/
رؤى في الكلام الجديد: عبد الكريم سروش نموذجاً
عبد الله إدالكوس
مدخل يرى العديد من الدارسين أن علم الكلام أو علم أصول الدين أو علم التوحيد..إلخ، تولد في فضاء الإستفهامات التي طرحتها مدلولات بعض الآيات القرآنية المتشابهة خصوصا منها المرتبطة بقضايا الذات الإلهية والصفات والقضاء والقدر...إلخ، وقد ازدادت هذه الإشكالات حدة من ناحيتي الكم و الكيف عبر المحطات التي شكلتها الأحداث التاريخية والسياسية التي عرفتها الحضارة الإسلامية، كمسألة الإمامة و الخلافة التي برزت عقب وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم اتساع مساحة الإسلام و الاحتكاك الذي تولد عنه بين الحضارة الإسلامية والحضارات المجاورة وتفاعل العقل الإسلامي بالمنتج المعرفي اليوناني بالخصوص. فهذه عوامل تضاف إلى أخرى ساهمت بشكل جلي في صياغة العديد من الأسئلة الكلامية والفلسفية ضمن المنظومة المعرفية الإسلامية تجسدت في بروز مدارس كلامية ومذاهب في العقيدة، بعضها انبهر بالآلية العقلية التي يوفرها المنطق الأرسطي و البعض الآخر رفضه كما رفض الوافد المعرفي اليوناني عامة، فتطور الجدال و السجال بين هذه الأطراف، كل يدافع عن مذهبه، وتوسعت القضايا وازدادت تشعبا وتفريعا حتى فقد علم الكلام حيويته وفاعليته واختزل في مقولات يكتنفها الغموض و التعقيد و التفريع و الحشو، فتحول بذلك إلى" مجرد ترف فكري لا فائدة منه ولم تستسغه النخب الجديدة حيث لم يعد قادرا على معالجة الإشكالات المعرفية الحديثة فضلا عن المشاغل الروحية للمسلم المعاصر، فبرزت بذلك محاولات جديدة لإعادة إحياء هذا الفكر في قالب جديد ، و البحث عن عصر ذهبي للثقافة الإسلامية بعد أفول شمعتها الأولى"(1). وقد تجسدت هذه المحاولات في برامج العديد من المؤسسات البحثية و المراكز العلمية وفي كتابات عدد غير يسير من الباحثين و الأكاديميين، محاولات تروم في مجملها تحديث المنظومة المعرفية الإسلامية و الاستفادة من المنجز المعرفي المعاصر وتجاوز النمط القديم في التفكير الكلامي . في هذا السياق المعرفي الجديد تبرز إسهامات الدكتور عبد الكريم سروش ، فالمتن الفكري الذي يحمله هذا الرجل مليء بقضايا وإشكالات تغتني بها المعرفة الكلامية الجديدة خاصة و الدينية عامة، وسنحاول في الأسطر القليلة المقبلة عرض و مناقشة هذه القضية- تجديد علم الكلام وإسهامات سروش في ذلك- عبر نقطتين أساسيتين :الأولى في الحاجة إلى تجديد علم الكلام و الثانية في السيرة الفكرية للدكتور عبد الكريم سروش و إسهاماته في هذا المجال على أن ما سنشير إليه لا يغني عن مراجعة ما كتبه و أبدعه رواد هذا الفن وحسبي في ذلك إيماءة تتغيى التعريف بنماذج فكرية وازنة من قبيل الدكتور عبد الكريم سروش. الحاجة إلى تجديد علم الكلام أشرنا سابقا إلى أن علم الكلامي لم تعد له تلك القدرة المبدعة التي كان يتمتع بها في القرون الأولى ،فهو عاجز عن تغطية الحاجات الفكرية و النفسية للمسلم المعاصر، وهذا تقرير يكاد يجمع عليه الباحثون و الدارسون للفكر الإسلامي ،ويرجع عبد الجبار الرفاعي – وهو أحد أبرز المشتغلين بقضايا تجديد علم الكلام – مناشئ عجز علم الكلام التقليدي عن الوفاء بهذه الحاجيات إلى عوامل منها : 1- هيمنة المنطق الأرسطي في الاستدلال على قضايا العقيدة . 