/
الـتأويل بين شروط النص ومقتضيات العمران
عثمان صادق شريحة
" أما العالم في نفسه فليس إلا خيالا وحلما يجب تأويله لفهم حقيقته " ابن عربي لم ينفك الخطاب(1) الديني يثير قضايا جوهرية تتصل بطبيعة التأويل وعلاقته بالقرآن وحدود التزامه بخصائص النص المؤول باعتباره المجال الفعلي للمقاربات تصورا واعتقادا (2) وليست العملية التأويلية وإن تنزلت في أنساق صارمة ومعلومة بمنأى عن الحيثيات الخارجية (3) التي نزعت التأويل في أحيان كثيرة من مرجعية النصّ لتدفع به في اتجاه الاستجابة لشروط العمران ومطالب الانتماء ومقتضيات أعراف الجماعة وتقاليدها وما تريد ترسيخه من مواقف تحقق من خلالها مكاسب في الوجود أولا وفي الانتشار والسيادة والهيمنة ثانيا . إن القضيّة بهذا الاعتبار على درجة من التعقيد إذ تتداخل فيها المستويات المختلفة وتتواشج فيها العلاقات المتنوعة ، وهو ما يفسر كثرة المداخل التي باشر من خلالها جمهور المتكلمين والفلاسفة واللغويين والأصوليين قضية التأويل ،وبحكم هذا التنوع والاختلاف في أشكال التناول والدراسة آل الأمر بهم إلى جدل مستحكم كثيرا ما تمت التضحية فيه بالحقيقة، حيث ألغت جلّ هذه المقاربات الكيان اللغوي للنص القاضي بالإبلاغ والإفهام . إن الخطاب الديني ولئن كان مفارقا للخطابات الأخرى من حيث البنية والمقصد ، فإنه يشاركها الأداة التي ينتقل بها من طور البناء والتشكل إلى طور التفكيك وإعادة البناء ، ولكن فعل القراءة كثيرا ما صادر حقيقة هذا الانتماء اللغوي للخطاب الديني (4)لذلك لا بد من التأكيد أولا على أن هذا العدول في قراءة الخطاب الديني قد أسقط عليه معاني ومواقف ورؤى هو أنأى ما يكون عنها والتأكيد ثانيا على أن التفكيك السيميائي وحده الكفيل بتحليل بنية هذا الخطاب التي استعصت في أحيان كثيرة عن الإدراك والاستيعاب . ويقتضي هذا الإجراء المنهجي الصارم معالجة الخطاب الديني وفق شروطه النصيّة التي تأسس عليها لمعرفة خصوصيّة الإبلاغ والإفهام فيه ،وهو ما لم يتحقق في فترات عديدة من تاريخ الفكر العربي الإسلامي ، لذلك عمّت الخطابات المنفلتة من قيود العقلانيّة وانتشرت ثقافة الإقصاء والتهميش ، وأصبح الوعي بالآخر مرتبطا بالانفعالية . إن مثل هذه القراءة لا يمكن أن تحقق مقصدها ما لم تصادر كل مقاربة تبريرية كان هدفها باستمرار تكريس الاختلاف وتعميق هوّة الفرقة بين القراءات المتنوّعة وما لم تكرّس أولويّة النص وشروطه اللغوية المحضة على مراكز الضغط الحافّة به التي تنسب إليه مما ليس فيه . 1 / الشروط النصيّة المسيّرة للتأويل يبقى البحث في طبيعة اللغة وآليات عملها والمقولات المسيرة لها إشكالا مثيرا باستمرار باعتبار ما ينطوي عليه جهازها المفهومي من تنوع يبلغ أحيانا عديدة حدود المفارقة التي تخرق صرامتها المنطقيّة ، ولعلّ تشعب العلاقة بين المكونين الصميمين ، أي اللفظ والمعنى ، خير مثال على صعوبة الإحاطة بأشكال التعالق والتواشج بين مقولاتها الداخلية ، ورغم إجماع الأصوليين واللغويين والمتكلمين والفلاسفة على تقدّم الكلام على الأنظمة العلامية الأخرى في الرتبة والاعتقاد ، إذ " قضت العقول السليمة بأن أحسن التعريفات لما في القلوب هو الألفاظ " ( 5 ) فإن ذلك لا يلغي ما وقفوا عليه من إشكالات منهجية في التنظير لأوجه العلاقات المحتملة بين اللفظ والمعنى ، خاصة وأن هذه العلاقات محكومة بطبيعة المدخل الذي يتم رصدها من خلاله ، فاللفظ يصنّف ثلاثة أصناف إذا ما قاربناه من جهة التواضع ، فهو خاص وعام ومشترك ، وكل صنف من هذه الثلاثة يقسم أقساما عديدة فيصير اللفظ إلى نماذج مختلفة ، وقلما وقفنا في كتب التراث على اتفاق بشأنها ، ذلك أن التعريفات الجزئية قد تم إخضاعها للآليات اللغوية والمنطقية والفلسفية المتباينة في الملاحظة والمقايسة والاستنتاج (6 )، وينشأ بالاستتباع لذلك تقليب للمعنى على وجوه عدّة كل وجه منها يستند إلى علّة لا تعدم في ذاتها قدرة على الإقناع ، فالآخذ بها متـمسّك بالمعنى الذي وقع عليه دافع لما يختلف معه من الآراء والمواقف . وإن قاربنا علاقة اللفظ بالمعنى من جهة السياق فإننا نصير إلى القول بثنائية الحقيقة والمجاز ، أما الحقيقة فهي عند السكاكي " الكلمة المستعملة فيما تدل عليه بنفسها دلالة ظاهرة "(7) وهي عند الجرجاني " كل كلمة أريد بها ما وقعت له في وضع واضع ، وإن شئت قلت : في مواضعة وقوعا لا يستند فيه إلى غيره "(8) ، وعلى ما نلاحظه من تماه بين التعريفين فإننا نقف على ملاحظة من الأهمية بمكان وهي الإشارة في تعريف السكاكي للقيم الاستعماليّة وأثرها في وسم لفظة ما وسما دلاليّا ، فالأولويّة في هذا السياق ليس إلى المواضعة في حدّ ذاتها لأن ذلك مما لا يُصادر ، ولما كانت قيم الاستعمال تخضع للتطوّر والتغيّر حسب ما تقتضيه أطوار اللغة في نشوئها وانتشارها واستمرارها ، فإن اللغة في ذاتها ـ نشأة واستعمالا ـ مرتبطة ارتباطا ضروريا بالعمران البشري ومقتضياته المتجددة على الدوام (9). وجعل اللغويون والأصوليون والمتكلّمون والفلاسفة للمجاز حدا مفارقا صادرين عن الحقيقة ، فإذا كان التزام الدلالة الظاهرة من معرّفات الحقيقة فإن المجاز مصروف إلى" الانتقال من حال إلى حال"(10) واعتبار المجاز مفارقا للحقيقة من جهة الدلالة يثير إشكالا غاية في الأهميّة في النصوص العربية الإسلامية ذلك أن طبيعة هذه العلاقة تحدد الموقف من التأويل ، إذ تم الربط في بعض الأحيان بين انصراف المجاز عن الحقيقة اللغويّة المحضة وانصرافه عن الحقيقة الشرعيّة ذلك " أن المجاز قد يكون لصرف اللفظ عن الحقيقة الوضعيّة وعن العرفية وعن الشرعية إلى غيرها "( 11) ، والثابت الذي لا يُدفع أن هذا العدول الدلالي الذي وُسم به المجاز أسهم إسهاما بالغا في توجيه المواقف الأصولية والكلاميّة والفلسفية من قضيّة أخرى ترتبط به إلزاما ، ألا وهي قضية الظاهر والباطن ، وليس الاختلاف بصدد القضية الثانية إلا صدى مباشرا لتباين الآراء حول القضية الأولى ، فاللغة على تشعبها تحكمها وحدة عضويّة تبلغ في بعض أوجهها حدود الصرامة المنهجيّة . أما إن رصدنا علاقة اللفظ بالمعنى من جهة طبيعة الاقتران فإننا نصير إلى ثلاثة أصناف أولها دلالة المطابقة ، وذلك " بأن يكون ذلك اللفظ موضوعا لذلك المعنى وبإزائه "(12) وثانيها دلالة التضمن " بأن يكون المعنى جزءا من المعنى الذي يطابقه اللفظ(13)وثالثها دلالة الاستتباع والالتزام " بأن يكون اللفظ دالا بالمطابقة على معنى ، ويكون ذلك المعنى يلزمه معنى غيره "(14). وتكشف هذه الضروب من التعالق عن طبيعة الاسترسال والتواشج بين اللفظ والمعنى بشكل يدعم الفرضية بأن أوجه العلاقات بينها تخرج في كثير من الأحيان عن شروط التحيّز والحصر لتجتاز إلى قيم استعماليّة شديدة الصلة بمقتضيات البيئة الثقافية والمحمولات النفسية التي تنفك من التقييد بحكم تداخل التجربتين الفرديّة والجماعيّة في تشكيلها . و أما إن تبيناّ علاقة اللفظ بالمعنى زمنيّا فإننا نصير إلى ثلاثة أنواع :نوع دال على المضيّ وآخر دال على الحضور وثالث دال على ما هو آت " وكل هذه الأقسام تدخلها الموجبة والسالبة والموضوع والمحمول "(15) ، وكل تفريع يصحبه تغيير في المعنى وعدول في علاقته بالمعاني الأخرى التي تقتضيها مقولات المشابهة والمرادفة والضدية ، وكلما زادت الفروع دقت الفوارق في المعاني ، وهو ما يفسّر في اعتقادنا اختلاف اللغويين في مواقفهم حول عدّة مسائل أثرت بشكل مباشر في حقول المعرفة الأصوليّة والكلامية والفلسفية . إن أصناف العلاقات بين اللفظ والمعنى التي تقدم ذكرها عائدة بالمحصّلة إلى التواضع عند من ذهب إليه وإلى الاصطلاح عند من انتصر له ، إلا أننا لا نغفل أمرا هاما ذكره بعض الأدباء وهو عدم التناسب عدديّا بين الألفاظ والمعاني ، أي ضرورة جعل المحصور دالا على غير المحصور مع ما يقتضيه ذلك من التسليم بما يؤول إليه الأمر من عسر وتكلف قد يلغيان صرامة المنهج المتبع في التشخيص والاستدلال من جهة ويصادران حقائق يثبتها المنطق ويجلوها في العقول و الأفهام في سبيل تثبيت أخرى بحكم أن ردّ المتعدد إلى الواحد لا بدّ فيه من الانتقاء ، وقد عبّر التوحيدي وابن مسكويه عن ذلك أوضح تعبير بقولهما " قد تقدم البيان أن المعاني والأحوال التي تتصوّر للنفس كثيرةجدّا وأنها بلا نهاية ، فأما الحروف الموضوعة الدالة بالتواطؤ والمركبات منها فمتناهية محصورة محصاة بالعدد ... ولم يقع هذا الفعل المؤدي إلى الإلباس والإشكال ، وإلى الغلط والخطإ في الأعمال والاعتقادات باختيــار ، بل باضطرار طبيعي" (16) . إن موضع الجدة في هذا الموقف الذي لم يصدر عن لغويّ أو أصوليّ أو متكلّم إنما صدر عن أديبين يكمن في اعتبار التنازع الدلالي أمرا