""إن بذرة الحياة ليست سوى مجرد رمز في اللحظة التي تضعها "العناية" في رحم أمّ من الأمهات، ما هو وزنها؟ لا شيء أو كاللاشيء، ومع ذلك فإن مثل هذه البذور قد أنتجـت الأنبياء والعبقريات الكبيرة التي وجهت الحياة على صعيد هذه الأرض؛ وإذا ما اجتمع بعض الأفراد في خمس لجان أو ست، لدراسة فكرة كمنويلث إسلامي فإن اجتماعهم يمكن أن يبدو وكأنه لا معنى له!.. ومع ذلك فإن عالما كاملا يمكن أن ينشأ عن هذا الالتقاء" الصفحة 48، بهذه العبارات الشعرية يفضل بن نبي أن يختم بها تصوره لمشروع الوحدة الإسلامية ومدخلا قبليا للبحث في قيمة "الفكرة" أو الرهان الرئيس في تحقيقها في المجتمع الإسلامي. أولا، الخطوط العامة: لقد أصبح الإنسان المسلم يشعر في منتصف القرن العشرين بعدم جدواه أمام أمر جديد صار يتسم به العالم نهاية الخمسينيات هو تركز القوى بفعل العامل الفني في وحدات جغرافيا أصبحت على وشك التركيز هي: 1- المنطقة الأطلنطية، 2- المنطقة السوفياتية، 3- منطقة الصين الشعبية، 4- منطقة الوحدة الهندية، بينما بقيت المنطقة الإسلامية خارج تصنيف القوى السابقة فصارت أحداث التاريخ تسجل في معزل عن الفرد المسلم، إذ هو في منطقة غير مخططة ومن ثم أصبح يفكر بمقتضى تلك العزلة. الأمر الذي لا يترك له خيارا إلا القيام بإحدى ثورتين: الأولى: ثورة تتم طبقا لتطورات يتم تخطيطها بمراعاة العوامل النفسية-الاجتماعية؛ والثانية: ثورة تأتيه من خارج لا يستطيع التحكم فيها تبعا لعدم وجود قيادة حكيمة، والعامل الوحيد المحصّن من حدوث الخيار الثاني هو تكتل العالم الإسلامي كعملية تمليها الضرورة للشعوب المسلمة. ومنه فإن ما سبق يؤكد ضرورة توحيد العالم الإسلامي، لكن العائق هي "ذهنية الإسلامستان" المتعذرة عن التحقق بذاتها أصلا، لكونها غير ممكنة التنفيذ إلا في صورة كمنويلثية. ثانيا، رسم الدراسة: يشكل العالم الإسلامي وحدة روحية هي عامل جامع يمكن من خلاله توحيده توحيدا يناسب "تجانس المشروع" سيكولوجيا وفنيا، وما يعطل إمكانية استغلال العامل الجامع هو انقسام العالم الإسلامي إلى أقسام تشي به وكأنه على غير وحدة روحية كما يلي: 1- العالم الزنجي الافريقي، 2- العالم العربي، 3- العالم الإيراني (المكون من الفرس و الأفغان، باكستان)، 4- الملايو (أندونيسيا وماليزيا)، 5- وعالم الجنس الأصفر؛ ومن ثم فإن التناقض بين المعطيين الروحي والسياسي يفرض علينا لو تعرضنا لمشكلة الخلافة تحديدا قانونيا جديدا لمعنى الإمامة في الإسلام. وأما ما هو متحقق اليوم على سبيل إنجاز مشروع الكمنويلث هو توفر "الجهاز الفدرالي" المتمثل في منظمة المؤتمر الإسلامي، على أن الدستور يجب أن يقوم على "دراسة جديدة" للإمامة والخلافة، ومن ثم يصبح استخدام الروابط الموجودة مسبقا من أجل تأسيس وحدة اقتصادية كمثل الرابطة القومية في البلاد العربية وبه سيمكننا تحديد مهمة الكمنويلث الإسلامي في العالم. هكذا إذن يأتي الكتاب بين أيدينا محاولة في توجيه الثورة المتحققة شروطها سلفا إلى الضرب الأول منها وتحييده عن نظيره الثاني أي ذلك الذي يفرض من خارج المجال الحضاري المسلم، وأما القراءة بين أيدينا له جاءت لعلتين أولاهما هي أن الكثير من نبوءاته قد تحققت في عالمنا اليوم والثانية شعورها براهنية أفكار الكتاب وبالتالي يمكنها أن تكون موجها مباشرا للفعل السياسي والاجتماعي. ثالثا، المدخل: يعترف بن نبي بأن موضوع الكتاب هو من المسائل التي لم يفكر فيها بعد لذلك فهو يأتي كمجرد محاولة في بحث أسباب الثغرة الحاصلة (المتمثلة في غياب الفكرة نفسها عن الأذهان)، والموضوع يستدعي عملا دقيقا وتحقيقا معمقا على مجال القضية تقوم به هيئة مشتركة من الأخصائيين تحت إشراف مركز بحوث لمّا يتوفر بعد في العالم الإسلامي الذي مازال في مرحلة الطفولة إزاء التكيف مع عالم راضخ للتصميم والمنهج التايلوري الذي يعتمد على تنظيم العمل بشكل منمّ لمحصوله، فالعالم الإسلامي اليوم يتخذ إزاء المادة موقفا غريبا؛ إذ ومن رغم موقفه الحذر من النزعتين المتصاعدتين الرأسمالية البورجوازية والاشتراكية البروليتارية فإنه ودون أن يشعر يتخندق ووفقا لسيكولوجيا صبيانية مع المذهب الأول بفعل انجذابه إلى عالم الأشياء مقابل عالم الأفكار ـ فالطفل إذا خير بين كومتي حلوى وجواهر فإنه يرى أن الأولى أثمن بكثير! ـ، وقد واكب هذا النمط الشيئي ظاهرة استمراء السهولة في جلب