/
"في فقه الصحوة" ما بين القراءة والتلاوة
المسلكي محمد
انتهى فكر الصحوة وواقع الصحوة اليوم إلى سؤال البداية ما العمل من اجل استئناف الحضارة العربية الإسلامية لدورها في التاريخ ؟ فذات السؤال الحافز إليه في الماضي وطأة الاستعمار القديم(الإمبريالية)وفي الراهن وطأة الاستعمار الجديد (العولمة) فالمراد بطرح السؤال/الإشكال بهذه الطريقة هو التأكيد على أن جغرافية السؤال الفكرية و السياسية رغم ثبات الاستراتيجية فيها فإن التكتيك تغير, مما غير من أسلوب إدارة القوى الفكرية و السياسية , فمن بيدهم اليوم إدارة الغزو الفكري والغزو السياسي هم من يحتلون الوطن العربي والإسلامي و يتأهبون لاستكمال هذا الاحتلال, فتغيير جنس وطبيعة الاحتلال يغير _ عند من يعلم _ من جنس وطبيعة التصدي للسؤال, وهذا التمييز بين تاريخ سؤال البارحة وتاريخه اليوم ليس مجرد تمييز بين مرحلتين تاريخيتين فحسب بل يحدد طبيعة الاشتغال على "السؤال" المتراوحة بين قاهرية التقليد وحرية التجديد. فقه السؤال أو ما بين القراءة و التلاوة : إن الانقلاب المعرفي الذي تتطلبه نظرية النهضة اليوم هو الانتقال من"فكر الهواة"إلى"فكر المحترفين" ومن "فكر رد الفعل" إلى"فكر الفعل" العملية الممكنة الوحيدة لنوفي اللحظة التاريخية الراهنة حقها , حيث أن اللحظة الراهنة تطالبنا باستقامة النظر والخطاب في الفكر العربي الإسلامي نفيا لاعوجاجهما, وذلك من خلال ما أطلق عليه إتمام القراءة (النظرية) وإحكام التلاوة (الخطاب)أي بالقدرة على إبداع النظرية وخطابها معا, تخلصاً من إمبريالية الرؤى والمناهج وإمبريالية المفاهيم والمصطلحات, فالرشاد النظري لا يتم إلا بالسيطرة على نظام المعنى والسداد الخطابي لا يتم إلا بالسيطرة على نظام المبنى, وهذه المتوازية المطلوبة هي عينها تحرير مؤسسة الاجتهاد في الفكر العربي الإسلامي المعاصر(1) [i]. وبالتالي فلا ينبغي أن يتم فعلا القراءة والتلاوة (النظر والخطاب) بالإضافة إلى الأخر/ المستبد و تحت سلطانه بل بالإضافة إلى الأنا/المتحرر و تحت سلطانه, وليس الأخر بما هو أخر بل بما له من أثر سلبي على الذات والموضوع, فنتولى تدبير الخيال و الفكر دون وصاية على الذات ولا على الموضوع, فنتمكن من تحرير العمران الرمزي من الفساد الواعي (النسقي) وغير الواعي(العبثي)وتحرير العلم والمعرفة من قيم السوق والصنمية الجديدة. إذن ففعل القراءة هو إدارة وضبط للمعاني في واقعها النظري أو تشريع للنظر, وفعل التلاوة هو إدارة وضبط للمعاني في واقعها العملي أو تشريع للخطاب, فالقراءة صناعة للمعنى وملاحقته في واقع المثال والتلاوة استهلاك للمعنى ومداولته في واقع العمل, بمعنى أخر فالقراءة تشييد للإبداع في الواقع النظري للفكر والتلاوة تشييد للإبداع في الواقع العملي للفكر ,فالقراءة بمثابة المرآة والتلاوة بمثابة الغشاوة التي للمرآة ففعل الترائي (الإبداع) يتحدد بقوة التقاط المرآة (القراءة /النظر) ويتحدد بقوة عكس الغشاوة (التلاوة/الخطاب),رصد دائم لا يغفل وبث مستمر لا يمل تأسيسا لفاعلية العقل لا انفعاليته وتحديدا لاستقلاله الماهوي وحريته, آنئذ يستطيع العقل العربي الإسلامي أن يباشر عمله بأمانة. وتحرير النظر و تحرير الخطاب يتطلب الانتساب إلى