدال بعيداً عن التشنج وأعطتها القدرة على استيعاب الاختلافات لأن الجاليات تنتمي إلى ثقافات وحضارات متعددة فهناك حاجة للتعاون والتفاهم والوصول إلى قرارات مشتركة ، فمثل هذا الاحتكاك اليومي جعل الفرد الذي ينتمي إلى الجاليات المسلمة قادر على احترام الخصوصيات الذاتية للثقافات والتعامل معها بدون تشنج وبنوع من التفاعل والتسامح، فهذه التجربة قمينة بتوليد نموذج جديد للتفاعل التاريخي والمعاصر يمكن أن تؤثر على المدى الطويل وتعطي نموذج وتجربة حية تستفيد منها المجتمعات العربية والإسلامية التي تحمل صفة الاستمرارية والتقليدية بحكم موقعها وانتمائها وبحكم القوى الثقافية والمرجعيات الأخلاقية الموجودة فيه .

س : يعتبر إدوارد سعيد أن هناك إمكانية كبرى لتشكيل حلف اجتماعي مع الأميركيين السود أو الأميركيين ذو الأصول الأفريقية ،فكيف ترى ذلك ؟ 

هذا حاصل بالفعل وبصورة أساسية على مستوى الأقليات الأفريقية أو السود في أمريكا فالكثير منهم يعتنقون الدين الإسلامي ، باعتباره ديناً وجدوا فيه ما يؤكد على المساواة وتحرير الفرد من الضغوط الاجتماعية ، لكن مؤخراً ظهرت المنظمات الإسلامية على المستوى القومي أي المنظمات التي تهتم بالجاليات الإسلامية بمختلف مناطق الولايات المتحدة وتحاول أن تضغط على مراكز صنع القرار من أجل تطوير قوانين سياسية تخدم مصالح الجاليات الإسلامية ذات الخصوصيات الثقافية والدينية ، هذه التجربة الجديدة دفعت المنظمات الإسلامية والعربية التي تعمل على مستوى أمريكا كلها للدخول في تحالفات وائتلافات مع منظمات أمريكية تشاركها في همومها بعضها مهتم بقضايا الأقلية والبعض الآخر مهتم بقضايا أخرى كالأسرة مثلاً التي تمثل إحدى القيم الأساسية في المجتمع المسلم فهناك اليوم تحالف بين الجاليات الإسلامية وبين بعض القوى والمؤسسات والحركات الاجتماعية التي تريد أن تواجه حركات الشذوذ الجنسي التي تحاول تدمير الأسرة وتدفع المجالس التشريعية لاستصدار قوانين تميع مفهوم الأسرة فهناك الكثير من التحالفات من هذا الشكل ، فمع وجود ثوابت مشتركة بين الجاليات الإسلامية وبعض القوى الاجتماعية في أمريكا تدفع لقيام تحالفات تسمح للجاليات العربية والمسلمة المشاركة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية بصورة أكثر فاعلية مما مضى .

س : بوصفك رئيس جمعية علماء الاجتماع المسلمين في أمريكا ، بعد ثلاثين عاماً من تأسيسها ما هي الأسباب والظروف التاريخية التي استدعت تأسيسها ؟ 

جمعية علماء الاجتماع المسلمين تأسست عام 1972 وأسسها مجموعة من أساتذة الجامعة المسلمين الذين أرادوا أن يجدوا منبراً للتحاور في قضايا قد لا تهم الباحث الأمريكي ولكن تهم الباحث الذي هاجر من مناطق عربية وإسلامية وله هموم تتعلق بهذه المنطقة، فتأسست من أجل إيجاد منبر للحديث حول قضايا تهم الإنسان المسلم ، ومنذ تأسيسها عقدت هذه الجمعية مؤتمراً سنوياً بدون انقطاع ،وقد وفر ذلك مساحة لتقديم أبحاث من الصعب تقديمها في منابر جامعية غربية أخرى ، إضافة إلى ذلك أنها أسست بالتعاون مع المعهد العالي للفكر الإسلامي مجلة فصيلة محكمة هي مجلة علوم الاجتماعيات الإسلامية الأمريكية وهي توزع في معظم دول العالم وخاصةً تلك البلاد التي تحوي أقليات أو جاليات إسلامية وهي مجلة رصينة ومفهرسة في الكثير من الفهارس العلمية في الغرب ويقرأها العدد الكبير حتى وصلت إلى جنوب شرق آسيا في انتشارها وتوزيعها .

