/

 

 

العولمة أم استعمار الأرض؟

أبو يعرب المرزوقي

تمهيد:

حددت ورقة الندوة المطلوب من علاج مسألة العولمة[1]. ففصلته إلى تحرير المفهوم واستعراض الآراء السائدة ومتابعة تاريخها في الأذهان وتاريخ موضوعها في الأعيان سواء سلم الباحث بجدتهما

أو بعدم جدتهما مع الموازنة بين وجهيها الخير والشرير. وهذا من جوهر العلاج الوصفي لكل تدرج معرفي حول أي ظاهرة ومنطق المدارس التي حاولت تأويلها وتعليلها مع شيء من تاريخها الفعلي

ومحاولة ترتيب المقومات الواقعية التي مثلت موضوع التأويل والتعليل. والمعلوم أنه لا يختلف اثنان في ضرورة هذا التمشي. لكن العلاج ينبغي أن يتجاوز الوصف المجرد لما يقال في الظاهرة ولما

فيها فيطلب المبدأ العام الذي يمكن من إرجاع مقوماتها وأعراضها إلى بنية عميقة تبرز العلاقات المنطقية بينها لئلا تبدو مجرد صدف تاريخية فيكتشف منها النظام الباطن:

1-فتاريخ النظرية فيه مستويان: أ-نظرية العولمة كما تجري في الأذهان لها أو عليها ب-حول العولمة كما تجري في الأعيان عند فاعليها والمنفعلين بها.

2-وتاريخ الظاهرة فيه مستويان كذلك: أ-آثار العولمة السياسية والاقتصادية الموجب منها والسالب ب-وآثار العولمة التربوية والثقافية الموجب منها والسالب كذلك.

والمعلوم أن كلا التاريخين بمستوييه متصل بالثاني ومتفاعل معه تفاعلا قد يكون فهمُ منطقه بدايةَ الإمساك بأصل المقومات التي تتألف منها ظاهرة العولمة والأعراض التي تترتب عليها. ولن نخالف المعهود في هذا المستوى من العلاج ليس لأن ذلك هو المطلوب فحسب بل لأنه هو المدخل الذي يمهد لدراسة المسألة في مستوى ثان يمكن أن نطلق عليه اسم التأويل الفلسفي لأعماق ظاهرة العولمة أعماقها الوجودية بعد التحليل الوصفي لأعراضها:فهي عندنا بخيرها وشرها ليست إلا ظاهرةَ سطحٍ لأمر أعمق منها يوجد وراءها هو ما سنحاول تحديد طبيعته.

لذلك فلسنا ننوي إضافة مستوى ثان للعلاج لمجرد الاستطراد أو الإسهاب في القول بل لأن فهمها بمنطق المقابلة بين الخير والشر حتى وإن حدد المواقف فإنه لا يعلل أي المواقف يؤدي دور التحرير من الامبريالية وأيها يودي إلى توطيد العبودية[2] ما لم نحدد علة وجودها أولا وعلة كونها بالصفات التي هي عليها ثانيا ودلالة ذلك كله في الوجود الإنساني: لذلك كان عنوان محاولتنا خيارا تساؤليا بين تسميتين ممكنتين للظاهرة: عولمة أم استعمار الأرض.

فإذا أطلقنا على المستوى الأول من العلاج اسم العلاج التحليلي لظاهرة العولمة كما ترد في الأدبيات "السياسية-الاقتصادية" أو "الاجتماعية-الثقافية" أو فيهما معا وأطلقنا على المستوى الثاني من العلاج اسم العلاج التأويلي لما وراءها الذي تعد العولمة من مفاعيله السطحية في فلسفة التاريخ وفلسفة الدين (=كيف يتصور الإنسان نفسه وعلاقته بالمطلق؟) أصبح من البديهي أن نقدم عليهما مدخلا تمهيديا نعلل فيه التمييز بين مستويي العلاج والحاجة إلى عدم الاقتصار على أحدهما دون الآخر. ذلك أننا ما كنا لنحتاج إلى النوع الثاني من العلاج لو لم يكن مستوى الكلام الأول في العولمة يؤول في الغاية إلى طريق مسدودة ما لم نحسم مسألة مجراها ما الحتمي فيه وما الاختياري منه.