2- طغيان النزعة التجريدية أو الفصام بين النظر والعمل. 3- تفريغ علم الكلام من محتواه الاجتماعي . 4- تراجع دور العقل وشيوع التقليد.(2) فهذه عوامل تضافرت لتساهم بنحو مركب في ضمور سؤال الإبداع وخلق المعنى و الحيوية الفكرية في الكلام الكلاسيكي ، مما يسوغ تولد أصوات تدفع بتجديد علم الكلام، ليس بمجرد إلحاق مسائل جديدة به، بل بمراجعة شاملة لعلم الكلام في مستوياته الثلاثة : الأهداف و الموضوع و المنهج. فمجال التجديد في علم الكلام يشمل" تحديات جديدة لم تكن موجودة في القرون الإسلامية الأولى ، من مثل نهوض "الآخر" وتراجع عالم الإسلام ..ومن مثل صعود الفلسفات المادية و الوضعية وثقافة الحداثة وتفكيك وعدمية ما بعد الحداثة..ومن مثل "التخلف الذاتي" الموروث عن حقب التراجع الحضاري في مسيرة الأمة الإسلامية، وكذلك التجديد في المناهج استفادة مما تحقق من التراكم المعرفي في هذا الميدان..و أيضا في لغة الخطاب و أساليب التأليف ومنطق الترتيب للأبواب و المسائل والمقالات، فلابد- يقول محمد عمارة- من تحلي علم الكلام الجديد بالبلاغة التي تراعي مقتضى حال العقل المعاصر، إن في الموضوعات أو أساليب التعبير و الخطاب أو هندسة البناء المفاهيمي و المعرفي لأدبيات هذا الطور الجديد لعلم الكلام".(3) . ويرى الرفاعي أن التجديد إذا طال الأبعاد السالفة الذكر-الأهداف والموضوع و المنهج- فإننا " سنشهد ميلاد علم جديد مغاير تماما لسلفه،لأن أبعاد كل علم تشكل نسيجا متكاملا فيما بينها ويوحدها التأثير المتبادل ،أي أن أي تحول في أحدهما يستتبعه تحول في سائر الأبعاد، وهذا يعني تخلخل المنظومة السابقة للعلم،وحدوث منظومة بديلة يأخذ فيها كل بعد من أبعاد العلم موقعه الملائم ويعاد نظم المسائل في إطار يتسق و التحولات الجديدة في المسائل و الغايات و الموضوع و المنهج و اللغة و المباني ، ومعنى ذلك تجديد "الهندسة المعرفية لعلم الكلام"(4). إن هذا التحديث لا يمكن تحققه دون الاستفادة و التفاعل مع التحولات التي شهدها العالم خلال القرون الأخيرة على المستوى السياسي و الاقتصادي و الفلسفي و العلمي و التدفق الهائل للنظريات العلمية و الفلسفية التي تزخر بها حقول المعرفة المعاصرة و الإيمان بتاريخانية المعرفة البشرية ونسبيتها. هذه إذن هي الخطوط العريضة لمفهوم التجديد في علم الكلام، وتبقى إشكالية التأسيس تاريخيا لهذا النمط من المعرفة من القضايا المختلف فيها بين الدارسين على اعتبار أن تجديد علم الكلام هو" مشروع تضافرت في احتضانه وتطويره مبادرات وجهود معرفية وعلمية أسهم فيها رجال كثيرون من أعلام المسلمين في العصر الحديث ، وإن كان دور الريادة يبقى نصيب عدد محدود منهم ،ويعد العالم الهندي شبلي النعماني (1332هج) من أوائل من نحث مصطلح علم الكلام الجديد كعنوان لكتابه الذي نقله إلى الفارسية محمد ثقي فخر داعي كيلاني وطبعه في طهران سنة 1950 بنفس العنوان"(5).