/

 

 

مأزق العلمانية والعلمانيين العرب

خالد بايموت

ما من مقاربة للعلمانية، وتصورات الفكر السياسي العربي والمغربي المعاصر لها، من حيث التبني، أو الرفض، أو من حيث الدراسة التفسيرية، أو النقدية النادرة الوقوع أكاديميا...إلا وتجد جدوائيتها في الزمن السياسي الحالي، الذي يشهد تنامي ما يسمى بالصحوة الإسلامية السياسية، والتي أعادت إلى الواجهة من جديد إشكالية علاقة السلطة السياسية بالدين.
من جانب أخرى يدعونا المأزق الحالي للعلمانية في" الغرب"، المندرج بدوره، ضمن مأزق الحداثة، وتنامي فلسفة البعديات، إلى استحضار تطورات الفكر السياسي الغربي. وإذا كانت ما بعد الحداثة، تتحدث عن غياب المركز، والمرجعية، فإن ما بعد العلمانية تتحدث عن أزمة وفشل العلمانية. 
إن تجدد النقاش واستمرارية طرح إشكالية العلمانية، لا ينحصر في الرقعة الجغرافية العربية، وإنما يصل إلى الدائرة الغربية، ولعل قضية" الحجاب" وتفاعلاتها بفرنسا.. والطريقة التي عولجت بها أخيرا بألمانيا، يجعل من الحل العلماني عاجزا عن فك الارتباط القائم بين الدولة والدين، إلا بسيطرة السلطة الزمنية على الدين، ووضعه تحت هيمنة تصورها الوضعي.
إن معالجة إشكالية الدولة الحديثة، في العالم العربي، يستوجب البحث عن حداثة بديلة، والتأسيس للعملية التحديثية بالتخلي عن الأسس الفلسفية الكلاسيكية للحداثة، أو ما يسمى بعصر التنوير المستبطن للعداوة تجاه كل ما هو ديني؛ وبالتالي فإن الأخذ بمناهج جديدة في الفكر المعاصر، وإحياء الجانب الفقهي والفلسفي الإيجابي من التراث الإسلامي، سيساعد على تجديد بنية الثقافة، والفكر السياسي العربي، فيما يخص علاقة الدين بالدولة والسياسة.
ومن شأن الاستعاضة عن مبادئ الحداثة المدعية للعقلانية والإطلاقية ... وتعويضها بنظرية المواءمة الحضارية، تحويل أنظار المسلمين باختلاف شعوبهم، والعرب خاصة إلى إمكانية تحقيق التغير الضروري دون التضحية بالجوهر الديني، والأخلاقي المشكل للقاع الثقافي، و المنغرس في الذهنيات السائدة في الاجتماع العربي تاريخيا.
إن الحديث عن مشروعية العلمانية في الواقع العربي، هو نقاش مزمن وتأزيمي، لم يحقق إلا النظر إلى التجربة الغربية كنموذج للخلاص والتقدم، وتقديسه كنمط واحدي يجب سلكه لبلوغ الحداثة السياسية وتحقيق التنمية...ولعلا أخطر ما أدى إليه هذا المسلك، هو تعاظم أزمة الثقة بين النخبة المتغربة وسائر المواطنين، وليس من الواضح بعد أننا في الطريق للخروج من هذا المأزق الذي يمس السياسة كتصورات معيارية، وكممارسة سلوكية ذات أبعاد سوسيوثقافية.
فمقولة حدود السياسي والديني وتقلبات هذا الأخير، يطرح على العلمانية سؤال يستمد مشروعيته من القانون الطبيعي نفسه، فالمنطق السياسي العلماني وعد بتحقيق السعادة، انطلاقا من حبس الديني "في غرفته " الشخصية ، لكن السياقات الاجتماعية وما نشهده من حراك مستمر بالغرب، تجعل من النظام السياسي العلماني نظام مستمر التنظيم، ويساهم فيه فاعلون اجتماعيون وسياسيون، بعض أطراف هذا التشكيل المجتمعي لا يفصل الدين عن الدولة بالمفهوم الكلاسيكي المعروف على الأقل . وبالتالي، فإن القول بالعلمانية يستوجب التمييز بين مجالين اثنين: 
المجال الأول: نظري واتخذ طابعا فلسفيا واحديا حاول التأكيد عبر أدبياته على إمكانية فصل الدولة عن الدين. (وهو شيء لم يتحقق في أية دولة، بما فيه الدول الشيوعية). 