فإذا كانت العولمة مشروعا قصديا وإراديا آل مرجعها إلى الإرادي من أفعال البشر ومن ثم فهي تنتج عن صفات خلقية فيهم خيرة أو شريرة فتكفي الموازنة بين الوجهين والتسوق لنشتري ما نشتهي منها ويغدو الجميع بما لديهم فرحين. والكلام عندئذ يكون كله ذا سجل خلقي يدور حول كيفيات تنمية الوجوه الخيرة منها بتنميتها وتطويرها ومعارضة الشر فيها بأفعال من جنس الثورة الرومانسية على شرور العولمة. ومثاله دون شك الاحتجاج الموازي لقمم البلاد التي ينسب إليها شرورها (اجتماع الثمانية الكبار) على أهميته من حيث الدلالة على الوعي الخلقي لبعض أهل العصر.

أما إذا كان الغالب على العولمة هو طابع المجرى Process الحتمي فلا يكاد الاختياري فيها يذكر لم يكن للاحتجاج الخلقي عليه من سبيل فضلا عن قابلية الاحتجاج إلى الانقلاب ردَّ فعلٍ إرهابيٍ عند فراغ الصبر. وقد يبين التأويل الفلسفي أنها في غياب الفهم الاستراتيجي لكيفيات العلاج كما هي الحال عندنا نحن العرب والمسلمين[3]تبقى العولمة آلية جهنمية تسحق أصحاب المواقف الرومانسية فتؤول بهم في الغاية إلى اليأس من الفهم فضلا عن الحل ليصبحوا من القائلين ب"داوني بالتي هي الداء" كما عبر عن ذلك أبو القاسم الشابي في صرخته الشهيرة:

لا عدل إلا إذا تعادلت القوى ***** وتصادم الإرهاب بالإرهاب

فاليأس من العلاج السلمي والاحتجاج الخلقي هو الأصل الحقيقي لكل ما يوصف بالسلوك الإرهابي عند المنفعلين في التاريخ الإنساني كله تعريفا لهم من الفاعلين فيه فضلا عن سذاجة العلاج الذي من هذا الجنس. وذلك هو المعنى الرومانسي لصرخة شاعر العرب الخالد رغم ما يبدو فيها من كلام عن الإرهاب. وإن هو إلا حمم شعري. فهو لا يغوص إلى عمق الظاهرة بل يعبر عن رد الفعل العفوي عليها كما يحصل عند كل الغاضبين أو من يسمون بالمقاومين والمتصدين بما اتفق من الوسائل الموجودة فتكون النتيجة أفغنة الوطن العربي وصوملته ليصول فيه سادة الحرب من الأمراء ويجول معهم مشعوذوهم من الفقهاء.

لذلك فالسؤال يصبح في المستوى الثاني من العلاج: علامَ يدل اليأس من العلاج السلمي بالاحتجاج الخلقي على العولمة؟ ولِمَ ينقلب التعبير عن الغضب بالاحتجاج السلمي إلى رد الفعل الذي يصفه مصدرُ الداء بالإرهاب ؟ أليس ذلك دالا على عدم فهم المنطق العميق الذي يولد الظاهرات التي من جنس ما يُعتبر شرور العولمة فلا يكون إلا سلوكا عفويا احتجبت عنه عللُ الداء فغاب الدواء ؟ ومجمل القول وزبدته: أليس كلام العرب والمسلمين على العولمة كلام الشكوى دليلا على انعدام الإستراتيجية الموجبة التي تعيد إليهم الفاعلية المؤثرة قياسا على ما فعلت أوروبا مثلا فتراهم ينكصون إلى القبيلة دون القومية فضلا عما يتعالى على القوميات فيكونَ في حجم الرهانات ؟