لكن هذا لا يعني أنه المؤسس للتفكير الجديد في علم الكلام، بل هو واحد من الرواد الذين تشكل عندهم وعي بضرورة تحديث المنظومة الدينية بشكل عام و الكلامية بشكل أخص، أمثال الشيخ جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد إقبال وحمد جواد البلاغي ومحمد الطاهر بن عاشور...وغيرهم كثير، فكل واحد من هؤلاء يشكل مدرسة قائمة بذاتها في التفكير الإسلامي الجديد ، غير أنه يمكن أن نصنفهم ضمن ثلاثة أزمنة للاتجاهات الجديدة في علم الكلام: الزمن الأول : يتمثل بتأسيس المعتقد على العقل و العلم،كما في آثار الأفغاني وتلميذه محمد عبده ومحمد فريد وجدي وحسين الجسر وهبة الدين الشهرستاني وغيرهم. الزمن الثاني: يتمثل بالتأسيس الفلسفي لعلم الكلام مثلما نلحظ في آثار محمد إقبال و الظاهرة القرآنية لمالك بن نبي ،ومحمد عبد الله دراز و العلامة الطباطبائي. الزمن الثالث: يتمثل في التأسيس المنهجي لعلم الكلام كما في الأسس المنطقية للاستقراء عند محمد باقر الصدر. وقد حصل في مرحلة لاحقة انفتاح على مناهج متنوعة في البحث الكلامي ،حيث استعان البعض بفلسفة العلم المعاصر في أوربا وعمل على توظيف معطياتها في تحليل المعرفة الدينية، وتأكيد تاريخية هذه المعرفة فيما استعان آخرون بالهيرمنيوطيقا " تفسير النصوص" و السيمياء "علم الدلالة" في تفسير النصوص وتأويل مدلولاتها، واستعار فريق ثالث مناهج ومعطيات متنوعة من العلوم الإنسانية الغربية و الإلهيات المسيحية ودشنها بمجموعها في تفسير النصوص وتحليل التجربة الإيمانية و المعرفة الدينية(6). أمثال محمد مجتهد شبستري ومصطفى ملكيان و أحد فرامز قراملكي وحسن حنفي ومحمد أركون و محمد شحرور ومحمد أبو القاسم حاج حمد وعبد المجدي الشرفي وعبد الكريم سروش، وهذا الأخير يعد من بين أكثر المفكرين جدلا في الوسط الإيراني خاصة و الإسلامي عامة ، فقد أثارات كتاباته نقاشا مستفيضا في صفوف المثقفين و الطلبة الجامعيين في الساحة داخل إيران وخارجها، ولهذا السبب ارتأينا أن نقف عند الخطوط العريضة لمشروعه الفكري و أبرز الردود التي أثارها. عبد الكريم سروش : ملامح التكامل في تكوين المثقف المعاصر عبد الكريم سروش هو الاسم المستعار لحسن حاج فرج الدباغ، من كبار المثقفين الإيرانيين الدينيين المعاصرين ، من مواليد طهران سنة1945، درس بالمدرسة الثانوية(الرفاه) وهي من المدارس التي كانت تحرص على الجمع في مناهجها بين الدروس الدينية وبين المواد العلمية المعاصرة، التحق بجامعة لندن في فرع الكيمياء وحصل على الدكتوراه، وكان إضافة لتخصصه في الكيمياء والصيدلة متبحرا في فلسفة العلم مطلعا على معطيات أحدث تياراتها النقدية الحديثة وتراث المدرسة الوضعية. كان سروش قريبا من علي شريعتي ومرتضى مطهري ، وهما وجهان محوريان في فترة ما قبل الثورة في إيران ،وبعدها عاد إلى بلده وشغل مناصب عليا في الدولة و أخرى بحثية أهمها مؤسسة الأبحاث و الدراسات الثقافية . ظهر سروش منذ أوائل الثمانينيات كواحد من الكتاب غزيري الإنتاج في إيران،وعالجت كتاباته الأولى النظريات الماركسية وموضوعات فلسفة العلم، ومن أهم أعماله البارزة في تلك الفترة كتاب "المعرفة و القيمة" و كتاب " ماهو العلم؟ ماهي الفلسفة؟" إضافة إلى دراسة نقدية لكتاب الشهيد الصدر "الأسس المنطقية للاستقراء" نقلت على العربية ضمن كتاب السيد عمار أبو رغيف بعنوان "الأسس المنطقية للاستقراء في ضوء دراسة الدكتور سروش" سنة1989، وهي السنة التي بدأ فيها سروش بنشر مقالات القبض و البسط النظري للشريعة(7)،وقد أثارت جدلا واسعا ونقاشا حادا بين المؤيدين و المعارضين، فجمعت بعد ذلك في كتاب حمل نفس العنوان "القبض و البسط في الشريعة" ونقل إلى العربية ، فليس من قبيل الصدفة أن يؤلف في إيران وحدها ثلاثون كتابا لمناقشة آراء سروش،عشرون منها تتفق معه ونؤازره و العشرة الأخرى تقف بالضد من تلك الآراء و الطروحات(8) وميزة الدكتور عبد الكريم سروش أنه مفكر تكونت ثقافته ومنهجيته في البحث من أبعاد علمية متعددة فهو صاحب اختصاص في الصيدلة و الكيمياء وهو متابع لأحدث الدراسات الغربية في التاريخ وفلسفة العلوم و علم المعرفة (الإبستمولوجية)،وهو إضافة إلى ذلك ناشط ثقافي وسياسي ومتبحر في علم الكلام و التفسير و أصول الفقه ومتذوق لأدبيات العرفان ولعل ذلك ما دفعه إلى استمداد مفهومي "القبض" و "البسط" من الحقل الصوفي كعنوان لنظريته، ساعيا في ذلك إلى إبراز خاصية التحول و التغير التي تميز المعرفة البشرية ومن ضمنها المعرفة الدينية، "على أن هذه العناصر التكوينية لثقافة سروش و التي تبدو جلية في كتاباته عبر الاستشهاد و التوثيق والإشارة لا تصطف اصطفافا كميا بل تتداخل و تتفاعل في نوع من الوحدة المعرفية التي تتحول بفعل تداخلها العميق إلى منهج معرفي متكامل"(9). وهي عناصر قل ما نجدها في الباحث و المثقف المعاصر، وربما يكون هذا هو السبب الرئيس في ذيوع صيت الباحث عبد الكريم سروش أكثر من أقرانه المفكرين عربا و إيرانيين ، وهو إلى جانب ما ذكرنا " اتخذ لبسط هذا العمق المعرفي مسارب أوحت أن الرجل مستعد للدفاع عنها و إغنائها حوارا و بحثا وسجالا مع آخرين"(10) نظرية سروش بين القبض والبسط يسعى الدكتور عبد الكريم سروش في القبض و البسط على تقديم "مشروع نظرية تفسيرية(هرمنيوطيقية) معرفية(ابستمولوجية) تستلهم المنهج الكانطي في التميز معرفيا بين الشيء لذاته و الشيء لذاتنا، فتميز بين الدين و الفكر الديني أو المعرفة الدينية التي هي قراءة للدين لتتسائل حول طبيعة العلاقة بين هذه المعرفة و المعارف البشرية الأخرى كما تفترض أن الدين تابت بينما المعرفة الدينية ظاهرة بشرية متغيرة ونسبية كشأن المعارف الأخرى(ويؤكد سروش على أنه يؤمن بنسبية المعرفة لا نسبية الحقيقة) فالمعرفة الدينية تتسم بالتحول و النسبية لأنها مرتبطة بألوان المعرفة الإنسانية الأخرى ومتأثرة بها "(11). على أن سروش في هذا الاستمداد من المنهج الكانطي" يصطف على جانب أركون