نتائج الحضارة المادية دون السعي إلى تحقيق شروطها (مثال استيراد سيارة الكاديلاك). والخلاصة من كل ذلك هو تخلف تطور العالم الإسلامي بالنسبة إلى التطور العام وهذه الملاحظة هي جوهر مشكلة الكتاب لارتباطه بالعوامل النفسية-الزمنية المبررة لفكرة الكمنويلث. رابعا، مشروع دراسة شاملة: ينطلق بن نبي في "تأريخ الفكرة" من مثال اليوم الذي يلخص التاريخ الاجتماعي للحاج (القادم من المغرب) ـ الإنسان المسلم ـ الذي تضعه الحافلة في إحدى محطاتها في القاهرة بحي الأزهر بالمدينة القديمة والذي تقتاده الصدفة أيضا إلى ميدان التحرير بالمدينة الحديثة حيث اختلاف الانطباعات لاشعوريا بين ارتسام الروابط اللامرئية المنسجمة مع تكوين الحاج النفسي فلا يقاس الزمن إلا بمواقيت الصلوات الخمس أو بمواعيد الوجبات الغذائية الثلاث وبين الزخرف الجديد الذي يحس فيه بطريقة غامضة بتخلفه إزاء هذا العالم. والنكتة في كل ذلك أن نظر الحاج يتجه في المدينة الحديثة إلى صغر ارتفاع المسجد أمام العمارة!، أي تصبح العمارة هي المقياس في نظره وتبعا لتكوينه النفسي "إذ أن الحاج قد ولد في عالم تقاس فيه الأطوال... و هذا الانقلاب، يمثل عرضا من أعراض تطور العالم الإسلامي" الصفحة 24. أمام هذا الوضع لم يعد الإنسان المسلم يعي عالم الضرورات الذي يبلغ حدا من التعقيد لا نستطيع إزاءه تكوين مصفاة تبين لنا الضرورات الحقيقية من المزيفة، وهي الحقيقة التي تسببت في غزو الحياة الإسلامية بأشياء غير ضرورية مطلقا إذ صار الفرد يثقل ميزانيته بأمور تحركها فيه التقاليد والرغائب. والمصفاة ـ يشير بن نبي ـ إلى أنها وجب أن تكون "اجتماعية" لا "أسرية" وهي إشارة منهجية هامة توضح السياق الذي يأتي فيه الكتاب، على أن المصفاة الاجتماعية هنا تأتي بمعناها الأنتروبولوجي العملي ؛ فتم أن تمزق الوعي المسلم بين حقيقة التخلف السياسي وبين الرغبة في إنقاذ تراث أخلاقي يعرف مدى قيمته، وقد ولّد هذا التمزق وعيا طفوليا جعله يمد يده إلى القمر جادا في طلبه! بعد ذلك يقدم لنا بن نبي بسطة في توضيح المسألة بالمثال الطفولي لتجلية مدى تطور المجتمع الإسلامي مقارنة بنظيره الياباني مبرزا كيف تعلم "الطفل الياباني" لغة الكبار بسرعة عجيبة بينما راوح "الطفل الإسلامي" حاله دون تقدم يذكر، فلا يكون أمام أهل الطفل إذن إزاء عدم تحقيقه التقدم (وفقا للنمو الطبيعي) إلا أن يتحيروا ويلجئوا لاستشارة الأخصائيين، كما أن أهل الطفل من جهة أخرى يحرصون على مسألة القدوة وخطر المثال السيئ الذي يمكن أن يعطل لديه كل تقدم أخلاقي وعقلي، وهو الأمر الذي يحصل بالفعل مع المجتمع الإسلامي الذي يقوم بتجربة مؤلمة منذ عصر النهضة مع الأفغاني وعبده 1858. لذلك فلو تأمل موجّهو العالم الإسلامي حسب بن نبي التخطيط الثلاثي لنمو الطفل المتمثل في: الطور الأمومي (بعدم وعي عالم الأشياء)، الطور قبل الاجتماعي (الدخول إلى عالم الأشياء)، الطور الاجتماعي (محاولة تكوين الصلة بين عالم الأشياء وعالم الأفكار) لأمكنهم فهم الآلية النفسية المهيمنة على الجيل الإسلامي الراهن ـ حسب بن نبي ـ. فما الذي يدل عليه أن نجد الشرطي السعودي يضرب السيارات أثناء موسم الحج حيث انحباس حركة المرور ـ ومنها العربة التي كان يستقلها مؤلف الكتاب ـ تماما كما تضرب العير حتى تسير وفق رغبة الشرطي لتنتهي الزحمة! فـ"حقا إن التقليد ليذهب مذاهب بعيدة المدى، وهو لا يعضد في هذا المدى غير فوضى من الأشياء والأفكار كعالمين منفصلين لا مجال داخلهما لأي تنظيم، أو كسديمين ليس بينهما أية صلة جدلية!.. " الصفحة 31، بهذه العبارة يلخص بن نبي استقراءه لحال الفوضى بين المجالين المذكورين عند مجتمع إسلامي يشكل جزءا من مجتمع عالمي فائق التصنيع فارضا عليه مقاييسه من خلال إمداده بالأشياء ومن ثم يرغمه كذلك على تمثل معاييره من خلال زخم الأفكار التي ينقلها إليه، فكيف كان تفاعل المجتمع المسلم مع هذه الحقيقة؟ إنه صار يتعامل مع "ثقل إلزام" الأشياء وثقل "ما فوق إلزام" الأفكار من خلال ردود أفعال جانبية لا تباشر جواهر القضايا، ففي الحالة الفكرية تختلق في المجتمع المسلم مشكلة "الشوال" واستفتاء الشيوخ فيها كلما قذف أحد مصممي الأزياء بباريس موجة جديدة من الموضة!، وأما شيئيا فمالك يرى ـ في نفس رحلته إلى الحج كما يبدو ـ شابا (يطوف) في شوارع المدينة المزدحمة على دراجة مزخرفة كما لو أعدّت ليوم مهرجان، إذ لا شك أن هذا الشاب مدفوع بشعور الغيرة على ملاّك الكاديلاك!