إنّ كلّ متابعٍ لقضايا العنف والإرهاب سيلاحظ وجود حالة من الضبابيّة بخصوص فهم الموقف الشرعيّ من ماهيّة العنف، واستخدامه، ومكان استخدامه وكيفيّة استخدامه، ناهيك عن الاشتباه الحاصل في فهم النصوص الشرعيّة التي تشير إلى بعض صور العنف (الجهاد)، وقد ترَتَّبَ على كلّ ذلك نتيجة منطقيّة مفادها خلق حالة من الإرباك والخلط ـ سواء على صعيد الممارَسة أم على الصعيد المفاهيمي ـ بين ظاهرة العنف في صورته المشروعة (الجهاد)، وبين ظاهرة العنف في صورته غير المشروعة (الإرهاب)، علماً أنّ عدم الاكتراث بنقاط الافتراق والاختلاف بين كلا الظاهرتين، إضافةً إلى عدم إدراك طبيعة الجهاد من الناحيّة المفاهيميّة أو العمليّة، سيؤدّي إلى نتائج كارثيّة.
وتزداد خطورة المسألة وأهميّتها إنْ علمنا أنّه تحت مظلّة الجهاد الإسلامي شُرِّعت الكثير من الأعمال الإرهابيّة، وتحت مِظلَّة الجهاد وشرعيّته مورِست العديد من الأعمال التخريبيّة والإجراميّة، ونظراً لذلك تحوّل الحديث عن أحكام الجهاد وطبيعته إلى أحد أهم المحاور المتعلقة بدراسة الظاهرة الإرهابيّة، لا سيّما وأننا أصبحنا نسمع بعض الطروحات المفاهيميّة الجديدة كـ((الجهاد الإرهابي)) ـ على حدّ تعبير الكاتب البريطاني توري مونتي ـ؛ والتي ربّما دُعِّمَت باستغلال بعض النصوص القرآنيّة والاجتهادات الفقهيّة المجتزأة من سياقاتها وظروفها الخاصّة.
وقد نجم عن عدم التفريق بين الأعمال الجهاديّة والأعمال الإرهابيّة حالة من الإرباك جعلت المسلم في حيرةٍ من أمره حيال اتخاذ موقف ما من تلك التصوّرات الإسلاميّة المتعلّقة بالعنف المُجرَّم (الإرهاب)، خصوصاً وأنّ تلك التصوّرات يُسيطر عليها كثرة الاهتمام بإثارة التساؤلات والإشكالات أكثر من اهتمامها بتقديم الإجابات والحلول المساعِدة على وقف المعاناة الإنسانيّة الناجمة عن طغيان النزيف الدموي للبشريّة.
إنّ مصطلح ((الجهاد)) من أهم وأخطر المفاهيم التي يمكن أنْ تُثار حولها جملة من الإشكالات، خصوصاً في معرض الحديث عن ظاهرة الإرهاب، حيث استطاع الإعلام الغربي الموجّه، أنْ يشوّه مفهوم الجهاد، ويجعل من الإرهاب الاسم اللصيق به، كما تمكّن ذلك الإعلام من إيجاد حالة اقتران بينهما في الذهنيّة الغربيّة، هذا وإنْ كنّا لا ننكر في نفس الوقت أنّ الكثيرين من المسلمين قد ساهموا في ذلك التشويه، عن سوء فهمٍ، أو حسنِ نيّة في كثير من الأحيان.
يُعدّ لفظ ((الجهاد)) من المصطلحات الخاصّة بالمسلمين، حيث تميَّزت به الشريعة الإسلاميّة عن غيرها، فجاء منصوصاً عليه للتعبير عن صورة محدّدة من صور العلاقة بين المسلمين وغيرهم، والتي قد تأخذ في بعض الظروف المحدّدة والخاصّة شكل العنف، وهذا يعني أنّه مصطلح خاص باللغة الإسلاميّة على حدِّ تعبير سيّد قطب، ولقد كان لهذا التميّز في استعمال مفردة الجهاد أثرٌ كبيرٌ في إظهار نقاط التمايز بين مفهوم الجهاد وبعض المفاهيم الأخرى كـ((الحرب)) و((الثورة)) و((الحرب المقدسة)) ـ التعبير المسيحي الاستشراقي ـ وغيرها، وذلك بـ((دلالته على سموّ الغاية، ونبل المقصد))، وبإعطائه بُعْداً إيمانيّاً خاصاً، ينبعث من كونه إلهيّ المصدر، ومن طابعه المتميّز بوجود مرجعيّة أخرويّة مؤثّرة بكلٍّ من أسلوبه وغايته وكنهه بشكلٍ عام.