وسبشتري فهؤلاء الثلاثة يصدرون جميعهم عن كانط لكنهم يتفرعون بعد ذلك في إثر سلاسل جينالوجية ثلاثة لكل واحدة منها تقاليدها و أنصارها وفتوحاتها و محازبوها. و الحق أن كانط كان نقطة انطلاقة لمرجعية أوسع تجمع هؤلاء الثلاثة"(12). لا يخفي سروش استفادته من نظريات فلسفية و ابستمولوجية كما عند جاستون بشلار ونظرته إلى تاريخ العلم بوصفه تاريخا للأخطاء ، و غروفيتش ونظريته حول الأطر الاجتماعية للمعرفة ، ومفهوم الباراديغم عند توماس كوين. ويكفي أن نلاحظ أن التهمة الرئيسة التي يواجهها عبد الكريم سروش و الاتجاه الذي يمثله هي الدعوة إلى الأخذ بالمناهج العلمية الحديثة في تكوين المعرفة الدينية (مما سنبينه في مكانه). ينطلق سروش من مبدأ بشرية المعرفة الدينية فهي" بناء إنساني يتطور بالضرورة و باستمرار بحسب الفهم المتغير للعالم ،فبينما لا يتغير الدين في حد ذاته ،يتغير الفهم الإنساني له و المعرفة المرتبطة به فالمعرفة الدينية ليست إلهية من منطلق الموضوع الديني الذي تعالجه ولا يسوغ أن نخلطها و الدين في حد ذاته"(13). لأجل ذلك يسعى سروش إلى "كشف أوليات الفهم الديني وكيفيته،وتوضيح أوصاف المعرفة الدينية بالنسبة إلى سائر المعارف البشرية و تحديد العلاقات القائمة بين المعرفة الدينية و المعارف البشرية و أخيرا توضيح سر تحول المعرفة الدينية وثباتها تاريخيا"(14). وهو في ذلك يهدف إلى: أولا: محاولة وضع معنى النص الديني في أفق الفهم التاريخي المتحول. ثانيا: أنسنة الدين(بمعنى جعل الدين من أجل الإنسان لا بمعنى الأنسنة التي طرحها الفكر الأوربي) . ثالثا: فرض المعرفة الجديدة بالإنسان و المجتمع و الطبيعة على من يتصدون لصناعة المعرفة الدينية. يصرح سروش قائلا " إذا تعرضت المعارف البشرية غير الدينية للقبض و البسط فلابد أن يتعرض فهمنا للشريعة إلى القبض و البسط أيضا،أحيانا بصورة ضعيفة وخفيفة،وأحيانا بصورة شديدة وقوية"(15). للاستدلال لى ما ذهب إليه سروش سلك مسارا منهجيا عبر خطوات ابتدأها بالتميز بين نمطين أو درجتين من المعرفة:المعرفة القبلية و المعرفة البعدية، مسترشدا في ذلك بتحقيقات الفيلسوف الألماني كانط، وينظر سروش إلى المعرفة الدينية باعتبارها معرفة من الدرجة الثانية أي من موقع بعدي ،وهي معرفة جمعية ذات هوية تاريخية ولذلك فهي نسبية وعصرية. سعى سروش في خطوة ثانية إلى تصنيف العلوم إلى قسمين : علوم منتجة و أخرى مستهلكة، فالطب من العلوم المستهلكة لأنه يحتاج إلى توظيف علوم الإحياء و الكيمياء و الفيزياء ، و الفقه و التفسير في نظره من العلوم الشرعية المستهلكة أيضا. تأكيد سروش على ترسيخ مبدأ بشرية المعرفة الدينية مدخل من شأنه وضع حد للتصادم الموهوم بين هذه المعرفة وباقي المعارف العلمية و الفلسفية، على أن هذه المعارف غير الدينية هي أسئلة مرتبطة بالأفق التاريخي للإنسان و المعرفة الدينية تتضمن إجابات لها، فكلما اختلفت الأسئلة وازدادت عمقا ازدادت الحاجة إلى أجوبة أكثر عمقا، من هنا فإن أي تغير في معارف العصر العلمية و