؛ وخلاصة القول أن ثقل الإلزام قد أدى بنا في نهاية المطاف إلى استهلاك أشياء وأفكار قد تم تجاوزها من قبل العلم والعالَم. إن فوضى الأشياء والأفكار أنتج في واقع المجتمع المسلم انعداما للأمن أفرز بدوره اضطرابا أخلاقيا ومن ثم يؤدي في الحالات القصوى إلى انسحاب تام من مجابهة حقيقة الفوضى الاجتماعية بما يمثله جواب الشاب الموريتاني للاستعماري اللامع إرنست بسيكاري أحسن تمثيل حينما وضعه أمام حقيقة وضعه والوضع الغربي المتقدّم فقال "أنتم لكم الأرض ونحن لنا السماء"! بما هو إعلان عفوي ومن دون تفكير عن الاستقلال من مجابهة الحقائق الأرضية، كما أنه ومع مرور الزمن وترسخ التخلف يزداد الاضطراب احتداما بما يفشي وعيا جمعيا بالتخلف ينتهي إلى اختلافات قاعدية داخل المجتمع الواحد كمثل ردود الفعل المتباينة عند مشاهدة فيلم أمريكي في قاعة سينما تتراوح بين الضحك والبكاء! إذ لا فارق جوهري بين المثال المتقدم ومن ينادي بفوات أوان الإسلام واستبداله بالعلوم الاجتماعية رفقة ذلك الذي يرى فيه سبيل النجاة الأوحد، إذ لا يهتم بن نبي بمناقشة الموقفين بقدر ما يسترعيه ترجمة تلك الظاهرة الاجتماعية بكليتها في الواعية الإسلامية. فالاضطراب الأخلاقي يترجم في مختلف مستويات السلّم الاجتماعي حينا بوهنٍ في الرأي وحينا بالسخط وآخر بالتطرف في وجهات النظر تصل إلى حد الارتداد عن الإسلام، وأما السخط فيضرب لنا منه بن نبي أربعة أمثلة من شقين: الأول عن جزائريَين أحدهما زاره إلى منزله لتقديره له لجهده الفكري البارز مما أوجد بينهما تجاوبا سريعا أدى بالمفكر لأن يصرح لمالك قائلا "إنني أعمل واليأس يملأ قلبي"، والآخر طبيب استدعاه صاحب الكتاب لعلاج مرض ألم به في الساق لكنه سرعان ما أدرك أن حالة الطبيب الذهنية أكثر استعجالا من علاج جسده وذلك عندما أنبأه بأنه لا يجد لدى المسلمين أي شيء مما يجب أن يكون عليه الأمر؛ وأما الشق الثاني فهو عن صينيَين الأول هو صديقه الذي اجتمعت لديه ـ قبل الثورة في الصين ـ نزعة وطنية جامحة ضد السعي الياباني النازع للتملك الاستعماري مع التشاؤم ويأس ظاهرين في اصطحابه بن نبي كل مرة إلى مقبرة العظماء "البينيثيون" في باريس المعزولة خوفا من الرقابة، وأما الثاني وهو الأصغر فقد التقى به بعد عشرين عاما من تاريخ لقائه للأول فكان عكسه ذا ثقافة قليلة وحماسة أدنى ـ بعد الثورة ـ لكنه كان يتفرس بن نبي ويتفحصه عن كثب ذلك وكما يفسر لنا الكاتب بفضل تغلبه على الصعوبات الداخلية، على أن الثورة لم تحدث تغييرا حقيقيا في الواقع الخارجي إلا أنها أحدثت رؤية تفاؤلية حررت جيلا كاملا. والخلاصة هي أن موقفي الجزائريين لم ينتجا عن طبيعة مشاكل المجتمع الإسلامي بقدر ما نتجا عن غياب الإرادة الجماعية المؤمنة مثل تلك التي أحدثت الثورة في الصين.
خامسا، مشروع دراسة مكتملة: إن ما تقدم من تشخيص لأزمة الإنسان المسلم المتمثلة في شعوره بعدم جدواه أمام عالم آخذ في التطور دون هوادة ضمن حركية تقوم بمضاعفة تخلف المجتمع الإسلامي يعود ـ وكما تقدم ـ ليس إلى طبيعة المشاكل التي يعاني منها بل إلى موقف إنسانه منها أساسا، لذلك يتعين اعتبار "المساحة الجغرافية" التي يراد دراستها على أساس غير متحيز ضمن قطر بحد ذاته أو قومية بعينها فذلك موكول إلى أهله بقدر ما يجب الإنكباب على دراسة المشاكل التي تشترك فيها المساحة الممتدة من طنجة إلى جاكرتا. وهذه الاعتبارات قد توطدت بفعل الاتجاه العام للتاريخ المعاصر، إذ وإضافة إلى العامل الفني (=التخطيط) الذي ركز القوة على محور واشنطن- موسكو برزت إلى حيز الوجود ظاهرة الاقتصاد المنغلق ذي الغايات الإستراتيجية التي تعبر عن "مساحات مخططة" تتحكم في مشاكلها المتصاعدة المستوى بفعل التخطيط عن طريق الهيمنة عليها بواسطة قانون الأعداد، وهي الحقيقة التي تفرض هيمنة آلية من قبل القوى المتمركزة المذكورة سلفا على المساحات التي منها منطقة العالم الإسلامي غير المخططة ذاتيا. وأمام تطور الكتلة المخططة وطابع حركتها المعجَّلة يقف الإنسان المسلم عند استبطانه لتلك المعطيات في لحظة استرجاع ـ وكما تقدم ـ أمام إحدى مع ثورتين أولاهما تنجز حسب اضطراده الداخلي المنسق وفقا لـ "مشروع معدّ" يضع في حسبانه العناصر النفسية والعوامل الاجتماعية، والأخرى تتم حسب مشروع معد