لذلك فقد بات من الضرورى أن ننظر في الأمر من مدخل آخر يتجاوز العلاج الوصفي التقليدي. وهذا المدخل الثاني لن يكتفي بالمراجع التقليدية بل هو سيطلب الفهم من فلسفة التاريخ في علاقتها بفلسفة الدين فيعمد إلى عملية تأصيل قسمها الأول فلسفي عام والثاني قد لا يعجب أغلب المثقفين العرب وخاصة من تياسر منهم عبادةً للمساواة ثم تيامن عشقاً للحرية لأنه فلسفي خاص. إنها عملية تأصيل يُتهم العائد إلى مصادرها بالماضوية لأنها عربية إسلامية[4] رغم أن العودة إلى ما قبل ما قبلها بألفي سنة مثلا يسمى بداية النهضة الغربية وشرط كل استئناف في لحظاتها الحرجة[5]. فتصبح المسائل التي نعالجها أربعا على النحو التالي:

1-أولاها تعليل الحاجة إلى مستوى العلاج الثاني.

2- وثانيتها عرض وتحليل وصفي وجيز وذلك هو مستوى العلاج الأول.

3-وثالثتها عرض وتأويل لعلاقة المسألة بفلسفة التاريخ وفلسفة الدين عامة.

4- وأخرتها عرض وتأويل لنفس العلاقة عند العرب والمسلمين خاصة.

المسألة الأولى

تعليل الحاجة إلى مستوى العلاج الثاني

قل أن تجد ظاهرة إنسانية لا يتلازم فيها الوجهان اللذان يتجلي فيهما ازدواج الوجود الإنساني من حيث هو إنساني: تجليه من حيث هو حدث بخصائص الطبائع وتجليه من حيث هو حديث[6] بخصائص الرموز.فقد يتوالى الوجهان وقد يتساوقان في مجرى الحِدْثان[7]. لكنهما متلازمان دائما ولا ينفصلان. فما أن يحصل أحدُهما حتى نطلب الثاني. ذلك أن الإنسان يبدع الحضارة الرمزية إذ ينسج الحدثَ بهندام فني يُؤَسْطِرُهُ. وهو يصنع الحضارة المادية إذ يزرد الحديثَ بنسق علمي يُتَقْنِنُهُ. فتتساوق عنده الترجمةُ المتبادلة أو تتوالى بين الفعل المتعين في الأحداث والأفعال والوعي المتعين في الأحاديث والأقوال إلى غير غاية مادتين أحدهما للآخر وصورتين بالتناوب:وتلك هي الدورة الحضارية المبدعة لذاتها فعلاً يتوعَّى ووعياً يتفعَّل.

وهذان الوجهان هما علة ازدواج معنى "التاريخ-التأريخ" في جل اللغات كما نفعل إذ نترك الهمز للحدث أو نهمز للحديث: فهو حدث Geschichte وحديثHistorie . والعرب جمعت بينهما في أصل يوحد بينهما تسميه ديوانها أعني الأدب عامة والشعر خاصة حتى إن ابن خلدون الذي يدرك الأعماق جعله غاية نظريته التكوينية في الظاهرة العمرانية[8]. ويشترك الأمران في الحدوث أو التجدد الدائم الذي هو علة التلازم بين تجربة الحال[9] و معاناة الخيال[10]. ولولاهما لما تعالى الإنسان ليصير وجوده عين السؤال حول مراحل النزول والترحال (بداية علم التاريخ) وحول رمز المبدأ والمآل (بداية علم الأساطير)[11]. ذلك أنه ليس لأي منهما معنى بمعزل عن ضدِيدِه الذي هو في الحقيقة نَدِيدُه. فحال الحدث وخيال الحديث يتجردان فيتعاليان ليسقط المضاف إليه منهما ويبقى التفاعل بين المضاف فيهما أعني جوهر الوعي التاريخي ومادته من حيث هما أفق السؤال الوجودي الذي يعبر عن التلاحم بين المضافين: ممكنُ الإنسان ومُحاله في واقعه ومخياله حول أفق تِسْآلِهِ: وتلك هي الصلة الجوهرية بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين الصلة التي تُعد العولمةُ أحدَ أعراضها.