تفرضه اللغة ويقتضيه عدم المناسبة بين اللفظ والمعنى ، فكل تغليب لمعنى على آخر أمر مرجوح ، للأدلة فيه دور بحسب ما اقتضته أعراف الاستعمال ورسخته قيم التداول كما للفهم فيه دور بحسب ما أملته شروط البيئة الثقافية ومقتضيات العمران ، فإن كان توحيد الاستعمال ممكنا فإن تنميط الفهم أمر متعذر باعتبار التباين في الحيثيات الخارجية المتحكمة في التعامل مع اللغة . إن الفهم في تقديرنا هو مكمن المعنى بالأساس ، فلئن كان من المنطقي التسليم بأن اللفظ يدل على المعنى أيّا كانت الطريقة فإن تعيين هذه الدلالة وحدّها وضبطها وتمثّلها وتعقّلها أمور مشروطة بالفهم وكيفية حدوثه وملابسات وقوعه في الأذهان ، لذلك نرى أن اللغة بقدر ما تعبّر عن مظاهر الجماعة وأنساق تمثلها للوجود وأشكال حضورها فيه تكشف إلماما عن أثر الذات في بناء الكلام . و يقودنا الوعي بهذا الأمر إلى الإقرار بصعوبة تنميط المعنى أو تثبيته أو تقنينه ، لذلك قال أبو سعيد السيرافي في ردّه على متّى بن يونس مبيّنا استحالة تنميط المعاني وما تدل عليه " لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة أنها ثمانية زال الاختلاف و حضر الاتفاق ولكن ليس الأمر هكذا " (17) . 2 / التـأويل ومرجعيّته اللغويّة : أجمعت المصنفات المعجمية التراثية على المعنى اللغوي للتأويل وربطه بدلالة الرجوع ذلك أنك " تقول آل الأمر إلى كذا ، أي رجع إليه"( 18) أما في اصطلاح الأصوليين ، فإنه صرف اللفظ عن المعنى الظاهر إلى معنى مرجوح لاعتضاده بدليل يصير به أغلب على الظن ّ من المعنى الظاهر (19) وقد ورد لفظ التأويل ـ أو ما هو منه ـ في القرآن سبع عشرة مرّة ، والذي عليه أمر جل اللغويين والأصوليين والمتكلمين والفلاسفة أن التأويل ممّا يصير إليه المتمعّن في القرآن ضرورة ، ذلك أن الطبيعة المزدوجة للمعنى من جهة انقسامه إلى ظاهر وباطن تقتضي التقليب والمعالجة والتخريج وفق أنساق منهجية كثيرا ما تباينت الآراء والمواقف بشأنها . وننوّه في هذا السياق إلى أننا لا نهتم بالآراء في تنوّعها واختلافها وجهة صدورها وفق ما درجت عليه العادة في تجزئة تجربة التأويل وتشتيتها في الفكر العربي الإسلامي انطلاقا من الانتماءات المذهبية ، إنما مردّ الأمر عندنا إلى تبيّن خصائص التأويل في الخطاب الديني في كليّته مع ما يستدعيه ذلك من صهر للفوارق والحدود المانعة من الاسترسال النظري . لقد أسهب الدارسون المعاصرون لمسألة التأويل في بيان دور مجموعة من العوامل الخارج ـ نصيّة في التاثير على اتجاهات المؤولين في تعاملهم مع النص القرآني لذلك لم يحظ المدخل اللغوي لهذه القضيّة بما يستحقّه من عناية على أهميّته المؤكّدة ، إذ التأويل من مقتضيات اللغة في جريانها بين العبارة والمقصد وقد انتبه البلاغيون إلى هذه الخاصيّة بجلاء ، فقسموا الكلام إلى ضربين بحسب درجة مطابقة اللفظ للدلالة " ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ....وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ، ولكن يدلّك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض "(20) . إن التأويل بهذا المعنى ليس ترفا معرفيّا إنما هو نابع من النص ذاته ، فبعض العبارات لا تفيد شيئا إن لم يتم تقليبها على غير ما انتهى إليه التواضع في أصل الكلام ، وقد أفضت هذه الطبيعة الثنائية في المعنى إلى تقسيمه إلى ظاهر وهو ما يُصار إليه مباشرة من قراءة العبارة وباطن لا يدرك إلا بالتأويل ، ورسُخت علاقة التلازم بين الظاهر والباطن في العقول والأفهام انطلاقا مما جاء في القرآن من آيات تذكرهما باعتبارهما متقابلين (21)والمقصود بالتلازم في هذا السياق التعالق اللغوي الضدّي بينهما فكلّ ظاهر يتجلّى في اللغة يقتضي بالضرورة باطنا وكل باطن يقتضي ظاهرا ، وهما من الثنائيات المفهوميّة التي أثبتتها قيم الاستعمال ، والمعنى لا يتحدد بصورة فعليّة إلا عن طريق الاستعمال ، يقول فيغنشتاين في بيان ذلك " إن معنى كلمة ما يتحدد حسب استعمالها في اللغة " (22) . هكذا وبهذه الصورة رسّخت اللغة العلاقة الضدية بين الظاهر والباطن ، فليس الوعي بهما على هذا النحو إلا من أثر القيم الاستعماليّة في الذهن وهي سابقة في أذهان عرب الجزيرة لفترة نزول القرآن، لذلك يبدو من غير المشروع لغويّا الإقرار بوجود المعنى الظاهر دون وجود المعنى الباطن ، وليس الأمر في حقيقته إلا ضربا من الإقصاء والتهميش لجنس من المعاني لدواع تفارق اللغة . إن هذا التقسيم الثنائي للمعنى الذي يمثل مقولة محوريّة مسيّرة للجهاز اللغوي لا يمكن تحييده في أيّ تعامل مع أيّ جنس من النصوص ، فالوعي بها يكيّف الموقف من الوجود في عمومه إذ " ليست اللغة إحدى الملكات التي تميّز الإنسان في العالم فقط ، بل عليها يرتكز إدراك أن البشر لهم عالم وبها يظهر ، ويعتبر العالم عالما بالنسبة إلى الإنسان فقط ، إذ ليس عند أي كائن حيّ آخر هذه الصفة الوجوديّة ، وهذا الموجود هنا ذو تكوين لغويّ ، وهنا يكمن عمق الجملة التي أصدرها همبولدت وإن كانت في مقام آخر عندما قال إن اللغات رؤى للعالم " (23). لقد تم الفصل في جل الأدبيات التي اهتمت بقضية التأويل قديما وحديثا بين المؤول والجهاز اللغوي الذي يعتمده ، فالنظرة التقليدية التي تعتبر اللغة أداة يعتمدها المؤول لفهم النص وإدراك معانيه قاصرة عن استيعاب حقيقة محوريّة تتصل بالوجود في حدّ ذاته ، ذلك أن هويّة المؤول ذاته محكومة باللغة ، ويكفينا في هذا السياق إيراد هذا الشاهد القصير من كتاب " بنية العقل العربي " لنتبين تغييب العامل اللغوي في معالجة القضية ، يقول الجابري " كما وجد العرفانيّون الإسلاميّون في الزوج الظاهر / الباطن الوارد في القرآن ما يدعم اتجاههم ـ من وجهة نظرهم على الأقل ـ وجدوا في الزوج التنزيل / التأويل ما فسح المجال أمامهم للتمييز في النص القرآني بين مستويين : مستوى الدلالة اللغويّة التي طابقوا بينها وبين الظاهر ومستوى الدلالة الإشاريّة أو الرمزيّة التي طابقوا بينها وبين الباطن "(24) . إن هذا الشاهد يبيّن أن " العرفانيين الإسلاميين "قد باشروا التعامل مع النص القرآني من منطلقات غير لغويّة سعوا جاهدين إلى البحث في القرآن عمّا يؤيدها ولكن هذه المقاربة تغفل عن حقيقة صميميّة وهي أن النص ـ بحكم أنه مكون لغوي ـ لا يقوم على آداء المعنى في كليّته أداء مباشرا وهو في ذلك لا يقطع مع خصائص اللغة العربية وأنظمتها وقوانينها كما لا يقطع مع القيم الاستعماليّة التي كانت سائدة في عصر الوحي ومازالت مستمرّة إلى اليوم ، بل أكثر من ذلك كان النص معجزا في وجوه لأنه قام على الإبداع في كيفيّات إخراج المعنى ، وهو نوع من الكلام مخصوص " و في كل نوع ...لمحة دالّة ، واختصار وتلويح يعرف مجملا ومعناه بعيد من ظاهر لفظه " (25). إن التأويل هو الفهم ذاته للنص صدورا من بنيته اللغوية ، فليس التأويل مفارقا يُستدعى من خارج النص للبحث فيه عمّا يؤيد الآراء القبليّة أو المسبقة لأن ذلك لا يُعتبر تأويلا واعتباره من الـتأويل خطأ وقع فيه الدارسون القدامى والمحدثون على السواء ، إنما هو اجتراء على النصّ وتحميله ما لا يحتمل. حقا يبدو أمر الفصل بين التأويل واللاتأويل من الصعوبة الإجرائية بمكان ، ولكن الأساس في ذلك يبقى في طريقة التعامل مع النص المؤول ، أي باعتبار درجة التمكّن من الإفضاء إلى النص بما هو بنية لغويّة محكمة التكوين والتشكل وقد أشار شلاير ماخر في سياق تعامله مع النصوص المقدّسة إلى خصائص هذا الفعل التأويلي بقوله :" إنه فنّ استخراج معنى خطاب ما انطلاقا من اللغة "(26) . بهذا المعنى نفهم أبعاد بعض المواقف الداعية إلى ممارسة التأويل لا على الباطن فحسب بل على ما ينتمي إلى دائرة الظاهر ولعل أبرز الداعين إلى ذلك من القدامى القاضي النعمان في كتابه أساس التأويل كما أجاز غيره ذلك ما تم الالتزام ببعض الشروط ، يقول الإمام الجويني " تأويل الظاهر مسوّغ إذا استجمعت الشرائط "(27) . إن تغييب الحقيقة اللغوية للنص القرآني مع ما يقتضيه ذلك من اعتراف صريح بأن إدراك المعاني فيه يستدعي الإقرار بأهميّة التأويل قد أفضى إلى مأزق ابستيمولوجي تمثل في احتكار الفهم من قبل فئات رأت في نفسها القدرة على الوقوع على الدلالة الصحيحة ، كما أدى إلى تقنين التأويل ووضع قواعد له بعد أن كان في البداية يقوم على البساطة ،ومعلوم في تاريخ العلوم أن كل نظريّة تصير إلى التطبيق من خلال ضبطها بقواعد وأسس تفقد الكثير من عفويّتها فتطغى عليها مقتضيات المأسسة ، ويصف عبد المجيد الشرفي هذا التغيّر وصفا دقيقا بقوله " وفي هذا الانتقال لا مناص من فقدان المبادئ لنصيب قلّ أو كثر من طاقتها ، ومن اكتساب خصوصيات يمليها الواقع بكل مميّزاته