خارجيا يحاول تكييفه مع التطور العالمي؛ وهذا وضع يمثل مأزقا حقيقيا يثبت ضرورة وضع تخطيط للعالم الإسلامي وأساسا في المجال الأخلاقي بما هو سعي لتخفيف المأزق عن الواعية الإسلامية المعبرة عنها الأمثلة المتقدمة (الشاب الموريتاني والمثقفَين الجزائريَين). الآن نجدنا أمام المساحة الممأزقة المتمثلة بيانيا في خطّي الطول (الجزائر-دار السلام) والعرض (طنجة-جاكرتا) إزاء عوالم إسلامية عديدة ـ قد جئنا على ذكرها ـ الأمر الذي يدعونا إلى اعتبار العامل الفني المؤلف للعملية التخطيطية بين "تحديد" المبدأ المُكامِل (كما يطهره التمثيل البياني بين خطي الطول والعرض) وعملية التبويب (كما يظهر في تعدد العوالم الإسلامية) الأكثر تعقيدا وعلى كل حال تبقى المكاملة عملية مواءمة إنشائية للإرادة الإسلامية الجماعية تتحدد أساسا في مراجعة مفهوم الخلافة على ضوء المعطيات المعاصرة، ويحيل بن نبي الأمر إلى "فقهاء القانون" لكي يحددوا لنا (الإمامة) تحديدا جديدا ومنسقا مع كلمة (الأمة) ذلك من رغم تقلص المفهوم في الواعية المسلمة، فمن الناحية العملية نشهد عملية عرقلة الهجرة إلى المدينة ـ معقل الخلافة الأول ـ من قبل السلطات السعودية مراعاة لمصالح مشروعة لبعض سكانها. إن ما تم تقديمه في الفقرات الأربع السابقة من هذا الفصل لا يمكن إنجازه عمليا إلا بعمل يتم السعي إلى تحقيقه داخل العوالم الخمس المذكورة ـ وإن كان يجب أن يضاف إليها عنصر سادس حسب بن نبي هو العالم الإسلامي الأوروبي ـ وعلى محيطها أيضا "من طرف هيئة من العاملين الممتازين" تتناول انطلاقا من الداخل إلى المحيط، وليس العكس، العناصر العضوية الخاصة (الهوية) والعناصر النفسية والقرابات التي يمكن أن يضمها العالم الإسلامي وفقا للمبدأ المكامل نفسه، مع التأكيد على أن العمل يجب أن يصل إلى "نقطة التقاء" لا أن ينطلق من نقطة إشعاع لا يمكن فرضها من الخارج، ذلك من رغم أن إشعاع الفكرة الإسلامية كان من نقطة مركزية هي ـ مكة ـ وهو الأمر الذي يتعذر اليوم نظرا لما يمكن أن تؤوّل به أية نقطة مركزية إضافة إلى كونها ستكون عرضة إلى مالا يمكن أن يستهان به من المصالح الغريبة عن العالم الإسلامي، فالتخطيط المناسب هو ذلك الذي يمثل نقطة التقاء خمس أو ست بوادر تكون توزيعا للعمل على لجان محلية بما يكون التعبير الأكثر حقيقية عن الإرادة الجماعية الإسلامية فيكون بمثابة شرط مسبق كافي لفعالية مبدأ المكاملة نفسه، وبذلك يدخل عمل تلك اللجان الفكري إلى مجال الوقائع التاريخية كون طبيعة العمل نفسه تفرض مبادلات تنتهي إلى بروز (قاعدة مجمَّعة) أو (جهاز مركزي) يتكون إثره تيار التفكير الإسلامي الذي يبلغ ومنذ البداية هدفه الرئيس الذي من أجله قامت تلك اللجان، هكذا "نكون قد كونا بهذا التوزيع وبطريقة مباشرة التدشين الرمزي للكمنويلث الإسلامي، وكأننا قمنا بما يشبه وضع الحجر الأساسي للبناية... لأن هذا العمل نفسه هو في الوقت ذاته ذو صبغة فنية وأخرى (رمزية)، والرمز في حد ذاته، ليس إلا عملية خلق، لأنه (يقاطب) بين الطاقات البشرية ويرغمها على الالتقاء في نقطة معينة وإن عملية لتتم أحيانا قبل دخولها في المجال الفني، أعني قبل أن تترجم في أرقام ووقائع" الصفحة 47. سادسا، الفكرة في المجتمع الإسلامي: إذا تم وأن حاول أي إنسان توجيه مناقشة ما بطريقة منهجية إلى "الأفكار" مثل المذاهب الاقتصادية أو إلى موضوع نفساني فإن المحيطين به سينقسمون إلى ثلاث أصناف حتما: أولا الذين يلتزمون الصمت تأدبا، ثانيا الذين يتهكمون ملقين فيما بينهم بنظرات ذكية توحي بعبارة يا للمخرّف! وثالثا الذين يتثاءبون من السآمة وهم أكثر القوم من "الخلوص النية" منصرفين إلى مشاكل أكثر جدية مثل مشكلة "الشوال"!؛ هكذا فعدم الالتقاء بين عالمي الأفكار والأشياء في عالمنا الإسلامي وعند مجال التطور الاقتصادي مثلا أدى إلى الاقتصار على زيادة الحاجات من غير زيادة في وسائله إذ الأمر يظل على حاله مادام الأساس المفاهيمي ضعيفا في مجتمع يعزل الفكرة عن سلاحها المتمثل في الفعالية (= الإرادة الإنسانية)؛ كما يجعل ذات المجتمع مفتقدا شروط تسوية أية نزاعات نظرا لأن ذلك يتم اليوم بالأفكار لا بالأسلحة. وأما الأمثولة الألمانية في قيامها السريع بعد تدميرها في الحرب العالمية الثانية فهي أفضل تزكية علمية لهذا الرأي، فالإنسان في النهاية هو الذي يحدد في النهاية قيمة المعادلة