ومن هذا الأفق ينبغي أن تفهم العولمة إذا كنا نريد أن نكتشف علل تعثر العرب والمسلمين فيها إذا كان هذا هو القصد من إدراج المسألة بين محاور الندوة. ومعنى ذلك أن العولمة باتت الآن وقبل كل شيء-عند الجميع وليس عندنا وحدنا-توليفة تاريخية تلاحَمَ فيها معلومُ المسير ومجهولُ المصير فتقدم الافتراضيُ والرمزيُ منهما على الحقيقي والفعلي ليُخْفِيَ بما يشبه الدوار مفاعيل الاستعمار في كل الديار حيث زالت الحدود فاختلط الأهل والأغيار: مفاعيل العولمة ليست بين الدول والأمم فحسب بل هي في الدول والأمم كذلك.

وهي ليست من مجال العلاقات الدولية والأممية مقصورةً عليها بل هي تمتد من قلب أدنى جماعة محلية إلى أقصى الجماعة البشرية بل هي قد استقرت حتى في ضمائر الأفراد واستحوذت منها على الشوق والفؤاد. وهذه الخاصية التي تتميز بها الظاهرات الإنسانية هي جوهر العولمة لأن الإنسانية تبدو فيها قد بلغت تجربتُها غايةَ الكلية ومعاناتُها غايةَ العينية في كل خاصية وجزئية[12]. فبات من الواجب أن نفهم:

1- حدث العولمة ما هو وكيف حصل؟

2- وحديث العولمة ما دلالته وكيف وصل؟

كيف حصل الأول وكيف وصل الثاني بصورة عامة وعندنا خاصة لأن الشعوب لا يصنعها التاريخ بأحداثه فحسب بل هو يصنعها بأحاديثه خلال حدوث الحدث والحديث. فهل كان الحدث تحاصلا (=أي مشاركة في التحصيل) وهل كان الحديث تواصلا (=أي مشاركة في الاتصال) أم إن مجرى العولمة خلا حدوثها من التحاصل وحديثها من التواصل فانقسمت البشرية إلى من يعيشها ويعيرها من موقع الفاعل متجاهلا رؤية المنفعل ورأيه ومن يعيشها ويعيرها من موقع المنفعل متجاهلا رؤية الفاعل ورأيه ؟ وما دلالة هذا الاصطفاف في الحدث والحديث وما أثره على الحدوث ؟ هل هو منطق التاريخ الإنساني الأبدي أم هو منطق مرحلة يمكن للإنسانية أن تتجاوزها فتتصادق بالتعارف والتآنس لتتحرر من عداوة التناكر والتواحش ؟

لكن هذه الأسئلة هي المسائل التي تترتب على العلاقة بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين أعني مادة المدخل الثاني. فهذه العلاقة هي ما يفرض علينا العودة إلى ما لا يرضى عنه الكثير من النخب التي يعييها أن تفهم معنى تجدد الحضارات حدثا وحديثا كيف يتصل بالمعين الأصلي في أعماقها بدءا بلسانها وختما بأساس حصانتها الروحية(الموقف من التاريخ ومن الدين). فتسمية العولمة في الفرنسية تغلب عليها النسبة إلى العالمMondialisation أو إلى الكوكب الأرضي Globalisation وتغلب على التسمية الإنجليزية هذه النسبة الثانية لكنها جامعة بين الدلالتينGlobalization .