وتشعباته وتناقضاته ، فلا عجب أن ترى تأويلا واحدا من جملة التأويلات العديدة الممكنة نظريّا أو التي وُجدت فعلا وسار فيها بعض الأشخاص أو المجموعات يتغلّب على غيره ويزيحه ويكتسب شيئا فشيئا حكم الصحّة والصواب والحقّ والبداهة لأنّه أنسب في الآن نفسه إلى ذهنيّة القوم في ذلك العصر وإلى ميزان القوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي "(28) . لقد كان وعي الأولين بأن النص القرآني ذاته هو الذي يشرّع للتأويل جليّا في عدد غير قليل من المصنّفات والمواقف والرؤى وقد جعلوا ذلك من إرادة الله ، فاكتسب التأويل عند بعضهم علاقة راسخة بالإيمان بحكم أن الإيمان يستدعي تقصي الحقيقة ، فالتأويل والإيمان والحقيقة في دائرة دلاليّة موحّدة الأبعاد ما انفكّ أحدها إلا أفضى إلى الخروج من حدود الإيمان لذلك " قال ابن دقيق العيد في الألفاظ المشكلة : إنها حقّ وصدق ، وعلى الوجه الذي أراده الله "(29). ولمّا كان الفصل بين المعنى الظاهر والمعنى الباطن هو الذي شرّع للتأويل عند كثير من الجماعات في تاريخ الفكر الإسلامي سعى الناهضون به إلى البحث في كيفيّات تأسيس الأنساق والأنظمة المشرّعة للتأويل والمبرّرة له ، فصرنا إلى توظيف من نوع آخر لمقولات اللغة وهو تقسيمها إلى عبارة وإشارة ، وهو ما عبّر عنه الجابري خطأ بالدلالة اللغويّة والدلالة الرمزيّة ، ذلك أن الرمز جزء من اللغة يتميّز بكثافته الدلاليّة ، ففيه اختصار للعناصر المتعدّدة لذلك عدّه العارفون به أسرع في الوقوع على المعنى وقد عرّفه قدامة بن جعفر بقوله " إنما يستعمل المتكلّم الرمز في كلامه في ما يريد طيّه عن كافّة الناس والإفضاء به إلى بعضهم ، فيجعل للكلمة اسما من أسماء الطير أو الوحش أو سائر الأجناس أو حرفا من حروف المعجم ، ويطلع على ذلك الوضع من يريد إفهامه ، فيكون ذلك قولا مفهوما بينهما مرموزا عن غيرهما " (30). وعلى الاختلاف اللغوي الذي نلحظه في تعريف كلّ من الرمز والإشارة فإنهما متماهيان في نُظم الاستخدام ، فالإشارة هي" أن يكون اللفظ القليل مشتملا على معان كثيرة بإيماء إليها أو لمحة تدل عليها "(31) ويؤصل ابن رشيق جوهر الدلالة الإشارية / الرمزية بجعلها مفارقة لسطح الخطاب وبجعل معناها بعيدا من ظاهر اللفظ(32 ) ، وقد تواتر في عدد من المصنّفات التراثية اعتبار الإشارة أنفذ في الدلالة من العبارة متى ما قام الخطاب على مواضعة مبدئيّة بين المتكلم والسامع يتم في ضوئها تفكيك المضمون لذلك قيل " ربّ إشارة أبلغ من عبارة "(33)ولا خلاف بين التراثيين في اعتبارها من البيان. ولما تأصل في العرف اللغوي أن الرمز / الإشارة من الآليات التي تسير ظاهرة اللغة في كليّتها حدثت نقلة مرجعيّة في التعامل مع النص القرآني ، إذ اعتبر بعض المهتمّين بتأويله أنه لا يخلو من الرموز والإشارات ، يقول قدامة في بيان ذلك " وفي القرآن من الرموز أشياء عظيمة القدر جليلة الخطر ، وقد تضمنت علم ما يكون " (34)، وهو ما يؤسس لقراءة مغايرة للنص تقوم على تجاوز الظاهر إلى الباطن للكشف عن خفاياه وسبر الدلالة فيه ، وقد يكون رأي قدامة واهيا من جهة عدم مراعاته لحقيقة النص ـ وهو رأي ذهب إليه بعض الأصوليين والمتكلّمين ـ ولكن في المقابل ليس هناك في أنظمة اللغة وقوانينها ما يفنّده . هكذا أسعفت اللغة الباحثين عن المعاني الباطنة بمشروعيّة البحث عن المعاني الكامنة وراء الظاهر ، ووجدت الدعوة إلى قراءة النص من خلال الإشارة صدى لدى العديد من الأشخاص والجماعات، فتأسس تبعا لذلك ركن هام في تاريخ مأسسة التأويل ، وهو ما يمكن الاصطلاح عليه بـ" القراءة الإشارية / الرمزيّة " ، واحتفى الباطنيون أيّما احتفاء بهذه القراءة المحدثة وطربوا للإشارة أيما طرب ، ففُتنوا بها وفتنوا ، وتأخرت العبارة في سلّم الدلالة حتى أصبحت عند البعض قاصرة عن الإبلاغ ، يقول الحلاج " من لم يقف على إشاراتنا لم تفده عباراتنا "(35) . وأصبح الابتعاد عـن حدود العبارة دليلا عند البعض عــلى بلوغ الحقيقة ، فليس المعنى الظاهر إلا حــجابا يخفي الحقيقة ، لذلك وجب هتكه وتخطّيه " وكلّـــما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة "(36) ،وتأسست بالاستتباع لذلك ثنائية مفهوميّة في تاريخ التأويل وفي تاريخ الفكر الإسلامي عامة وهي ثنائية الحقيقة والشريعة ، ويمكن اعتبار ذلك قطيعة نهائية