هوية سوية تنهي الاقتتال بين المرجعيات – الذي يدل عن غياب العقل والدين معا -فتخليص فعاليتي العقل (القراءة و التلاوة) من الانفعال السلبي بالمحيط المحلي و العالمي شرط في إيجاد هذه الهوية وشرط في استئناف العقل لدوره الريادي, الذي تستدعيه طبيعة التوغل في المستقبل و إحراز كرسي البقاء في عالم لم يعد هناك مكان للضعفاء فيه ,فحيازة مؤسسة العقل فرض الفروض التي تقع على عاتق النهضة اليوم. العقل بمفردتيه (القراءة/التلاوة) القادرتان على تطوير أدائه, لنخلص إلى معنى جليل أورده التنزيل حيث أن بسط النظر قراءة للآيات لا يتم إلا بإتمامه (فالإعراض قطع للنظر و المعرفة) و فصل الخطاب تلاوة للبينات لا يتم إلا بإحكامه (فأي خطاب يستند على الإعراض فهو تضليل و سحر جديد ), وهذه هي صلة القرآن بالبيان,وبهذه العلاقة يتأسس القول العلمي حسب الآية الكريمة:"الرحمان(1)علم القرآن(2 )خلق الإنسان(3) علمه البيان(4 )" ([ii]),حيث يكون النظر (القراءة) بصيرا لا أعمى والخطاب (التلاوة) بينا لا أبكم, وهي قاعدة في المواظبة على السؤال و فقهه ,ولذلك فالفكر العربي الإسلامي المعاصر لا يزال دون هذه القاعدة, فدال الخطاب فيه لا يدل إلا على الضياع النظري وحسب. فأتي الفكر العربي الإسلامي المعاصر من الداخل والخارج ففي أحد جوانبه رافق "الكتمان الجديد" ([iii]) الاستشراق وضحاياه فالتغريب وضحاياه مما أخل بنظامي القراءة و التلاوة عن بصيرة, بحيث رشنا الغرب الاستعماري بنظريات وخطابات جلها عملت و تعمل على إزاحة القرآن من مركز الثقل في فكر وحضارة تأسسا عليه مما حول العقل إلى أرض احتلال , ومحى الذاكرة و التذكر,فأدى إلى نسيان القراءة (جمود النظر) فبطلان التلاوة (شرود الخطاب) ,فهما -بالمعنى الذي ذ كرنا-المعين الذي تتدفق منه الثورة العلمية التي دل عليها القرآن الكريم,جمعا بين العرفان الديني والعرفان العلمي لا فصلا بينهما([iv]),فالقيام للقراءة و التلاوة من جنس القيام للعبادة والصلاة كل يتم بسم الله الرحمن الرحيم , فإقامة العقل من إقامة الدين وإقامة الدين من إقامة العقل لا فرق ([v]) . وما هذه الاستعارة من القرآن الكريم إلا لاستثارة العقل المسلم للمثابرة على مهام الثورة العلمية المرابطة على ثغور السؤال حتى لا يبيدنا الاحتلال ,فالقراءة والتلاوة هي أداتي إحياء الدين و العقل معا. إقامة الدين وإقامة العقل : يستوي إقامة الدين وإقامة العقل في مشروع استئناف الحضارة العربية الإسلامية لرسالتها في العالمين, ولأدل على ذلك ثورة الإسلام في اقتلاع الإنسان فردا وجماعة من الجهل والجاهلية لاضطلاع بمهام العلم والعالمية,وهكذا كان الإقبال على آيات الله المسطورة والمنشورة تدبرا و تفكرا (علما و تعلما) والإدبار عنها عناد و كفرا (جهلا و تجاهلا) بهذا المعنى فالإسلام قطع ثوري مع الجهل ووصل ثوري مع العلم,إذ ترافق صعود بنيان العلم مع سقوط بنيان الجهل في تاريخ الإسلام ,فأي قيام للجهل بوظيفته قعود للعلم عن وظيفته, فمؤسسة العلم هي المعلم الذي يتكفل بتوجيه إحداثيات الحضارة العربية الإسلامية, فإعادة تحديد العقل وإعادة توطيد الدين رهن تفعيل مؤسسة العلم ,فكلاهما تدنت ممارستهما في غياب مؤسسة العلم وتفككها ,فحضورهما المستوي لا المعوج