فتبدو التسميتان محايدتين وخاليتين من كل شحنة دالة على موقف من التاريخ وفلسفته فضلا عن علاقته بفلسفة الدين لأن أولاهما تحيل إلى مجال حصول فعل العولمة[13] (شمول مكاني) والثانية تحيل إلى نوع تصوره أو مدى العلاج النظري لكيفية تحصيله (شمول تصوري)[14] إذا أخذنا الكلمتين في المعجم الفرنسي: فتكون الأولى ذات صلة بحصيلة العلاقات بين البشر والثانية بنوع التصور والعلاج المساعدين على فهم هذه العلاقات[15]. والاسم الثاني في المعجم الانجليزي يجمع المعنيين الفرنسيين وهو المعنى السائد في الكلام على العولمة لأن الأمرين يشتركان في النسبة إلى الأفعال التي يتحقق بها هذا المجرى وإلى الأفعال التي تحللها لتفسيرها فيكون دالا على الشمولين المكاني والتصوري[16].

فتبدو التسميتان في الظاهر ذاتي إحالة موضوعية لأمر طبيعي وموضوعي هو شمول الظاهرة المكاني وأثرها فعلا وحصيلة وشمولها التصوري للفعل والحصيلة: فعل يشمل العالم والكرة الأرضية وفهم يعالجه بمنظور يشملهما. لكنهما تبطنان ما نطلب الكلام فيه وراء ما تظهرانه: طبيعة هذا الفعل وطبيعة فهمه ما جوهر مجراهما وما هما؟ ولو استعادت العرب ملكة التسمية- وبها عُرف آدم في الرمز الديني-ولو حق للعرب أن يكون لهم منظور من منطلق مخيال التسمية في لسانهم لتمت تسمية العولمة بنسبة تدل على هذا الجانب الخفي مع عدم إهمال الجوانب الظاهرة فتكون النسبة إلى المعمورة لا إلى العالم ولا إلى الكوكب الأرضي. فهي ليست نسبة متأخرة صارت مطابقة في الغاية عندما اكتملت فشملت العالم بالفعل بل هي ملازمة للتاريخ الإنساني وهي ليست نسبة بسيطة بين ظاهرتين هما العولمة ومدى امتدادها سواء سميناه العالم أو الكوكب بل هي نسبة مركبة.

إنها ليست مجرد إضافة بين أمرين هما شمول فعل الإنسان العملي والنظري من جهة والأرض من جهة ثانية بل هي علاقة متقومة بالعلاقة بين هذين الأمرين. إنها إذن تعين طبيعة هذه النسبة بين الإنسان والأرض أعني: علاقة الإنسان بالأرض هي فعله المقوم لوجوده وإذن فالاستعمار هو حد الإنسان ذاته من حيث إن كيانه المادي والروحي هما عين عمارة الأرض والعالم تصورا وانجازا وليست مجرد انتشار فعله فيهما كيفما اتفق. فحياته ذاتها تبادل طاقي مع الأرض منها يخرج وإليها يعود وبها يتقوم. ظاهرة العولمة ليست غاية استعمار الأرض بل هي جوهره حتى لو اقتصر على متر مربع منها. وأي نقطة يشغلها الإنسان تكون بداية تشمل المعمورة كلها بالقوة منذ البدء وتعمها فتشملها بالفعل في الغاية: لأن الأرض هي الرصيد الممكن.

فيكون استعمار الأرض بالمعنى القرآني[17] أو الاستعمار دون إضافة تعيين هو المعنى الذي يساعد على فهم ظاهرة العولمة ليس من حيث غاية الاستعمار فحسب بل من حيث مجراه من البداية إلى الغاية وبكل معاني الكلمة موجبها وسالبها: فالنشأة من الأرض هي علة الاستعمار فيها لأن الأرض هي معين قيام الكيان البشري عضويا ونفسيا. كلمة واحدة تفيد المضاف والمضاف إليه: الاستعمار يدل على فعل التعمير وموضوعه أعني المعمورة. أصل الظاهرة هو إذن استعمار الأرض المتدرج إلى أن يصل إلى توحيد المعمِّرين في المعمور من المعمورة حدثا وحديثا وما يتصل بهما في الحال والمخيال كما سيتبين في المستوى الثاني من العلاج: فالشمول المتدرج متناسب مع نسبة بين عدد المعمرين ومعين المعمورة[18].