س : كيف تقرأ العلاقة الإشكالية بين مناهج بحث إنسانية مستقلة عن انتماءها الإيديولوجي وبين حقل معرفي كعلم الاجتماع ،لا سيما أنكم تتحدثون عن علم اجتماع إسلامي ؟ 

الأدوات البحثية هي كما قلت إنسانية كالتحليل والتركيب والاستقراء والاستنتاج هي عمليات عقلية يملكها الكثير من الناس فهي لا تنتمي إلى دين أو عقيدة أو تجربة تاريخية خاصة ،لكن البحث الاجتماعي ليس أدوات فقط فهو أيضاً مقدمات، بعض هذه المقدمات علوية فهي تصورات سابقة على عملية البحث، فالبحث عندما يطرح سؤالاً،تتحدد طبيعة السؤال برؤية معينة للحياة كالمجتمع والعلاقات ، فالباحث عندما يقوم بتقويم تجربة فإنه يقيمها بناءً على مجموعة من القيم ، التي لا تأتي من خلال التجربة والبحث وإنما هي سابقة على عملية البحث فمن أن تأتي هذه القيم والتصورات العلوية الميتافيزيقية ، لذلك قلت في إحدى الدراسات أن عملية البحث العلمي تقترض رؤية خاصة للعالم ، كنظام خاضع للأنظمة والقوانين .

س : لكن ما هي علاقة علم الاجتماع الإسلامي كما وصفته بعلم الاجتماع ذو الأصول الغربية ،هل يتعامل معه وفق منطق الإفادة والإضافة أم أنه يقوم على منطق توظيف المفاهيم الأولية النظرية لعلم الاجتماع ؟

ما نعنيه بكلمة ( الإسلامي ) في وصف علم الاجتماع الإسلامي رغبة في التأكيد على الحاجة في وجود البديل ،الذي لا ينفك كلياً عن الرؤية الغربية وإنما يقوم بتعديلات عليها ولعل أهم هذه التعديلات هو إظهار البعد الخفي في علم الاجتماع الغربي وهو السكوت عن مصادر القيم والمقدمات العلوية للاجتماع الغربي ،فقد ميزت في إحدى الدراسات بين ثلاث رؤى أساسية تحكم علم الاجتماع الغربي، الأولى هي الرؤية الآلية للكون ،ترى الكون آلة فهناك مجموعة علاقات وقواعد تنظم هذه الآلة ودور المفكر في البحث عن تلك القواعد في نظرة أرسطية ديكارتية كنظرته إلى العالم أن له محرك أول وضع له مجموعة من القواعد ثم تركه يتحرك وفق هذا النظام ، أما الرؤية الثانية فهي الرؤية الحلولية وهي الصيغة التي ترى أن الله حال في الكون وترى أن التجربة الإنسانية هي مجموعة بديل عن الله، لذلك قال هيغل في كتابه ( ظاهريات الروح ) أن المعرفة الإنسانية قادرة على الوصول إلى المعرفة المطلقة فالإنسان الكامل هو الله أو القوة الروحية الكلية التي تتجسد في الكون ، أما الرؤية الثالثة فهي رؤية مادية ترى أن المادة هي نفسها عاقلة ولذلك فالطبيعة قادرة على التفكير وتمتلك صفة عقلية وأن الحياة الإنسانية هي نوع متقدم من الحياة المادية ، فإذا حللت جميع التحليلات الاجتماعية الغربية تجدها تنطلق من إحدى هذه الرؤى الثلاثة ، هذه الرؤى هي دينية بمعنى أنها خارجة عن التجربة المباشرة للإنسان ومرتبطة بجزء من كيانه وتتعلق بطموحه العلوي أما علم الاجتماع الإسلامي ينطلق من أن مقدماته ومنطلقاته العلوية والقيم الأخلاقية الأساسية مرجعيتها الإسلام باختلاف التفسيرات والأولويات واختلاف النظر إلى الواقع ، ومن ذلك يستطيع علم الاجتماع الإسلامي أن يبني على المنجزات الغربية في علم الاجتماع وهي منجزات لا يمكن التقليل من شأنها على مستوى التحليل ، لكن فيما يتعلق بمرجعية المعيارية فهو يمتلك مرجعية مختلفة ، أضف إلى ذلك أن علم الاجتماع الغربي ينطلق من مركزية غربية ويحاكم أشكال الحياة الإنسانية كلها وفقاً للتجربة الغربية وينظر إلى التجربة الإنسانية كنمو خطي بدأت من الشعوب البدائية ووصلت إلى التقدم مع الحضارة الغربية الحديثة فعلم الاجتماع الإسلامي يرفض المركزية الغربية ويقول أن خبرة الشعوب الأخرى لا تقل أهمية مع عدم التقليل من الخبرة الغربية المهيمنة لكنه بنفس الوقت يريد أن يخرج المقدمات الخفية ويجعلها صريحة للبحث العلمي الإجتماعي .