يكون بقدر الحضور الواعي لهذه المؤسسة , فلم يعد جائزا الغفلة فيها فمبتدأ الصحوة من هنا وفقط . فالإقلاع الجديد علامته النهضة العلمية أو إحياء علوم الدين وإحياء علوم الدنيا (النظر إلى مشروع محمد عبده في التعليم و التربية ومشروع محمد علي في التحديث والتنمية موحدين لا منفصلين) بعد أن أصبحنا مهددين في وجودنا المعنوي و وجودنا المادي في عصر العولمة, فإعادة مأسسة العلم أضحى مطلبا معرفيا و حضاريا ,للإدارة والسيطرة على حيز الوجود المعنوي و حيز الوجود التاريخي, إذن فمؤسسة العلم اضطرار مصيري حتى لا يتم إقصاءنا من المعرفة وإقصاءنا من التاريخ و تنفيذ حكم الإعدام علينا من قبل فراعنة الغرب الجدد ,ففرز منزلة "ألو الألباب" هي التمثيلية الجديدة المطلوبة في القيادة المؤهلة لاستئناف فتوحات العلم و فتوحات الحضارة و السيادة على مصيرنا والشهادة على العالمين . ما بين الإمامة العلمية/الدينية و الإمامة السياسية/الحضارية : إن جدلية الثقافي و السياسي في فكر الصحوة وواقع الصحوة لازالت عالقة ([vi] ) , تؤثر بشكل سلبي في توجيه خيارات الفكر و الواقع, فالسياسي يخلق لنفسه مرجعية فكرية مفصولة عن المرجعية الفكرية التي للثقافي محكومة بالظرف السياسي المحلي وليس حتى العالمي ,فهي مرجعية مفصولة (جزئية) و ظرفية (مؤقتة)مرصودة لظاهر العمل السياسي وليس حتى باطنه , مشغولة بتقنيات المشاركة السياسية وليس صناعة القرار السياسي,لنخلص إلى أن العقل السياسي للصحوة لا يفكر وهذا جزاء الفصل(المرجعية المفصولة) وأن العمل السياسي للصحوة لا يفعل بل ينفعل وهذا جزاء الظرف (المرجعية الظرفية) , إذن هو تحت النفوذ ولا يصنع النفوذ , وبهذا فقدت العلاقة توازنها وبالتالي وجوب إعادة النظر في الفكر السياسي والعمل السياسي للصحوة الذي أضحى ضروريا -ولا ندعيه بل ندعو إليه – للعودة إلى السير الصحيح, إذن فنفس الوضع المرضي الذي يعاني منه الفكر و الواقع العربيين الإسلاميين بشكل عام انتقل إلى فكر وواقع الصحوة ,فمراجعة تاريخ فكر الصحوة وتاريخ عمل الصحوة في ظل التقاطب الذي يحكم الجدلية وموازاة مع التحديات التي يفرضها الفكر العالمي و الواقع العالمي للانتقال بالصحوة من مجرد خصوصية عربية إسلامية إلى كونية عالمية نجده في هذه الغاية ـ إذا فهمت ـ فهي تعد بداية الإصلاح و المراجعة المطلوبة . إن طغيان توظيف العقل علمويا أخفى العقل العلمي في الساحة الفكرية العربية الإسلامية ,وطغيان توظيف العقل سياسويا أخفى العقل السياسي في الساحة السياسية العربية الإسلامية ,فالفشل في تدبير الشأن العلمي من قبل النخبة المثقفة أعقبه فشل في تدبير الشأن السياسي من قبل النخبة السياسية , بحيث صدَّر الأول أمراضه للثاني, فحروب المذاهب والتيارات الفكرية انتقلت إلى الأحزاب والتيارات السياسية, فدكتاتورية المعرفة في إقصاء المنافسين من صناعة القرار الثقافي وتجزئة الوطن ثقافيا ,هي عينها دكتاتورية السياسة في إقصاء المنافسين في صناعة القرار السياسي وتجزئة الوطن سياسيا , فمهمة فكر الصحوة اليوم هو انتشال ذاته من مسايرة هذا المنطق "الفتنة", إصلاحا للثقافة وإنهاء للثقافوية وإصلاحا للوطن و إنهاء للسياسوية, فاستقامة العقل الذي يزاول الثقافة شرط في استقامة