وقبل الإشارة إلى مفهوم ((الجهاد)) عند فقهاء الشريعة، ينبغي الإشارة إلى نقطتين جوهريّتين:
الأولى: الاعتراف بأن هذه التفسيرات الفقهية الخاصّة بمفهوم الجهاد، هي عبارة عن قراءات بشريّة للمعطى الإلهي (القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف) لا يمكن إنكار تأثُّرها بالواقع المُعَاش، والمناخ الثقافي، والظروف التاريخيّة المُلازمة لفترة صياغتها وولادتها، فهي اجتهادات فقهيّة حاولت الانسجام مع الأوضاع والمعطيات التي فرضتها الظروف المجتمعيّة المحيطة بها.
والثانية: ضرورة التنبُّه إلى خطورة التفسيرات الاختزالية والسطحيّة لحقيقة هذا المفهوم، ولحقيقة الأحكام الفقهيّة الخاصّة به؛ والتي يمكن أن تُذكَر في معرض الحديث عن المفهوم، فضلاً عن التجاهل التام للعلوم المختلفة التي نشأت من أجل الوصول إلى فهم أعمق وأكمل للنص الإلهي.
يرى معظم فقهاء الشريعة أن مفهوم الجهاد غَلَب في عُرْف الشرع على ((قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى))، ولكن لابدّ من الإقرار بعدم حصر دلالة الجهاد بهذا المفهوم، خصوصاً وأنّ نصوص الفقهاء وتعريفاتهم لا يمكنها أن تخصص مدلول النصوص القرآنيّة الواردة في الجهاد؛ ولذا يمكن أنْ يلاحظ الدارس لمفهوم الجهاد عندهم اختلاف نصوصهم الفقهيّة المُعبّرة عن ذلك المفهوم، فيرى بعض فقهاء الحنفيّة مثلاً أنّ مفهوم الجهاد في عُرف الشرع هو ((الدعاء إلى الدين الحق، وقتال من لم يقبله))، في حين نجد أنّ فقهاء المالكيّة كانوا أكثر تحديداً في تبيين الفئة التي يُراد مُجاهدتها، عندما نصّوا على أن الجهاد هو ((قتال مسلم كافراً غير ذي عهدٍ؛ لإعلاء كلمة الله تعالى))، أمّا الشافعيّة فقد رأوا أنَّ المفهوم المقصود من الجهاد هو ((القتال في سبيل الله))، أو هو ((قتال الكفار لنصرة الإسلام))، وقد ذهب إلى قريب من هذا المفهوم فقهاء الحنابلة عندما قالوا إنّ الجهاد هو ((شرعاً: (قتال الكفار) خاصّة)).
ولكن الملاحظ على كل تلك التعريفات النصّ صراحةً على حصر دلالة الجهاد واختزاله بالجانب الذي يحمل بُعداً عنيفاً يأتي في سياق صراع بين المسلمين وغير المسلمين، وذلك على الرغم من شموليّة مفهومه ودلالته، والتي أكد عليها عدد من الفقهاء كالكاساني من الحنفيّة الذي عَرَّف الجهاد بـ((بذل الوسع والطاقة بالقتال في سبيل الله عزّ وجلّ بالنفس، والمال، واللسان، أو غير ذلك)).
وممن أشار إلى ذلك أيضاً ابن رشد، الذي رأى أنّ الجهاد يشمل أربعة أقسام: جهاد القلب وجهاد اللسان، وجهاد اليد، وجهاد السيف؛ ومن خلال ذلك نرى أنّ العنف أو القتال ـ في صورته المشروعة ـ يُعدّ نمطاً من أنماط الجهاد المختلفة، وكما أنّ الجهاد بهذه الدلالة القتاليّة أو العنفيّة إنما هو مما لم يُشرَع لذاته؛ إذ هو ((إفساد في نفسه، وإنما فرض لإعزاز دين الله، ودفع الشر عن عباده))، وهو بذلك يأتي كآخر ذريعة، عندما لا يبقى في قوس التبصر منزع، ولا في كف أذى المشركين طريق، وهو (الجهاد) بذلك لا يحمل أي دلالة عدائيّة غير مشروعة، يقول الله تعالى: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين[البقرة:190]، واستناداً إلى كل ذلك يمكن القول بأنّ الخط الفاصل بين مفهوم الإرهاب ومفهوم الجهاد، إنما يتجلى في جوانب متعدّدة، من أهمها: الغاية، وصفة المشروعيّة، والضحيّة، والضوابط، وأداة القتال.