الفلسفية يستدعي تغيرا في المعرفة الدينية. يسعى سروش في خطوة أخرى إلى التميز بين الذاتي و العرضي في الشريعة وهو يرى أن الإعدادات اللغوية والثقافية و الحضارية قد ساهمت في تشكيل أعراض الدين الإسلامي كما نفهمه اليوم ، و لأنها إعدادات متغيرة من ثقافة إلى أخرى فهي ليست من ذاتيات الدين، يقول:"إن لبوس الثقافة القومية من لغة و أذواق و أساليب حياة ونقاط ضعف وقوة عقلية وخيالية وعادات وتقاليد ومألوفات ومسلمات فكرية وخزين لغوي ومفاهيمي يضيف على جسد العقيدة و الفكر ويخلع عليه نواقصه وكمالاته لا محالة، ليصل بعد ذلك إلى أن ماهو جوهري في الإسلام هو المتجاوز لكل تلكم الإعدادات المستلة من ثقافة خاصة بلحظة الوحي، وأن من شأن التأكيد على ذلك الثابت الجوهري ضمان شمولية الرسالة ومستقبليتها دون أن يعني ذلك مصادرة الأعراض و إلغائها ، لكنه يشترط إخضاعها لمجهر العلوم الإنسانية بغية فهمها واكتشاف قدرتها على الخروج من دلالتها الضيقة إلى محيط عالمي ومن ظرفها التأريخي إلى رحابة المستقبل"(16) لم تكن أطروحة عبد الكريم سروش المبثوثة في القبض و البسط وباقي دراساته بالخصوص "الذاتي و العرضي في القرآن" و "بسط التجربة النبوية" و" الصراطات المستقيمة" لتمر دون أن تخلف جدلا واسعا في الوسط الديني و الإيراني منه بالخصوص مما دفع العديد من المفكرين و الشيوخ للرد و النقد في أشكال إكتست طابعا علميا حينا وفكرانيا حينا آخر،وقد ارتأينا أن نورد بعض من هذه الردود فيما كتبه أبرز نقاده و هو الشيخ صادق لايرجاني. ما ذهب إليه سروش في نظر الشيخ الناقد هو في غالبه" تكرار لطروحات بعض فلاسفة الهرمنيوطيقا مثل غادامير الذين شددوا على فكرة أن الإنسان موجود تاريخاني و أن فهمه للامور يتكون في أفق تاريخي بشري لذلك فهو فهم ناقص وهذه أفكار كان غادامير و إلى حد ما هايدغر من أبرز من روج لها، بيد أن الدكتور سروش في نظر الناقد لا يشير أبدا إلى الذين أخد عنهم هذه الآراء وهل لديه هو ذاته آراء معينة أم لا؟"(17). ويرى لاريجاني أن هذه المسلكية التي اتبعها سروش في الاستعانة بالآليات المنهجية التي استقاها من التداول الغربي لا يمكن إسقاطها بشكل عمودي على تداول مغاير كالتداول الإسلامي . يقول: " بخصوص استخدامه- سروش- للمفاهيم و الأدوات التي يستعيرها من العلوم الإنسانية الغربية ،الكثير من النسبيين مثل غادامير يرون من المستحيل تحقق الفهم خارج إطار التقاليد، وحسب هذه الرؤية فإن صاحب القبض و البسط شاء أم أبى يتنفس داخل تقاليد أجنبية على التقاليد المحلية، مما يجعل استخدام تلك الأدوات و المفاهيم المقتبسة من العلوم الإنسانية الغربية لتوظيفها داخل التقاليد المحلية نوعا من التسطيح و السذاجة. إن تلك المفاهيم و الأدوات حين تبتسر من بيئتها تفقد معانيها ولن يكون من الممكن التوفيق بينها وبين التقاليد المحلية."