الاجتماعية (إنسان+ تراب + وقت = حضارة) "فالمؤكد أن عصرنا، من جراء العامل الفني الذي يعجّل من خطو كل الاطرادات، هو العصر الأخصب بالتجارب الاجتماعية البناءة" الصفحة 52. كما ونتج عن ضعف أساسنا المفاهيمي في عالمنا الإسلامي جهلنا بالقيمة الاجتماعية للأفكار التي يقوم الاستعمار بإقامة مراصد تتبع حركتها بدقة متناهية نظرا لإدراكه أهميتها في صناعة وعي يهدده، على انه لا يفعل ذلك لمصلحة فكرية محضة فهو يملك من الأفكار ما يحتفظ بها لنفسه بغيرة ـ في الحين الذي يسوق إلينا مصنوعاته ـ بل ليقوم بتوجيهها واستعمالها كما يشاء، فإذن هدفه ليس مجرد الاستعلام عن الحركة الفكرية بل تحديدا من أجل الانحراف بها عن مراميها بتوجيهها خارج المدار الذي سعى أصحابها أن تدور في فلكه؛ الأمر الذي يشترط عليهم وسائل وخبرة تنتج من داخل المخابر النفسية التي تجعله ملما بكل ثغراتنا النفسية ومدركا كذلك تمام الإدراك للأرضية التي تقوم فيها بالمعارك المفاهيمية (= عملية تشويش لفكرة ما)، مرتكزا في ذلك على القيمة الصلبية للفكرة وقواعد علم النفس البافلوفي، فإذا كانت القيمة العددية في الرياضيات يمكن أن تزداد بإضافة قيمة أخرى لها فإن القيمة المفاهيمية تنقص بمجرد أن نضيف لها أية قيمة أخرى، وللتوضيح يقدم بن نبي مثالا نتصرف فيه سعيا للتوضيح فالمعادلة التالية: {القيمة المطلقة لفكرة ما = القيمة المطلقة للماء} يكون فيها التعبير الرياضي أكثر عمومية، لكن إذا أضفنا التقييد للحدين فنجعل المعادلة: {فكرة معينة = ماء عذب} نكون قد أنقصنا من قيمة المعادلة الرياضية حتى وإن كان الحد المضاف إيجابيا وهو هنا "العذوبة"؛ وذلك ما يمكن أن يسمى وفقا لمنهج رد الفعل البافلوفي "المرآة العاكسة" وذلك بإسقاط حد يتم اختياره حتى يحدث ربط تلقائي بالحد المضاف إليه، تماما مثلما أصدرت صحيفة قاهرية بتاريخ 05/10/1958 خبرا يفيد بأن السياسي العراقي فاضل الجمالي كان يقوم بإثارة النزعة الطائفية في أعضاء حزب الكتائب بلبنان ومن ثم يخرج داعيا في مؤتمر صحفي إلى تكوين كمنويلث إسلامي! إضافة إلى كونه وقف أمام عدالة بلاده متهما بالخيانة العظمى، كما وقد ترافق نشر الخبر مع الوقت الذي أذيع فيه نشر فكرة الكمنويلث في سلسلة الثقافة الإسلامية وكانت ذات الفكرة ـ فكرة الكمنويلث ـ قد طرحت من قبل وزارة الخارجية البريطانية في طهران قصد تكوين حلف بغداد مستقبلا!؛ هكذا يمكن لنا تصور مدى تأثير الحد السلبي الذي أضيف لفكرة الكمنويلث الإسلامي موضوع الكتاب بين أيدينا والطريقة التي تتم بها معاكسة الأفكار بما يجعل من حياة الأفكار في العالم الإسلامي ـ فضلا عن ضعف أساسنا المفاهيمي ـ صعبة جدا. إن ما ينتج عن القصور المفاهيمي بما هو عجز في الأفكار الافتقار إلى (المنطق العملي) الذي وعند انحلاله إلى عناصره الأولية يكشف لنا انعدام (المراقبة الذاتية) في المجتمع المسلم نظرا لافتقاره في تربيته الأولى وعي (المحصول) الناتج عن الجهد ما أدى به إلى عدم إدراك العلاقات بين الجهد والوسائل فهو لا يدرس النتائج التي يحصل عليها في سبيل تطوير الأداء وتحسين المردود؛ فالمجتمع في النهاية جهاز تحويل الطاقات الاجتماعية إلى نتائج مختلفة، والحساب الميكانيكي هاد إلى بيان المسألة وحلها كذلك، فإذا كانت قيمة برهان الديناميكا الحرارية تنتج عن حاصل قسمة (الطاقة المستهلكة) على (العمل الحاصل) إذ منها نتعرف إلى ما تبدّد من الطاقة المستهلكة بالفرق بين المحصول الكامل ـ وهو الواحد الذي يستحيل تحققه في قوانين الميكانيكا ـ، وهذا ما ينطبق على المجتمع البشري إلا أنه يتعين علينا اعتبار الطبيعة البشرية المفارقة للميكانيكا البسيطة إذ الفرق بينهما أن المحصول الإنساني يكون أكبر من الواحد وفقا للعبارة الاقتصادية القائلة بأن الإنتاج يجب أن يكون أكبر من الاستهلاك أو بالصيغة الجبرية الواجب (أكبر من) الحق . فالواقع أن تحليل النشاطات النموذجية في المجتمع الإسلامي يكشف أن التبذير يفوق في معظم الأحيان الحاصل ـ فهو أسوأ من محرك رديء حسب المثال المقدم والذي عرض ميزانية رابطة طلابية قاهرية ـ، فالأرقام تفيد بوجود تبديد مفرط وتبذير مسرف غير محسوس في الوسائل ثم نجد أن تفسير محدودية النتائج تؤوّل عند "الأشخاص" بالفقر! في الحين الذي لا تعبر فيه حقيقة الأمر إلا عن عجز مفرط في الأفكار، هكذا فالمعضلة الجوهرية لا تكمن إلا في اخترع "الترّهات" المفيدة في تكريس الحال التي نحن عليها من عجز. كذلك ومن بين الترهات التي تعيق تحقيق الفعالية في صناعة كمنويلث إسلامي ما نتج من حوارية بين بن نبي وطالبين أندونيسيين يدرسان في القاهرة تصورا أن المسافة الفاصلة بين أجزاء العالم الإسلامي هي التي تعيق تيار فكري نوعي من الظهور مما حدا بالمؤلف إلى سؤالهما عن مدى تغير الأمور في حال انعدام المسافة؟ فأجابا: نعم وبالتأكيد! فلم يكن أمامه إلا أن يسألهما عن حقيقة وجود التيار المزعوم بعد أن تخلصا منها بوجودهما في القاهرة؟! ومعلقا بسخرية على تصرفهما حيال الإفحام قائلا: "ولقد بدد سؤالي هذا ولا ريب في ذهنيهما (ترهة المسافة) لأنني رأيتهما يبتسمان كما يبتسم الطيبون من أولي العقيدة عندما يكتشفون غلطتهم بأنفسهم!.." الصفحة 63، أو كمثل الواعظ الذي يتخلى عن جوهر مهمته الإصلاحية عندما يقصر عمله على طبقة الموسرين الذين يكفلون له العودة إلى منزله على متن سيارة فخمة وذلك بدلا من أن يحمل الواعظ كلماته إلى أسفل وأوسع قطاع ممكن من الطبقات الدنيا، وهذه الحقيقة المنتشرة بين الوعاظ تحول عملهم الإصلاحي إلى ضرب من الواقعات اللفظية التي لا طائل من ورائها لافتقادها القوة الشارطة للروح في لحظات توترها الخلاق، وأما تفسير ذلك فليس إلا بانعدام النزعة الغيبية الحقيقية.
سابعا، ما وظيفة الوحدة الإسلامية المتصورة؟ إنه بالقدر الذي يتجه فيه الفرد المسلم نحو الدوائر الكبرى المحيطة به يكون القدر الذي يتم اكتماله الطبيعي وذلك في عصر المساحات الكبرى المخططة، فالدوائر المحيطة بالإنسان تتدرج من محيطه الأسري فالاجتماعي فالوطني فالعربي فالإسلامي ووصولا إلى الدائرة العالمية المبلغ الأقصى الذي يصير عنده الفرد منبثّ الحضور في سائر أجزاء المعمور حسب المخطط الذي تمثله فكرة الكمنويلث الإسلامي أحسن تمثيل، فخصائص العصر جعلت مدى انبثاث الفرد في أوسع الدوائر مقياسا لمدى تحضره وهي الخصائص نفسها التي سرعت تطور الكتل البشرية من خلال وسائل الاتصال من مذياع، تلفزيون، سينما، الجرائد وغيرها . إن "الحبكة التاريخية" للإنسان المسلم قد فصلت نموذجا اجتماعيا يتصرف بحسب كيفية واحدة من طنجة إلى جاكرتا الأمر الذي يجعل من هذا (الإنسان العقيدي) مواطنا عند خروجه إلى الدوائر الأوسع من العالم الإسلامي، لذلك كانت سبيل السير نحو الاكتمال في اتجاه العالمية تمظهرا للعقيدي الحق في ثوب مواطن حقيقي يتعامل بسماحة حتى مع من خالفه في الدين والمذهب من مساكنيه، فإحدى مزايا فكرة الكتاب إفهام الإنسان المسلم كيفية استعمال عقيدته باعتبارها أداة اجتماعية في تحقيق المواطنة التي هي في نهاية الأمر إعادة له إلى مضمون الإسلام بما هو فعالية اجتماعية تشع على العالم؛ العالم الذي تبدو مشاكله في القرن العشرين أميل إلى عناق معطيات المكان ـ بعد أن كان الأمر في القرن سابقِه أميل إلى التاريخ كون مشاكله توضع في الزمان ـ وذلك وفقا لظهور المساحات المخططة الكبرى الذي أدى إلى محاولات أولية لفتح ما بين الكوكب من مجال الدوائر التي هي تخطيط رامز لهذا المفهوم، إذ تتعدد صفات هذا الإنسان المسلم بانتقاله من مجال إلى آخر بما يجعل منه في التحليل الأخير "مواطنا عالميا" حسب الاصطلاح الذي نحته (جاري ديويز) بأصالة. وإضافة إلى واجب الحضور المفروض على المسلم حتى يوسع انبثاثه على أفسح الدوائر في السعي لتحقيق الكمنويلث الإسلامي يأتي القرآن ليوجب عليه دورا آخر هو الشهادة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} البقرة 143، وواقع الأمر أن "الشهادة" إنما وأساسا هي الحضور في عالم الآخرين وهو ما يجبر الفرد المسلم على أن يكون وثيق الصلة بأكبر عدد ممكن من الخليقة ليعانق أقصى حد ممكن يمكّنه من تغيير سير الأحداث ويجنب الوقوع في المحظور بردها إلى اتجاه الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا وفقا للحديث النبوي {من رأى منكم منكرا فليغيره...