أمّا ما يتعلق بالغاية فإنّ الجهاد له غاية واحدة ومحدّدة وهي منحصرة في كونها في سبيل الله ـ وهذا ما أكدت عليه جُلّ التعريفات السابقة ـ ولإعزاز دين الله، ونشر دعوة الإسلام وحمايتها، بينما نجد أن الإرهاب قد يحمل أهدافاً سياسيّة، أو اقتصادية، أو فكريّة، أو...إلخ.
وأمّا جانب المشروعيّة فإنّ الجهاد لا يشتمل على أي بُعْد عدواني غير مشروع؛ إذ لا يتحقق إلاّ عند قيام حالة من القتال لها مسوّغاتها وظروفها وأحكامها الشرعيّة الخاصّة؛ والتي أسهب الفقهاء في ذِكرها وضبطها، وذلك مع عدوٍّ أصبح قتاله واقعاً مفروضاً، وحقيقة لا تقبل الردّ، فالجهاد ((يتميّز بوضوح الهدف، ووضوح الوسائل، والتزامه بأحكام الشرع وضوابطه، ومكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام قبل القتال، وأثناء القتال، وبعد القتال)).
ومن نقاط التمايز بين مفهوم الجهاد ومفهوم الإرهاب، أنّ الجهاد ليس ممارَسة للعنف الأعمى والعشوائي الذي لا يميّز بين الأفراد الذين يقع عليهم، وذلك خلافاً للإرهاب الذي لا يفرّق في طبيعته بين ضحاياه، فقد يقع على المسلم وغير المسلم، وكما يقع على المذنب والبريء على حدٍّ سواء، فالهدف والغاية التي يسعى الإرهابيّ إلى تحقيقها تبرّر ـ ربما ـ كلّ شيء، , وهذا كلّه فضلاً عمّا سبق وأشرت إليه من أن مفردة الجهاد تحمل دلالات متعدّدة غير دلالة العنف، تظهر في جهاد اللسان والنفس وغيرها من الماصدقات الأخرى.
ثمّ إنّ الأعمال الجهاديّة ـ خلافاً للإرهابيّة ـ محكومة بجملة من الضوابط والقيود، التي تحرّم التمثيل بالقتلى وبجثثهم، وتحسن معاملة الأسير والجريح، وتحفظ العهود والمواثيق، إضافةً إلى أنّ أداة القتال الجهادي، أداة واعية ومميّزة، في حين أنّ سلاح الإرهابي سلاح أعمى يحقق أبشع صور الإفساد في الأرض، ويفتك بالجماد والحيوان والإنسان، ولا يميّز بين مذنب وبريء.
كلّ هذا يدفعنا إلى الإقرار بأنّ هناك مفارقات جوهرية بين الظاهرة الجهاديّة والظاهرة الإرهابية، وأنّ الجهاد في المنظومة الإسلامية ليس تشريعاً للإرهاب والقتل والرعب ونشر الذعر والإكراه الديني، وباعث الجهاد ليس القتل العدواني، وهو ليس ممارسةً للعنف الأعمى (الإرهاب).
ولا بد من التأكيد هنا على ضرورة التوصل إلى حلّ الإشكالات المحيطة بطبيعة الجهاد القتالي؛ لأنّ ذلك سيساهم في فك الارتباط بين الإرهاب غير الإنساني، وبين مفهوم الجهاد الإسلامي، وسيحمينا من الوقوع في تجريم بعض الممارسات الجهاديّة، ووسمها بالممارسات الإرهابيّة، وفي الوقت نفسه سيمكّننا من منع اختطاف مفهوم الجهاد من قبل بعض من يمارس القتل والتخريب والإرهاب باسم الدين والجهاد، لا سيّما وأنه لم يشهد عصر من العصور ما شهده عصرنا من انقلابٍ في المفاهيم، وخلطٍ بينها، حتى غدا الفرد يعاني من صعوبة بالغة في التميز بين الأصيل من الدخيل، والثابت من المتغيّر.