العقل الذي يزاول السياسة وذلك بإصلاح جميع الأعطاب المعرفية التي تربطنا بفكرنا وفكر غيرنا وبواقعنا وواقع غيرنا من خلال تفعيل أهم واقعة فكريا وسياسيا الأمة أولا وأخيرا (عقل الأمة الواحد ومجتمع الأمة الواحد)([vii]). وتحرير فكر الصحوة من هذا الأسر يتأتى انطلاقا من تدبير فلسفة الاختلاف بما يجعله مثمرا و عنصر ائتلاف , فلا ينبغي أن يكون اختلاف الخيارات سببا في الاستغناء عن الرأي والرأي الأخر فالشعور بالاكتفاء يوقع في الخطاء و يخل بركن التعاون , فلا يمكن أن نسدي المعونة لبعضنا البعض و نحن متفرقين و ممزقين , فإدراج " الحوار" كمفهوم مركزي في فكر الصحوة و موضوع رئيسي في عمل الصحوة ,مقدمة لضبط علاقة بعضنا بالبعض و فهم كيف يكون العمل في سبيل الله صفا واحدا في عالم جعل فراعنة الغرب الجدد الإسلام عدوهم الأول, حتى لا نعزل بعضنا البعض فتذهب ريحنا فنندثر,علينا أن نعكس فنجعل من تعدد الخيارات مصدر قوة تصب في صالح الأمة ,ففي الحوار تنفتح سبل العلم وسبل السلام وبالتالي يمنحنا فرصة الاستقرار والنظر المتروي إلى العالم. وبقدر الانفتاح ومعرفة المنظومة العلمية والإعلامية الدولية والمنظومة المدنية و السياسية الدولية وأيضا بقدر حضورنا الواعي و الفاعل في هذه الميادين يتحقق ركن التعارف فلا يمكن أن نسدي معروفا للإنسانية ونحن جاهلين غائبين , إذ لا ينبغي لحملة رسالة العالمين أن يكون من هذا الصنف , فإدراج "العالم " كمفردة مركزية في فكر الصحوة و موضوع رئيسي في عمل الصحوة مقدمة لضبط علاقة العالمي بالمحلي وفهم كيف يصنع القرار في عالم يكنى بالقرية الكونية والنفاذ إليه , وحتى لا تتحول حركات الصحوة إلى جزر يعزلها السياسي فتنقضي ,عليها أن تعكس ما هي عليها (هيمنة السياسي) بتحويل مركز الثقل إلى الثقافي –وليس الاستغناء عن السياسي بل إعادة تعريف وجودنا فيه - وحده البداية الحقيقية[viii] , فالأخذ بناصية الكتاب أولى و مقدم على الأخذ بناصية الحكم فلا تتحقق الإمامة السياسية والحضارية (التمكين السياسي ) إلا على قواعد وأركان الإمامة الدينية والعلمية (التمكين العلمي), فبعدئذ ليس لأحد أن يتذرع بالمفهوم السلبي للاختلاف بعد أن قطعت الصحوة تجربة تاريخية في الفكر و العمل كافية لحصر مردوديتها فيهما ,فنحن اليوم أمام خيار ليس معه خيار آخر,تنصيب السلطان العلمي (أئمة العلم) وإنشاء ظاهرة الرأي العام العلمي (أمة العلم) و هذا أول معنى من معاني التجديد و نواته والله أعلم . [i] أنظركتاب آفاق النهضة العربية ومستقبل الإنسان في مهب العولمة د.أبويعرب المرزوقي دار الطليعة بيروت 1999. [ii] القرآن الكريم سورة الرحمان,الآيات 1,2,3,4. [iii] نقصد به نوع الطوق الذي ضربه الاستشراق والتغريب وكتم حقيقة الدور المركزي للقرآن الكريم في الحضارة العربية الإسلامية والإنسانية عموما,بغية تجفيف الينابيع الأولى والنيل من إمكانية الاستئناف. [iv] أنظر كتاب وحدة الفكرين الديني و الفلسفي د.أبويعرب المرزوقي دار الفكر 2001دمشق. [v] لاحظ كيف جمع القرآن الكريم في الآيات الأولى من سورة العلق و الأخيرة منها بين فعل القراءة وفعل العبادة وذروته السجود.
11-04-2008 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=562 |