س : ترى إذا أن الاختلافات قائمة في المنطلقات النظرية لكن على مستوى البحوث الميدانية الاجتماعية هل نلحظ فروقات لدى دراسة المجتمعات الإسلامية عن المجتمعات الغربية ؟.

طبعاً هناك اختلاف فعندما ينتقل الباحث من مرجعية أمريكية إلى مرجعية جنوب أمريكية تختلف رؤيته وكذلك عندما ينتقل الباحث من دولة صناعية مركزية إلى دولة أخرى نامية معتمدة في حياتها ونظمها على الغرب ، فالنظر إلى رؤية التنمية الموجودة في الغرب والقائمة على نظرية التحديث ، فلها مقدماتها والتي تحتكم إليها في حين نجد أن مدرسة التيعية التي نشأت في أمريكا الجنوبية تم تبناها عدد من الباحثين في مناطق أخرى من العالم كما حصل مع سمير أمين من مصر ، هذه المدرسة لها فهم آخر لعملية التنمية وآلياتها ، فاختلاف المرجعية واختلاف الخبرة يؤدي إلى اختلاف الرؤية والتحليل وعندما نحتكم إلى منظومة قيم وتصورات تعتمد المرجعية الإسلامية سنلتقي مع الآخر في مجالات وسنخالفه في مجالات وهذا سوف يؤدي إلى الحوار ، ففي النهاية كل رؤية يجب أن تدافع عن اطروحاتها من خلال عملية البرهان .

س : من المعروف أن علم الاجتماع الغربي في عملية تطور مستمر،إذ نلحظ تيار ما بعد البنيوية وجه انتقادات حادة للمركزية الغربية لا سيما كلود ليفي شتراوس وغيره، كما نجد في دراسات مارسيل غوشيه وبيار كلاستر للمجتمعات البدائية ،ولكن لِمَ لَمْ نجد لدى علماء الاجتماع المسلمين دراسات ميدانية متقدمة بقدر ما استغرقوا في الدراسات النظرية والمتيافيزيقية؟ .

هناك بعض المفكرين الغربيين متأثرين برؤية علوية تنصب على طرح الأنجيل والتوراة للقيم الأساسية انظر مثلاً المدرسة البنائية التي أميزها عن البنيوية فهي مثلاً على المستوى السياسي تعطي أولوية لمفهوم القانون وحقوق الإنسان ،فالإنسان يملك حق ليس على أساس تجريبي وإنما هو حق ثابت شبيه بالدعوة التي أطلقها توماس جيفرسون لدى إعلان الاستقلال الأمريكي فقد قال بأن الله خلق الإنسان وأعطاه قيم أساسية ثابتة لا يحق لإنسان آخر أخذها منه ، هذه الفكرة تقوم على أساس رؤية علوية فهناك خالق وأن هناك مخلوق أعطى قيم وهي لذلك مستقلة عن الموضوع الاجتماعي، فالأطروحات التي يقدمها بعض المفكرين الغربيين تفتقد إلى الأساس ، فأزمة علم الاجتماع الغربي تكمن في غياب الأساس كما هو النقد الذي وجهه تيار ما بعد الحداثة ، لذلك أعتقد أهمية أن تبرز رؤية تنطلق من الثوابت ، قد لا نتفق على الثوابت ، لكن لدى البحث عن مجتمع إنساني قادر على وضع ثقافة تتيح للباحث الاجتماعي أن ينطلق من أسس ثابتة فهناك قيم تحكم الإنسان وتجعله ذا هدف أو معنى للوجود فالإسلام لدى علم الاجتماع الإسلامي إذاً يعطيه أهمية في إنتاج نماذج وتصورات تحليلية لحدود الفعل الإنساني وحقوقه وإذا استطعنا تقديم رؤية متميزة نابعة من تراث خاص سيكون مفيداً ، لكننا مازلنا في البداية، في مرحلة إقناع الآخرين بضرورة وجود هذا المنظور في علم الاجتماع .


 

 

22-03-2005 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=542