} المحدّد لدرجات التغيير الثلاث (اليد، اللسان، القلب) ففي كل الأحوال يكون مجرد الحضور أمرا إيجابيا زيادة على كونه امتثالا للتوجيه النبوي، ووجوده ليس بدافع من مصالحه وهمومه الذاتية بصفته عقيديا ومواطنا في عالم الإسلام ولكن يتزيا في الدوائر الأوسع بزي الإنسان. وإثر ذلك، تتحدد رسولية الإنسان المسلم كما وجه النبي الكريم (ص) أمته في حجة الوداع بكلامه المؤثر في الجموع الحاضرة في صمت وخشوع: {ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب} مسجلا بذلك الختم الرمزي للإسلام ومضافا إليه تحديد رسالة أي مسلم حاضر بسفح جبل عرفات في كل زمان بالبلاغ للأجيال التي تليه، فيأخذ البلاغ هنا معناه الأوسع شمولا؛ إلا أن حالة السيدة فاطمة زعيمة الجالية الإسلامية في برلين تمثل تنكب المسلمين عن المهمة التي كلفهم بها نبيهم عندما لم تسمح لها كرامتها كتابة أمور قرأها بن نبي بين سطور شكواها المنشورة بتاريخ 13/09/1958 من افتقارها وسائل الدعوة في المسجد الذي تقيم فيه بعد وفاة زوجها الباكستاني، فاعتبرها متوجهة إلى خمس مائة مليون مسلم في نطاقات الإسلام التقليدية فيختم قائلا لها: "أي أختي فاطمة، لكم تكون شهادتك دامغة، يوم يقوم الحساب ضد كل أوائل الذين [خـ]ـانوا رسالتهم بالنسبة إلى إخوانهم في الإنسانية، الذين كانوا ـ منذ ثلاثة عشر قرنا ـ في عداد (الغائبين) عن عرفات يوم حجة الوداع!" الصفحة 75. الآن كيف يمكن ربط فكرة الكمنويلث بالنموذج الذي استقيت منه الفكرة نفسه ـ وهو الكمنويلث البريطاني ـ؟ فلا شك أن لكل مثال مَواطن شبه بالمشبه به سواء في الشكل أو المضمون فالكمنويلث البريطاني مساحة كبيرة تناظر المساحة التي يشغلها العالم الإسلامي، كما وتمارس الدول الأعضاء سيادتها فيه على كل المجالات، لكن التشابه يتصور بن نبي أنه يقف لدى حد مبكر جدا، فالكمنويلث البريطاني يجسده شخص ملك إنكلترا ويدار سياسيا بلائحة ويستمنستر التي وقع عليها مجلس العموم البريطاني، واقتصاديا اتفاقية أوتاوا المتولدة عن الاتفاقية السياسية، فالرابطة العضوية في الكمنويلث الإسلامي تتشخص في "فكرة" هي الإسلام ممثلة في مجمع دائم يجسم الإرادة الجماعية ويكون مجموعة شعوب وليس مجموعة من الدول المتكتلة على أساس مصالح سياسية كما هو الحال في النموذج المستقاة منه الفكرة، كما أن لها مقر رئيسي . أخيرا، لا يغفل بن نبي التأكيد على أن من وظائف مركز البحوث المفترض إنشاؤه في سبيل الفكرة بحث مسألة ذات طابع مختلف عن الطابع الاجتماعي والأخلاقي كما تقدم على امتداد هذه الدراسة متمثلة في نزعة الترحّل لدى الإنسان المسلم باعتبارها حالة قبل-حضارية، فالإنسان الرحالة يمثل في واقع الأمر قيمة صفرية أو حيادية لافتقاده التصرف فيكون بلا وزن اقتصادي ولا ثقافي كما يكون أدا سهلة في يد الأجنبي في المجال السياسي، لذلك فالترحل سبب يمكن أن تصور له نتائج يؤثر بها على عنصر التراب (=المكان) في المعادلة الحضارية بطريقة نفسية، ولنا كذلك أن نتصور النسب التي تمثلها الصحارى داخل النطاق الإسلامي الذي عليه اتخاذ الحلول والترتيبات في هذا الإطار؛ إلا أن المظهر المزدوج (العلمي والتطبيقي) للمسألة يجب تتبعه من قبل مركز بحوث يكون في مقدوره أن يكون أداة فاعلة لخلق روح الكمنويلث وأداته.
ثامنا، خلاصة الكتاب: هي دراسة جد مجملة قد لا تفي بمحتوى فكرتها ـ حسب صاحبها ـ وإن كان الإطار الشكلي (= سلسة الثقافة الإسلامية) يقتضي أن تكون أقل، الأمر الذي فرض الاختصار وبعض التحوير المنهجي في الأفكار، لكنها جاءت بناء على ما قدمه المؤلف من دراسات سابقة مفترضا أن القارئ على علم مسبق بها فضلا عن تبنيه لمضمونها، من رغم أنه يعتقد أنه أغفل بقصد مسألتان كان يجب أن يبحثهما، الأولى (نوعية الثقافة الإسلامية) التي تحقق إمكان فكرة الكمنويلث، والثانية (مشكلة السلام) التي تؤسس لدور الرسالة الثقافية في إطار المظهر الجغرافي السياسي للعالم في القرن العشرين؛ ومن ثم يعرج ذكر ثلاث نقاط يفضل بن نبي أن يختم بها دراسته: 1- إن تحقيق فكرة الكمنويلث لا يمس أية سلطة قائمة ولا شكل أي حكم في الأقاليم الإسلامية مادام يقوم بالحق والعدل بين المسلمين، إضافة إلى كونه، وهذه الأهم، يتطلب قاعدة شرعية تعبر عن "القانون الإسلامي" في أدق الحدود. 2- بعد أن لاحظ مراقبوا التطورات العالمية أن الحرب العالمية الثانية قد أفرزت تحول قيم الحضارة إلى الشرق ومنها انتقال مركز ثقل التاريخ الإسلامي إلى دول آسيا الإسلامية، إلا أن بن نبي الذي كان يرى الأمر كذلك عدل عن رأيه بعد أن ظهرت أحداث جديدة أرجعت مركز الثقل من جديد إلى معاقله التقليدية في العالم العربي. 