المجال الثاني: تطبيقي سياسي، وفيه تم تعديل الطابع الفلسفي المعياري، فالدولة العلمانية الفرنسية غير النموذج البلجيكي و اليوناني... 
لقد ترافق نشر التصورات العلمانية، مع عملية تمويه، تخفي جانب التسلط فيها خاصة تجاه الدين، وما تحققه الديمقراطية نفسها من تداول للسلطة، لا يعبر بتاتا عن حل مطلق.. فمهما بلغ الحكم الديمقراطي، فإنه يبقى نظاما سياسيا، ينظم واقعا سوسيولوجيا لا يمكن تحقيق الانسجام التام داخله باسم المواطنة أو بغيرها ...
وفي الوقت الذي أخذ المفهوم العلماني للعلمانية يتطور، ظلت الكتابات العربية تطرحه من زاوية تقليدية متمحورة حول المفهوم نفسه، ومدى انتسابه إلى العلم والعالم، وانطباقه مع الدنيوية... فكانت بذلك عقدة المفهوم، مؤشرا على غموض التصور العلماني العربي المعاصر، وعجزه على تحدي الواقع السوسيوتاريخي، الذي يتقبل التمييز بين الديني والسياسي، والمتصدي لمقولة الفصل بين الدولة والدين، أو بين الدين و الحياة. 
إن العلمانية أصبحت موضوع نقاش كبير حول مسؤولياتها المباشر في الأزمات الأخلاقية، وتحول الإنسان إلي أداة استعماليه تجارية، مما خلف واقعا غربيا علمانيا يسوده انتشار العنف والمخدرات، وانحلال الأواصر الإنسانية التكافلية. 
وإذا كان الغرب اليوم يتحدث عن ما بعد العلمانية ونزع القداسة عن ماهية العلمانية، فإن ما يلاحظ أن هناك جمود كبير على مستوى فكر العلمانية العربية، سواء "العلمانية السياسية "، أو "العلمانية العقائدية "، واكتفائهما بتعريفات عامة منقولة، وأيديولوجية في الغالب تحقق الراحة النفسية، وتعكس رؤية غير دقيقة للموضوع، فغالبا ما نجدها تمثل كل متوهم غير واقع.
أن تمحيص ظاهرة السلطة من وجهة نظر علم السياسي، الذي هو علم السلطة، يؤكد أنها تقوم في وسط يسوده عدم التكافئ، وتوزيع الموارد وتبادلها، وأن أبرز مظاهرها، هو قوة إجبار المتنافسين الاجتماعين للتعايش وفق القانون، وهنا تظهر الديمقراطية كأفضل حل إنساني للعلاقات السلطوية، توصل إليه الفكر البشري لحد الآن . 
نحن في حاجة إلى الديمقراطية والمواطنة، و الخروج من نفق الإطلاقية التي تأخذ به مثل هذه الأفكار في الفكر السياسي العربي المعاصر، والنظر إليهما، من زاوية تستقرأ الممارسة العملية المختلفة، و من تاريخ إلى أخرى، ومن تجربة دولتية إلى أخرى وهذا النظر الذي يستحضر الممارسة، ينفي وجود "المعادلة الحقة"، والحل الأمثل الجاهز للإستراد عند اللإتجاه الأنكلوساكسوني، أو الإتجاه الفرونكفوني، أو حتى عند التيارات المقدسة للتراث الإسلامي العربي.
الحل المفترض يكمن، في إعادة صياغة فهم الفكر السياسي العربي المعاصر للدين والسياسة، عبر بناء نظرية توفيقية متكاملة، تميز بين الديني والسياسي وترفض الفصل بينهما، و ترمي تحقيق عملية المواءمة الحضارية مع الإنتاجات الإنسانية، مع الإستناد إلى البعد الديني، والقيمي الذي أخذ يعود بقوة داخل مختلف الحضارات المعاصرة...
وتبعا لذلك يحتاج مصطلح العلمانية إلى تعريف جديد ، وتفصيل بشكل يحدد المفاهيم وتطوراتها التاريخية، فالواقع يفند القول بأن إشكالية الدولة والدين متجاوزة في العالم الغربي.

 

 

06-05-2008 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=582