فتكون التسمية العربية ألصق بطبيعة العمق الذي تعد العولمة أحد مظاهره أو مرحلة من مراحله أو شكلا من أشكاله فضلا عن كونها مستمدة من خيال التسمية في اللسان العربي التسمية التي يمكن أن ننسب استعمالها العلمي الأول إلى ابن خلدون[19]فمن الاستعمار بكل معانيه الموجبة (كما في القرآن أي مهمة الاستخلاف في الأرض) والسالبة (كما في الظاهرة المشؤومة التي تحمل هذا الإسم) اشتق الجزء الأول من موضوع علمه: علم العمران البشري (والجزء الثاني من الموضوع هو: والاجتماع الإنساني).وهذا الاستعمار بمعنييه ودون تقويمٍ تصوراتُه هي المضمون الوحيد لكل فلسفة في التاريخ تعبر عن موقف منه ومن صلته بما بعده[20].

وفلسفة التاريخ سواء أخذناها بمعناها المثالي (كما صاغها هيجل مثلا) أو المادي (كما صاغها ماركس مثلا)ليست إلا موقفا من فلسفة الدين في تأويلها لاستعمار الأرض موقفا مترددا بين الإيجاب (تفسر التاريخ بمعتقداته عند هيجل) والسلب (تفسر التاريخ بنفي معتقداته عند ماركس). فكلا الرجلين تعود فلسفته التاريخية إلى محاولة إثبات قضية واحدة يمكن أن نرد إليها جل تفسيرات ظاهرة العولمة في الفكر الغربي المعاصر: تاريخ الإنسانية ذاهب إلى غاية واحدة هي وحدة الإنسانية في المعمورة إما بفاعلية يغلب عليها النظر والثقافة أو بفاعلية يغلب عليها العمل والاقتصاد وهي في الحقيقة بجدلية بينهما مع تقديم وتأخير للأفعل من العاملين بحسب الموقفين. وكل ذلك محكوم بتلك النسبة الفعلية والذهنية بين السكان والموارد[21].

ذلك أن التفسير المقترح يؤول إما إلى فرضية تقول ببلوغ الروحانية الجدلية إلى العلم المطلق (هيجل) أو فرضية تقول ببلوغ المادية الجدلية إلى العمل المطلق (ماركس)وتلك هي نهاية التاريخ لأنها غايته. لذلك ترى الفيلسوفين رغم التقابل في المرجعية[22] التأويلية متفقين على وصف نزعة البرجوازية الإمبريالية بالإيجابية لأنها تحقق بالاستعمار في معناه التقليدي مهمة التحضير والتوحيد مهمتهما التي ينبغي لها أن تقضي على التخلف والتنوع لتحقيق الوحدة المنشودة.

ولا أظن أحدا ممن له دراية بالفكر الغربي يمكن أن يجادل في هذه المعطيات البسيطة حول المسألة ما يغنيني عن إثقال العمل بالإحالات التي هي من زاد كل المثقفين أيا كان سهمهم من الثقافة. إنما الإشكال يبدأ عندما يحاول المرء أن يقدم تصورا آخر للمسألة من مرجعية فلسفية ودينية أصابت أهلها الهزيمة الروحية فباتوا يعتقدون أنه لا يحق لهم أن يزعموا قولا في فلسفة التاريخ فضلا عن تأويله الديني خوفا من تهمة الظلامية والرجعية ! ذلك أنه بمجرد أن يصبح التأويل عربيا إسلاميا وتشتم فيه رائحة الدين ينقلب ظلامية ورجعية رغم أنه يوصف بكونه تنويرا وتقدمية لمجرد كونه هيجليا أو ماركسيا ورغم وحدة الخطاب من حيث الجنس الأدبي على الأقل.