3- يصور بن نبي العالم الإسلامي في مجرى تطوره الراهن "إناء مغلقا" تعمل قوى داخلية على تكييفه مع المعطيات العالمية الراهنة ـ وهو أمر يعد من المجهولات التي يرجح المؤلف أنها من معلومات المتتبعين في الغرب ـ في نفس الوقت الذي يعاني على دائرة محيطه مفعول قوى خارجية مريبة، لذلك كان على الموجهين على المستوى الداخلي أن يحاولوا موازنة مفعول القوى الخارجية المتربصة، إذ أن أي سهو منهم قد يؤدي إلى انفجار ـ وفقا لعملية كيميائية ـ لن يكون معه مجديا محاولة ردع أولئك المتربصين على التقاط شظاياه (=استغلال نتائجه)، "ومن ثم فلا ريب في أن الخطر سيظل يتهددنا طوال العشرين سنة القادمة... ولكن (الإسلام) يظل دائما القوة التي لا تقهر" الصفحة الأخيرة، الفقرة الأخيرة. ختاما، إن هذه الملاحظة الأخيرة بينت كيف تمكن مالك بن نبي بحسه التاريخي من أن يطل على مرحلتنا الراهنة ويروي لنا الأمر كأنه يحدث أمام ناظريه! وهي الملاحظة التي كانت الداعي الرئيس لمحاولتي المتواضعة هذه في "إعادة صياغة" الكتاب بين أيدينا من أجل تقديمها وسام اعتراف على شرف النبي الذي تسمى تواضعا إبن نبي!
- مالك بن نبي، فكرة كمنولث إسلامي (مشكلات الحضارة)، نقله من الفرنسية إلى العربية الطيب الشريف، الطبعة "إعادة"، دار الفكر المعاصر بيروت دار الفكر دمشق 2002. - معنى أن العامل الفني يؤدي إلى تركيز القوى هو أن التخطيط الصوري الذي تمليه ثقافة مجتمع امتلك الأسباب النفسية والإجتماعية لإنجاز ذلك بما يمكّن أي مجال سياسي من مراكمة القوة لديه، لكننا نحن المسلمون فنجدنا وحسب بن نبي نفتقد الأساس الذي يمكننا من تحقيق القوة لتعذر إمكانية التخطيط عندنا وهذا هو نفسه السر الذي يحول دون المسلمين وتحقيق الوحدة. 2 - لذلك فهو كلام موجه للباحثين في هذا الميدان لكي لا ينساقوا وراء الجزئيات التي وإن كتب لها الإثمار فإنه سيكون شكليا ومحدودا لا محالة، فأي إصلاح مزعوم لن يمكنه التغيير في البنية الثقافية إذا لم يتم إنجازه عبر الشبكة الاجتماعية-الثقافية المتشكلة أساسا من المفاهيم . 3 - لتوضيح المقصود بـ"ثقل الإلزام" يمكن ببساطة أن نضرب مثالا من الجانب النفساني ونسأل كيف سيكون رد فعل فرد إزاء فرد آخر ينافسه فاقه في قدراته؟ أليس سيقوم (في الحالة غير السوية) برد فعل يحاول به تغطيه قصوره أمام منافسه بفعل تمويهي أو حتى باحتجاج غير منطقي يحاول به تشتيت الأنظار والانتباه عن الفارق الواضح للعيان؟! 4 - نعتبر أن "العامل الفني" هو المفهوم الرئيس في هذه الدراسة، وهو ما يعبر تحديدا عن الفكرة (فكرة الكمنويلث) ومضمون الكتاب يوحي بأن مؤلفه سلك منهجا فريدا من نوعه في طرقه وعلاجه مسألة الوحدة الإسلامية عندما اتجه صوب استقرائها من الواقع متحررا بذلك من السقف الكلامي الذي أذكته طبيعة الثقافة الإسلامية التاريخية ـ وليس الوحي ـ المتركزة على مجرد الخطابة والوعظ التوطيدي وهو الأمر الذي مازلنا لم ندركه إلى غاية يومنا هذا للأسف الشديد. 5 - يرى بن نبي أن العنصر الشيعي يضفي على عملية المكاملة تلك نوعا من التعقيد ـ ربما نظرا للمكون العقيدي قبل أي شيء آخر ـ وهذا ما قد يفسر لنا طبيعة (العلاقة) الشيعية مع باقي المكونات المذهبية للإسلام التي يثيرها المخاض السياسي الراهن في العالم العربي خاصة وما يزيد الأمور تعقيدا هي المكانة الاستراتيجية ذات الوزن الثقيل التي تحتلها إيران الدولة الشيعية الأولى في المنطقة الشرق أوسطية ـ وذلك لكونها ذات قومية غير عربية بالدرجة الأولى ـ. 6 - من نافل القول أن تكوين اللجان لا يكون بأمر سياسي ـ على الأقل بالضرورة ـ بل يقوم على أساس فكري يستوفي أو على الأقل يعي الشروط التي وضعها بن نبي لقيام الكمنويلث وذلك بما يفيد معنى التأهيل والكفاءة النظرية والعملية معا. 7 - يمكن بهذا الصدد الإشارة إلى الآيات القرآنية الواردة بلفظة (الفضل) والتي تفيد الزيادة التي تلحق العمل الإنساني والمتمثلة أساسا في مفهوم البركة الإسلامي. 8 - لم يكتب لمالك بن نبي أن يعايش عصر الأنترنت والتطور المذهل لوسائل الاتصال، لكن لاشك أنها تدفع بفكرته إلى أقصى الحدود من رغم أنها مازالت تفتقد فيما نرى للشروط التي وضعها بن نبي بخصوص الإنسان المسلم ذاته. 9 - يمكن أن نتصوره مثلا "مكة المكرمة" كونها الملتقى الروحي الجامع لكافة المسلمين على وجه الأرض، وليس الأمر شرفا ولامركزية لقطر بعينه أو قومية بذاتها وإنما الأمر في ذاته توجيه إلى تركيز قيمة الإنسان في عقيدته دون أي مظهر آخر وذلك من شروط أونتائج الكمنويلث الإسلامي نفسه!؟
|