بين المرجعيات المهتمّة بالتأويل، فالشريعة لا ترقى إلى درجة الحقيقة في نظر الباطنيين لذلك صرفوها إلى العامة فيما استأثروا بالحقيقة أي بالكشف اللدني، فأجاز بعضهم لأنفسهم الكفّ عن أداء الشعائر ، يقول الحلاج واصفا أهميّة الانتقال من طور الشريعة إلى طور الحقيقة ، " اعلم أن المرء قائم على بساط الشريعة ما لم يصل إلى مواقف التوحيد ، فإذا وصل إليها سقطت من عينه الشريعة ، واشتغل باللوائح الطالعة من معدن الصدق " (37). إن الانتقال من الحقيقة إلى المجاز ومن المعنى الظاهر إلى المعنى الباطن تم في جهاز اللغة وفق نسق مضبوط شرّعته الآليات اللغوية ذاتها ، وقد مثل الدليل فيه منطلق التأويل ثم ما لبث أن أصبح موسوما بالعطالة أمام" الاكتشافات" الدلاليّة الحافّة في النص ، هذه الاكتشافات استمرّت بشكل تصاعدي في تاريخ التأويل بحكم أنّ اللغة قد أفسحت مجال النظر والتبصر أمام الراغبين في بلوغ الحقيقة ـ حقيقتهم بالطبع ـ وقد وسم ابن عربي هذه الخاصيّة اللغوية وسما بليغا بقوله " الفيض الإلهي دائم ، والمبشرات ماسُدّ بابها "(38) مشيرا إلى تجدد المعاني تجددا دائما ، وأفضت هذه الاكتشافات الدلاليّة في نهاية الأمر إلى إدانة الكلام واتهامه بالعجز عن قول الحقيقة لذلك أعلن " أهل العرفان " كفهم عن إتيان اللغة كما ذهب إلى ذلك الجامي بقوله " بما أن وجه المقصود مستور بنقاب الكلام فالأولى بنا الصمت عن الكلام والاستماع "(39) . إن اللغة ولئن كانت تبرر الانتقال من الحقيقة إلى المجاز ومن المعنى الظاهر إلى المعنى الباطن فإنها لا تبرر بحال الانتقال من الشريعة إلى الحقيقة الذي أملته دواع ميتالغوية كان ديدنها الرئيسي التأسيس المعرفي والمرجعي للوجود المستقلّ ، بهذا المعنى سعت كل جماعة إلى إعلان نفسها وتثبيت كيانها في مواجهة الجماعات والفرق الأخرى فتجلّت والحال تلك مقتضيات العمران في علاقتها بالـتأويل . 3/ التأويل ومقتضيات العمران . لئن أسست اللغة التأويل فإنها ليست مسؤولة عن كيفية توظيفه وطرق استفادة الأشخاص والجماعات منه ، فذلك يتجاوز حدودها لذلك نهتم بالضغوط التي حفت بالتأويل والمؤولين في تعاملهم مع النص المقدس . إن التأويل الصميم هو الذي ينطلق من النص ليؤسس نسقا فكريّا لا يقطع مع شروط الاستعمال اللغوي ، أما " التأويل " الذي ينطلق من مواقف ايديولوجية أو سياسية للبحث في النص عما يؤيّده فهو بالتأكيد مشوّه لا يستهدف بلوغ الحقيقة في جوهرها ، إنها القراءة التي لا تراعي خصوصية النص بنية ومضمونا فتفرض عليه محمولات دلاليّة أنأى ما يكون عنها وتستنطقه استنطاقا قسريّا بهدف حمله حملا على تأييد بعض المواقف وتزكيتها ، وهي تنطلق من النتائج بحثا عن المسوغات والمبررات ، فـ"طبيعة الأسئلة تحدد للقراءة آليّاتها "(40) ، وهي انعكاس فعلي لشروط العمران المتغيّرة من طور إلى آخر في حياة الجماعات والدول ، وقد وصف ابن خلدون هذه النظريّة وصفا دقيقا بقوله " اعلم أن الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متجرّدة ويكتسب القائمون بها في كل طور خلقا من أحوال ذلك الطور لا يكون مثله في الطور الآخر لأن الخلق تابع بالطبع لمزاج الحال الذي هو فيه "(41) . وعلى ضوء هذه المقاربة لا يمكن عمليّا ـ بحكم سنّة التبدل من طور إلى آخرـ تثبيت فهم واحد للنص المؤوّّل ، لأن المشغل الديني في بعض ملامحه إجابة ثقافيّة عن مجموعة من الأسئلة المرتهنة بعصرها، فكلّما انفتحت الأسئلة عن مشاغل جديدة اتسعت الأجوبة لتستوعب أشكالا من الفهم لم تكن موجودة . وهذا ما يفسر لنا علاقة التأويل بالحياة السياسية في التاريخ الإسلامي منذ بدء التململ من سياسة عثمان بن عفّان ، فقد تمّ الالتجاء إلى القرآن لشرعنة الثورة عليه فمما جاء في رسالة أهل مصر الذين ساروا إليه " فاعلم"( إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )"(42) ، وبدأ الاحتجاج بالقرآن منذئذ يأخذ بعدا تبريريا في كل تحرّك سياسي وترسخ ذلك الوعي الجمعي شيئا فشيئا ، ثم سادت هذه النزعة في الصراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فظهر ما يمكن تسميته بـ"أنسقة التأويل " إذ قامت كل جماعة ببناء نظام تأويلي خاص بها ترد من خلاله على الفرق الأخرى التي تنازعها ، وأصبح التأويل محكوما بالانتقائية ، فكل جماعة تنتقي من القرآن ما تراه مؤيدا لموقفها وتتغافل عمّا لا يؤيدها ، كما ظهر ضرب من التأويل يحايث مقام التخاطب بالاحتجاج بآية أو آيات تنطبق على مقتضى الحال (43 ) ، وأصبح التأويل فيصلا في جل الأحداث السياسية ، فكل جماعة تستند إلى القرآن لتشرع لنفسها ما تقوم به ، وإن كان الأمر في معظم الأحيان لا يعدو أن يكون إسقاطا على النص وتحيّلا على عقول العوام بهدف التعبئة الجماهيرية ، وأخذ التأويل " يوسع النص بصورة تجعل القارئ يقرأ فيه كل ما أراد أن يقرأه "( 44) .