لكن ذلك سيأتي بعد أن نفرغ من العرض الوصفي السريع للإشكالية كما تطرح في الفكر الحالي مع التركيز على الصوغ البياني الذي يحدد المقومات وأدوارها وخاصة ما بينها تفاعلات هي المطلوب لفهم الظاهرة وأثرها في ما يعاني منه العرب والمسلمون خلال سعيهم للتحرر المصحوب بالطموح إلى استئناف الدور التاريخي الكوني:فغيرهم ما كان ليبالي بهم لو كانوا يريدون أن يعيشوا تحت مضلة حماية سادة العولمة كغيرهم من الشعوب التي قبلت بهزيمة الصف الاشتراكي ورضيت بالقطب الواحد الذي هو رب العولمة الحالي.وسنترك الكلام على الأدبيات الحالية لأهل الاختصاص لأن المجال لا يسمح بالإطالة بما لا يعدم القارئ مصادره التي لا تكاد تحصى.

المسألة الثانية

عرض وتحليل وصفيين للظاهرة

من المعهود في هذا المستوى من العلاج عرض المعضلات التي ترتب على التعريف من منظور اللغة والحضارة التي تسميها إما بالتركيز على آثارها الجغرافية السياسية في وجهي علاقات الدول السياسة وأقوى أدواتها الدبلوماسية والعسكرية[23] أو بالتركيز على آثارها الجغرافية الثقافية في وجهي علاقات الشعوب وأقوى أدواتها التواصلية والتعارفية[24] أو بالجمع الجدلي بين المنظورين[25] عند الربط بالرهان في كل هذه العلاقات أعني المحرك الأساسي في العولمة[26]العلاقات الاقتصادية بكل درجاتها المادية واللامادية وفيها تتحد الجغرافيا السياسية والجغرافيا الثقافية بل الجغرافيا عامة إذ إن الأرض هي معين الحياة والعلاقات من توابع سد الحاجات والسلطان عليه وبه.

لكن كلا الوجهين الصادرين عما يفضل بالتقديم بمقتضى هاتين التسميتين مضاعف مرتين. فالسياسة ذات تعينين هما وجهها الرمزي أو الدبلوماسية ووجهها المادي أو القوة العسكرية. والاقتصاد ذو تعينين هما وجهه الرمزي أو حركة رأس المال ووجهه المادي أو حركة ثمرات اجتماع الخبرة ورأس المال أعني البضائع والخدمات (وضمنها العمل منذ أن أصبحت الآلة قادرة على تعويضه). فيكون المدلول الأول من العولمة مربع الأبعاد. والمهم في هذا الوجه-وتلك هي علة التسمية-قابليته لقراءتين: فمن حيث الفاعلية اللإرادية والمادية لا بد من تقديم الاقتصادي على السياسي ومن حيث الفاعلية الإرادية والرمزية لا بد من تقديم السياسي على الاقتصادي. فيكون الاقتصادي بوجهيه والسياسي بوجهيه متبادلي الأدوار: كلاهما أداة وغاية بالإضافة إلى الآخر وهو تضايف يجعل الكثير لا يفهم القرار الدولي ما مصدره هل هو الدول أم الشركات العابرة ؟ وهذان الموقفان هما المحددان للمدارس الفكرية التي تفسر الظاهرة من المنطلق الجغرافي السياسي: تقاسم الأرض وثرواتها بين القوى بدوافع اقتصادية أساسا وبأدوات دبلوماسية عسكرية فيكون السياسي في ذلك مجرد واجهة.

التعريف الأول: أدوات الفعل المعولم بأدوات مادية خاصة

السياسة

الاقتصاد

الوجه الدبلوماسي

(الاستعلام والتاثير)

الخفي

الوجه العسكري

(الإعلام والجيش)

رأس المال

(المال والخبر

 

 

24-04-2008 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=574