/

 

 

بين يدي الفكر الاقتصادي الإسلامي: دور الدولة في الحياة الاقتصادية

أسامة قاضي

إن أحد أهم الموضوعات المثيرة للجدل في الفكر الاقتصادي السياسي هو حجم دور الدولة في الحياة الاقتصادية، وليس دور الدولة، لابل يكاد يكون هناك إجماع في الأدبيات الاقتصادية على ضرورة حضور الدولة في الحياة العامة في كل المذاهب الفكرية، ولكن الخلاف يكمن في حجم الجرعة "الحكومية" اللازمة لإحياء النشاطات الاقتصادية ودفع عجلة التنمية الاقتصادية والتي هي محطّ خلاف بين المدارس الاقتصادية.
الدولة من وجهة نظر الفكر الإسلامي لها دور مراقب، وموجّه، ومسؤوليته تستدعيه أحياناً إلى درجة التدخل في السوق لتعديل ميزان العرض والطلب بهدف رفع المظالم، ولكن ليس كجهة مؤثرة في ميزان العرض والطلب. إن تدخل الدولة - كما يتحدث باقر الصدر- في الحياة الاقتصادية يعتبر من المبادئ المهمة في الاقتصاد الإسلامي التي تمنحه القوة والقدرة على الاستيعاب والشمول، ولايقتصر تدخل الدولة على مجرد تطبيق الأحكام الثابتة في الشريعة، بل يمتد إلى ملء منطقة الفراغ من التشريع (المقصود هنا مساحة الاجتهاد)، فهي تحرض من ناحية على تطبيق العناصر الثابتة من التشريع، وتضع من ناحية أخرى العناصر المتحركة وفقاً للظروف" (اقتصادنا 680) 
إن دورالدولة جرى توصيفه من قبل فقهاء السياسة في تاريخنا من أمثال الفراء والماوردي وغيرهم ممن كتبوا عن وظائف الإمام يرسمون من خلاله رسم الدولة التي يُجملها أبو يعلى الفراء في كتابه "الأحكام السلطانية" في عشرة بنود:
1- حفظ الدين (الدور الديني للدولة)
2- تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين (القضاء العادل)
3- تأمين الاستقرار الأمني بحماية الدولة ضد الأعداء (الدور الأمني للدولة).
4- إقامة الحدود لتصان محارم الله (الدور الاجتماعي للدولة).
5- تحصين الثغور بالعدوة المانعة والقوة الدافعة.(الدور الأمني)
6- الجهاد في سبيل الله.(الدور الأمني الديني)
7- جباية الفيء والصدقات على ماأوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير عسف.(الدور الإداري المالي والضرائبي للدولة)
8- تقدير العطاء، ومايستحق في بيت المال، من غير سرف ولاتقصير، ودفعه في وقت لاتقديم فيه ولاتأخير.(العدالة في توزيع الثروة القومية)
9- اختيار الوزراء الأمناء النصحاء.(الفريق الإداري الفعال)
10- أن يباشر بنفسه سياسة الأمة وحراسة الملة. (الدور الإداري والديني)
لقد تجاوز دور الدولة برأي "الفراء" و "الماوردي" وغيره الحفاظ على الأمن، لابل أسند إلى الجهاز الحكومي دور إعادة توزيع الثروات القومية عن طريق جهازها الضرائبي الذي كتب في تأصيله كتب كثيرة أولها وأشهرها كتاب الإمام أبو يوسف "الخراج".
إن القاعدة الأصولية التي تقول إن "التصرف على الرعية منوط بالمصلحة" ترسم حدود الإدارة العامة والسياسة الشرعية في سلطان الولاة وتصرفاتهم على الرعية. إن إن هذه القاعدة تفيد كما يقول العلاّمة الدكتور مصطفى الزرقاء (المدخل 1044):
" إن أعمال هؤلاء الولاة وتصرفاتهم النافذة على الرعية الملزمة لها في حقوقها العامة والخاصة يجب أن تبنى على مصلحة الجماعة وتهدف إلى خيرها.ذلك لأن الولاة، من الخليفة فمن دونه من العمال الموظفين في فروع السلطة الحكومية، ليسوا عمالاً لأنفسهم، وإنما هم وكلاء عن الأمة في القيام بأصلح التدابير لإقامة العدل، ودفع المظالم، وصيانة الحقوق والأخلاق، وضبط الأمن، ونشر العلم، وتطهير المجتمع من الفساد، وتحقيق كل ماهو خير للأمة في حاضرها ومستقبلها بأفضل الوسائل، مما يعبر عنه بالمصلحة العامة فكل عمل أو تصرف من الولاة على خلاف هذه المصلحة، مما يقصد به استئثار أو استبداد أو يؤدي إلى ضرر أو فساد هو غير جائز."
لم يتم إغفال البعد الديني في الفكر السياسي والاقتصادي الإسلامي بل إن حفظ الدين من أولى مهمات الإدارة السياسية فضلاً عن إقامة الحدود، فالعدالة في التوزيع ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب وإدارة جهاز ضرائبي منصف من أساسيات العمل الإداري الحكومي دون التدخل في آليات السوق والعرض والطلب.
هذا العمل الإداري لآليات سوق أشبه ماتكون بالسوق المحكوم بآليات ليبرالية لكن ضمن حدود أخلاقية وأطر دينية غايتها البعيدة العدالة على عكس الآليات الليبرالية التي تسعى إلى تعظيم الثروات وجني الأرباح دون أي محددات أخلاقية وأطر دينية لذا فقد أجمل ابن تيمية (661-728ه) توصيف وظيفة الدولة في الشؤون الدنيوية: "على ولي الأمر أن يأخذ المال من حله، ويضعه في حقه، ولايمنعه من مستحقه" (محمد مبارك: الدولة ونظام الحسبة عند ابن تيمية 54). 