، وانقسم الناس بحسب التصنيف السياسي الثنائي إلى موال للسلطة وعدوّ لها ، وكلا القسمين يتذرّع بما يراه مساندا له في القرآن ، وعمّقت الدولة السلطانيّة التي تشكلت منذ عهد معاوية هذا الانقسام بإعلانها الحرب على كل مخالف ، وكانت الدولة السلطانيّة في جل فتراتها التاريخيّة " معزولة عمليّا ومرفوضة ذهنيّا حيث كان الجميع ينتظر بزوغ الخلافة ، أي الدولة الفضلى".(45 ) وتطور تأثير عوامل العمران المستجدة في التأويل ، وتعدت القضية حدود الصراع السياسي ، فانخرط الفقهاء والمتكلمون والفلاسفة في لعبة التأويل الذي انسحب على مسائل عقدية جوهريّة حددت المواقف من مسألة الإيمان ذاتها ، من ذلك ما تعرض إليه الإمام أحمد بن حنبل على يد المعتصم على خلفيّة موقفه من قضية خلق القرآن . إن توسع حدود التأويل وانسحابه على قضايا فكريّة نتاج فعلي للبيئة المعرفيّة المستجدة بعد دخول الشعوب الأخرى في الإسلام ، وما حملته من قيم معرفية فكريّة مستحدثة وخاصة تلك التي اتصلت بالتيارات العرفانيّة التي اكتسحت الفكر الإسلامي ، وأصبحت آلية مسيرة لقطاع ثقافي معرفي هام ، ووجدت بعض المرجعيات الفقهيّة في نظريّة المؤامرة وسيلة مثلى لبيان أحقيّتها بالتأويل انطلاقا من اتهام المرجعيات الأخرى ، بيّن السفاريني ذلك بقوله: " قال العلماء إن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى ...طلب منه خزانة كتب اليونان وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليها أحد فجمع الملك خـواصّه من ذوي الرأي واستشــارهم في ذلك فكلّهم أشاروا بعدم تجهيزها إلا مطران واحد فإنه قال جـهزها إليهم فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعيّة إلا أفسدتها وأوقعت بين علمائها " (46 ) . واكتسب التأويل مع شيوع المصنفات الصوفيّة والإسماعيلية أبعادا جديدة ضاعفت من غربته عن النص وعكست حدّة الأزمة التي اجتاحت المشهد الفكري الإسلامي ، فالنصوص التي ألفها"المؤولون" مفارقة كليّا للمرجعية الإيمانيّة كما تحددت في النص القرآني والسنة النبويّة ، بل كانت في بعض وجوهها ترديدا لمقالات عرفتها الديانات التي سبقت الإسلام وصدى لهرطقات متداخلة المنطلقات ، ويُعد كتاب " أساس التأويل "(47) للقاضي النعمان نموذجا صريحا لذلك فقد أغرق صاحبه في تحميل الآيات القرآنيّة ما لا تحتمل ، وأقام معاني لا تدعمها دلالة الألفاظ وقواعد التفسير وشواهد الأحداث، يقــول في تـأويل الآية " يا أيها النبيّ إنا أرسـلناك مبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا " ( 48) عنى به الناطق وهو الرسول في عصره وإمام كل زمان من بعده يكون في تلك المرتبة شاهدا على أهل زمانه ، والمبشر الأساسي في عصر الرسول والحجة في عصر الإمام في تلك المرتبة يبشر من استجاب لدعوته وقبل تأويله واهتدى بها ... والنذير اللاحق من الحجج في كل جزيرة كل واحد منهم في هذه المرتبة ينذر أهل جزيرته بمن يقيمه فيها من الدعاة من عذاب الله ... والداعي هو الذي يطلق له الدعوة صاحب كل جزيرة ... والسراج المنير هو المأذون الذي يطلقه الداعي ليكسر له من يرى كسره "( 49) . ولئن كان القول بمجانبة هذا التأويل لدلالة الآية مما لا يحتاج إلى مدافعة ، فإنه يعكس أثر العمران في توجيه التأويل ، فما كتبه القاضي النعمان صدى للثقافة التي كانت سائدة في جزء من العالم الإسلامي، وقد انصهرت فيها عوامل عديدة أفضت إلى ظهور مثل هذه المقاربات . إن التأويل في ارتباطه بشروط العمران قراءة جمعيّة لفرقة ما أو لجماعة ما تريد ترسيخ قدمها سياسيا وثقافيّا ولم تجد أفضل من المدخل الديني لتحقيق ذلك ، وهي في بعض وجوهها قراءة منفعلة سعت إلى تحدّي السلطة لقائمة ، فاستدعت مرجعيّات غير إسلاميّة وأقحمتها في ثنايا الفكر الإسلامي عنوة ومغالبة . _____________________ الهوامش : 1 ـ انظر تعريف الخطاب : محمد عابد الجابري ، الخطاب العربي المعاصر ،مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، ط 6 ،ص 12. 