(18). والناقد فيما أشار إليه،اقترب من تحقيقات المفكر المغربي طه عبد الرحمن ، حيث إن هذا الأخير نبه أنه قبل الاستعانة بالآليات النقدية المستقاة من التداول الغربي لابد أولا من ربطها بالتداول العربي الإسلامي عن طريق النقد المزدوج فتخضع هي أولا للنقد و الفحص فكل مفهوم أو آلية مهما تكن موغلة في التجريد وحاملة للقيم الأكاديمية فإنها مع ذلك تستبطن تحيزا معرفيا للنموذج الحضاري الذي صدرت في أفقه. ولعل أبرز مفهوم ضاق به صدر الناقد –لاريجاني- هو مفهوم النسبية فهو يرى فيه" مثالا لنزعة تلغي أية محاولة لإسناد أي شيء إلى الدين ومعها لا نستطيع القول إن هذه الفكرة دينية و تلك غير دينية ،ولا التصريح بما يشتمل عليه الدين الإسلامي من عقائد و أحكام ، وحينما يكون الأمر كذلك فما الفائدة أساسا من اعتناق الأديان أو بعث الأنبياء وتنزيل الكتب "(19). وخلاصة القول أنه مهما تكن المؤاخذات و النواقص التي يمكن تسجيلها على أطروحة سروش، وهذه خاصية لصيقة بالإنتاج البشري عامة وخصوصا إن كان المشروع في بداياته، إلا أنها تبقى ذات أهمية وتستحق الدراسة و البحث و التطوير بالنظر إلى جدتها وعمقها المنهجي و تماسك بناءها الفكري و المعرفي، على أن النقد و نقد النقد هو السبيل الأوحد إلى التطوير وانبعاث الفكر الجاد الذي يتغيى النهوض و الإصلاح. 1:- النيفر حميدة"النص الديني والتراث الإسلامي:قراءة نقدية"،دار الهادي الطبعة الأولى 2004 ، ص14. 2:- الرفاعي عبد الجبار،"علم الكلام الجديد وفلسفة الدين" دار الهادي الطبعة الاولى 2002 ص25. 3:- حوار مع محمد عمارة ضمن"الاجتهاد الكلامي مناهج ورؤى متنوعة" إعداد عبد الجبار الرفاعي، دار الهادي الطبعة الأولى 2002،ص 126. 4:- علم الكلام الجديد وفلسفة الدين ص 26. 5:- نفسه ص 26. 6:- نفسه صفحات:32،31،30، بتصرف. 7:- الطائي سرمد،" نظرية عبد الكريم سروش القبض و البسط النظري للشريعة بين تهمة السفسطة و هم التأسيس لخطاب إسلامي جديد" مجلة قضايا إسلامية معاصرة العدد 18/2002. أنظر أيضا : ولاء وكيلي "الحوار حول الدين و السياسة في إيران :الفكر السياسي لعبد الكريم سروش" ترجمة حسن أوريد ،نشر الفنك، ص 27. 8:- عبد الحسين أحمد، مجلة قضايا إسلامية معاصرة، السنة الثانية عشر العدد 36/35،ربيع وشتاء 2008.ص 298. 9:- كوثراني وجيه "قراءة في القبض و البسط في الشريعة لعبد الكريم سروش"نقلا عنwww.mafhoum.com موقع 10:- أحمد عبد الحسين، مرجع سابق، ص298. 11:- الطائي سرمد"مراجعات في الفكر الإسلامي المعاصر" دار الهادي الطبعة الأولى، ص 138 . 12:- أحمد البنكي،" عبد الكريم سروش في قبضه وبسطه" مجلة آوان العدد الأول نقلا عن موقع المجلة الإلكتروني 13:- ولاء وكيلي" الحوار حول الدين و السياسة في إيران" ص 30. 14:- سروش عبد الكريم " القبض و البسط في الشريعة" ترجمة دلال عباس، دار الجديد الطبعة الأولى 2002، ص 21. 15:- أحمد البنكي ، مرجع سابق 16:- أحمد عبد الحسين، مرجع سابق ص 230 17:- حوار مع لاريجاني صادق، ضمن الاجتهاد الكلامي مناهج ورؤى متنوعة في الكلام الجديد، ص 282. 18:- نفسه ص 274. 19:- نفسه ص 268
20-04-2008 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=570 |