دور الدولة على درجة عالية من الأهمية لأن الإدارة السياسية معنية بخلق أجواء الاستقرار السياسي،أجواء المناخ الاستثماري الذي يكون في الغالب سبباً لازدهار الاقتصاد الأمر الذي كان حاضراً في فكر أبي الفضل الدمشقي الذي عاش في النصف الثاني من القرن الثاني عشر ميلادي وكتب كتابه "الإشارة إلى محاسن التجارة" (570 هجري) بحيث يجب أن يتنبه التاجر " لأحوال السلطان الذي يعيش في كنفه، وقوة دولته وضعفها، وعدله أو جوره، وفقره وغناه، فإن كان عدلاً ودولته ضعيفة الأعداء، وجباياته دارّة، وأمواله كثيرة، فهذه النعمة الشاملة، وإن كان عدلاً غير أنه ضعيف عن قهر أعدائه، فيتجنب شراء الأثقال، ويعتمد على الخف الذي يمكنه إخفاؤه وستره، أو يطرح الشراء في تلك السنين ويدخر الدينار – ويشتري مايمكنه حمله – إلى الديار التي هي آمن وأصلح...وإن كان السلطان جائراً غير أنه قوي فيكتم بيعه وشراءه، ويتظاهر بالفقر، ومايعلم أنه يصلح له أو يحتاج إليه وإن كان ربحه ظاهراً. وإن جمع الجور والفقر والضعف، فيجب أن يبادر الإنسان بالانتقال عن مملكته، فهو أحمد وأحزم في المبدأ والعاقبة" (الدمشقي 73) هذا التفصيل هو من أدبيات التجار الذي يفصل في أخلاقيات التجار في السوق وممارستهم للعمل التجاري. 
إن الأبعاد الاقتصادية في الدولة الإسلامية والتي تبدو أنها تحكمها آليات حرية السوق أو بالمعنى الغربي "ليبرالية" فيما يخص السوق، لاتنفك عن مركزية إدارية فيما يخص إدارة هذا الاقتصاد، وإن استقراء تاريخ الوقائع الاقتصادية في أيام الخلافات الإسلامية المتعاقبة يجد أن الدولة تؤكد على تحصيل إيرادات الدول من كل أصقاع الأمة وترسل إلى مركز الخلافة (راجع تاريخ ابن كثير الجزء 6-7) وهو بيّن في البيان السياسي للخليفة الثاني عمر بين الخطاب رضي الله عنه (الخراج 127)، حيث أوضح خمس مهام له بوصفه خليفة يقوم بدوره الأمني والسياسي والاقتصادي:
1- لكم علي ألا أجتبي شيئاً من خراجكم، ولامما أفاء الله عليكم، إلا من وجهه.
2- لكم علي إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حق.
3- لكم علي أن أزيد أعطياتكم وأرزقكم إن شاء الله.
4- ولكم علي أن أسد ثغوركم.
5- ولكم علي أن لاألقيكم في المهالك ولاأحجركم في ثغوركم (بمعنى حجز الجنود المرابطين على الثغور مدة طويلة عن أهلهم).
هذا التصور عن مفهوم الدولة فيه نضج مقارنةً بالطرح الذي ساد في الغرب حتى عام 1776 يوم طرح آدم سميث مدرّس الأخلاق في أسكوتلاندا وصاحب كتاب "ثروة الأمم" الذي دعا فيه إلى تقليص الدور الاقتصادي للدولة التي عاشت في ظل المدرسة التجارية (المركانتلية) مابين القرنين السادس عشر والثامن عشر في ظل سياسات حمائية تجارية تقصر ثروة الأمة على الذهب والفضة.
إن القيام بإلباس الفكر الاقتصادي الإسلامي أثواب بقية المدارس الفكرية فيه شيء من التبسيط على طريقة السباعي في "اشتراكية الإسلام" أو مكسيم رودنسون في كتابه "الإسلام والرأسمالية" لأن النسق المعرفي الذي يستمد منه الفكر الاقتصادي من وجهة نظر الفكر الإسلامي لايغفل البعد الغيبي المتمثل في استحضار الثواب والعقاب في كل حركات وسكنات النشاط الاقتصادي، وتربطه كله مع فكرة "العدالة في الأرض" بين "الناس" وليس فقط "المسلمين" أو "المؤمنين" حسب الخطاب القرآني:
"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" النساء 58، و كذلك "إن الله يأمر بالعدل والإحسان"النحل 90، لقد وردت كلمة "عدل " في القرآن الكريم 38 مرة، و"القسط" 22 مرة في القرآن الكريم، فالعدالة التي ينشدها صاحب القرار الاقتصادي في دولة تُحكم بالإسلام ذات بعدين سماوي "شاقولي"، وأرضي "أفقي" ولايستقيم أمر البعد "الأفقي الأرضي" مهما تقاطع مع المدارس الفكرية الأرضية (الرأسمالية أو الاشتراكية أو غيرها) ما لم يستلهم "تضاريسه الفكرية" من الوحي الإلهي الذي يرسم "إطاره المعرفي" الأساسي، وأما مساحة الاجتهادات الإجرائية والتفصيلية الأرضية فهي متروكة لصانع القرارالاقتصادي الفاهم لفقه واقعه وأدواته العصرية، وتغيرات الزمان والمكان وهي دائماً محل للاجتهاد وإعمال العقل.

 

 

12-03-2008 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=546