2 ـ انظر لفهم العلاقة بين التصوّر والاعتقاد ، ابن ميمون : دلالة الحائرين ،مكتبة الثقافة الدينية، ص115 وما بعدها. 3 ـ يعتبر كتاب المقدمة لابن خلدون المرجع الرئيس في الفكر الإسلامي في بيان أثر العمران في بنية الفكر . 4- ricoeur (paul): (1986): logique hermeneutique ;p213,in G . Floistad ,ed,temporary philosophy,I,philosophyof language ,La Haye,Nijhoff. 5 ـ فخر الدين الرازي : مفاتيح الغيب ، المطبعة البهيّة المصريّة ، 1938 ، ج1ص 25 . 6 ـ الآمدي : الأحكام في أصول الأحكام ، دار الكـتب العلميّة ، الطبعة الأولى ، 1985، ج1 ص 18، و ابن سينا : النجاة في الحكمة المنطقيةوالطبيعيّة ، تحقيق محي الدين صبري الكردي ، 1938 ، ص ـ ص :5 ـ 6 . 7 ـ السكاكي : مفتاح العلوم ،القاهرة ، 1937 ، ص 170 . 8 ـ عبد القاهر الجرجاني : أسرار البلاغة ، دار المعرفة ، بيروت ، ص 303 . 9 ـ ابن خلدون : المقدمة ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، ص ـ ص : 379ـ 380 . 10 ـ الآمدي ، نفسه ، ص 27 . 11 ـ الآمدي ، نفسه ، ص 28 . 12 ـ ابن سينا : الإشارات والتنبيهات ، نشر سليمان دنيا ، القاهرة ، ج 1 ص 27 . 13 ـ المصدر نفسه ، الصفحة نفسها . 14 ـ المصدر نفسه ، الصفحة نفسها . 15 ـ إخوان الصفاء : الرسائل ، بيروت، 1957 ، ج 3 ص 10 . 16 ـ التوحيدي وابن مسكويه : الهوامل والشوامل ص8 ، نشره أحمد أمين والسيّد أحمد صفر، القاهرة 1951 . 17 ـ التوحيدي : الإمتاع والمؤانسة ج1 ، ص 109 ، تصحيح أحمد أمين وأحمد الزين ، المكتبة العصريّة ، بيروت 1953. 18 ـ انظر : أبـو الفضل جمال الدين : لســان العرب ، دار صادر بيروت ، 1956 ، ج11 ،ص33. والفيروز أبادي : القاموس المحيط ، تحقيق الشيخ مجد الدين الشيرازي ، المطبعة الكستليّة ، القاهرة ، 1281 هـ ، الجزء الثاني ، باب اللام ، ص 356 . والزنجاني : محمود بن أحمد، تهذيب الصحاح ، تحقيق عبد السلام هارون وأحمد عبد الغفور عطار ، دار المعارف بمصر ، 1371 هـ ، القسم الثاني ، ص 626 .والسكاكي : إرشاد الفحول ، ص 176 . 19 ـ الغزالي : المستصفى ، ج 1 ، ص : 387 ، المكتبة التجاريّة الكبرى بمصر ، 1937 . الآمدي : الأحكام ، ج 2 ، ص : 135 . 20 ـ عبد القاهر الجرجاني : دلائل الإعجاز : دار المعـــرفة ، بيروت ، 1978 ، ص ـ ص : 202 ـ203 . 21 ـ لقمان : 20 / الأنعام : 120 / الحديد : 3 . 22 –Wittengenstein L.(1953), philosophical investegationes , translated by G.E.M .Anscombe ,blackcwellOxford,England,p7. 23 ـ H.G.Gadamer,wahrheitundmethode,p419, نقلا عن المبروك المنصوري : الإسلام في بلاد المغرب من الفتح إلى موفّى القرن السادس الهجري : دراسة في التشكل والانتشار والسيادة والاستمرار من خلال الفكر الأباضي والمالكي والاسماعيلي والظاهري والتومرتي ،ص 5( شهادة الدكتوراه ، مرقونة بكلية الآداب بمنوبة ، 2004 ). 24ـ محمد عابد الجابري : بنية العقل العربي ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 2004 ، ط7 ، ص 272 . 25 ـ ابن رشيق : ـ : العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده ، تحقيق صلاح الدين الهواري وهدى عودة ، بيروت دار ومكتبة الهلال ، ط1 ، 1996، ص112 . 26ـ Friedrich Shleirmacher,hermeneutique,trad.et intro.de Mariam Simon,laboret fides,1987,p 77 . 27 ـ الإمـام الجويني : البرهان ، تحقيق ، صـلاح محمد عويضة ، دهر الكتب العلميّة ، ط1، ص 231. 28 ـ عبد المجيد الشرفي : الإسلام بين الرسالة والتاريخ ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت ، الطبعة الأولى ، 2001 . 29 ـ محمد بن علي بن محمد الشوكاني : إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول ، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع [ د.ت] ص 176 . 30 ـ قدامة بن جعفر : نقد النثر ، بيروت ، دار الكتب العلمية [د .ت] ، ص 61 . 31 ـ قدامة بن جعفر : نقد الشعر ، تحقيق كمال مصطفى ، القاهرة ، مكتبة الخانجي ، ص 90 . 32 ـ ابن رشيق : العمدة ، ص 206 .<
15-04-2008 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=569 |