مهما حار المنظرون في تعريف الديمقراطية فإن مضمونها يظل واحداً ويصبو لهدف واحد مفاده إعطاء الشعب الحق في التعبير عن رأيه، وحقه في اختيار ممثليه، ومؤسساته، والطريق التي يريد أن يُحكم بها ؛والحرية سواء في العالم الثالث أم في غيره بات مطلباً يتوق إليه كل المضطهدين الذين يرزحون تحت ظل القمع الدولي، أو "الوطني" بكل أشكاله. لذا فإنك لتجد شعوب العالم الثالث مُتحرّقة لأي مصطلح يشم منه رائحة الحرية سواء أكان ديمقراطية أم شورى أو أي مصطلح آخر و لا يهمه كثيراً على أرض الواقع خلافات المنظرين حول الجذور التاريخية والأبعاد الفلسفية التي تختبئ وراء المصطلحات.
الديمقراطية (أو أي شكل من أشكال الإدارة السياسية المتمدنة) تتمثل في الحوار بين السلطة والشعب، وإن آلية هذا الحوار واستمرار العلاقة الجدلية بين الحاكم والمحكوم هي التي تحدد سرعة ذوبان الجليد الذي تراكم على قناة "سلطة-شعب" وبدرجة أقوى على قناة "شعب -سلطة".
رغم عدم أمانة معظم الأنظمة الغربية في حماية مفهوم الديمقراطية في بعض الأحيان، وعدم مراعاتها المطالبة في تطبيقه لصيانة هذا المفهوم في دول العالم الثالث عموماً، والعربي والإسلامي منها خاصة، لتفضيلهم المصالح السياسية والاقتصادية والتقسيمات الجيوبوليتيكية على تكريس مفهوم الديمقراطية في العالم بأسره، لكن هذا لايعود على الديموقراطية "كمفهوم" بالنقد بقدر مايلام صنّاع القرار العالمي، وأصحاب القوى الأعظم في العالم، ومن ائتمر بأمرهم من حكام دول العالم الثالث من الأنظمة الشمولية، الذين أجهضوا أو حاولوا إعاقة عدة تجارب ديمقراطية في العالم كما هو الحال في الجزائر وتركيا وغيرها وأيّدوا بقية الديكتاتوريات في العالم الثالث إلا من تعارضت ديكتاتوريته مع مصالح صنّاع القرار الدولي.
هذه المصالح تستدعيهم للتغاضي عن ظلم العامل الصيني مثلاً، وتجاهل مطالب منظمات حقوق الإنسان أمام المغانم الاقتصادية المؤمل بها في الصين ليثبتوا من جديد أنه لايوجد صوت يعلو فوق صوت المصالح الاقتصادية، ولا حتى صوت الإنسان الذي يفترض أن تبرمج كل جهود التنمية الاقتصادية لخدمته ومن أجل إسعاده.
لقد شهد العالم تحولاً كبيراً نحو الديمقراطية والتحرر من عام 1975 إلى 2005 حيث ارتفع عدد الدول التي تتمتع بالحرية من 40 دولة إلى 89 دولة (حسب تقرير بيت الحرية)، وانخفضت عدد الدول غير الحرة من 65 (بمعنى 41% من دول العالم) عام 1975 إلى 45 دولة.
هذه الموجة الديمقراطية لم تلفح العالم العربي والإسلامي إلا برذاذ بسيط لايؤثّر في تشكيلة الإدارة السياسية، لابل زاد القمع في بعض الدول العربية والإسلامية.
هناك دراسات اقتصادية كثيرة تؤكد على علاقة الديمقراطية بالتنمية الاقتصادية وسعادة وحرية الإنسان، لكن هذه العلاقة باتت أمراً مُشكلاً على بعض صنّاع القرار والمتسلطين على رقاب العباد في العالم الإسلامي، لأن معظم حكام 57 دولة إسلامية اعتبروا مسألة حرية الأفراد مسألة ثانوية وليس لها اعتبار في مسألة التقدم والرقي والتنمية الاقتصادية، لذا أصرّ معظمهم على عدم وضع مؤشرات الحكم الرشيد ضمن خططهم الاقتصادية.
تتمتع –حسب مؤشر الحريات الذي يصدره بيت الحرية في واشنطن- ثلاث دول فقط بالحرية التامة في منظومة العالم الإسلامي التي تتكون من 57 دولة، وليس سراً أن لاتوجد دولة عربية من بينهم، بينما تتمتع 20 دولة إسلامية بحرية جزئية، و23 ترزح تحت سُلط ديكتتاورية تنشر الفساد في البر والبحر، وهي مصنفة بالطبع دول غير حرة.
الحكومات في العالم الإسلامي تسعى للنهوض الاقتصادي ولكنها نادراً ماتسعى للنهوض السياسي أو للارتقاء بمستوى الحريات المدنية والسياسية لسببين رئيسين: الأول أن مصلحة الحكومة تتعارض مع حرية التعبير لأنها ستفضح أساليبها وتدليسها وتكشف أخطاءها الإدارية القاتلة فضلاً عن محاسبتهم عن تقصيرهم وتفريطهم بمقادير الأمة، والثاني أن صانع القرار غير مقتنع أن المزيد من الحريات ضمن إطار القانون ونشر روح الديمقراطية سيساعد على النهوض الاقتصادي.
إن التمعن في وضع العالم الإسلامي يؤكد وجود أكثر من ثلاثين دولة منهم تعيش على أقل من 5 دولار في اليوم، ورغم ذلك فهنالك إصرار منقطع النظير على عدم ربط كبت الحريات العامة بالمستوى المعيشي والاقتصادي البائس، ولايوجد هناك مجرد تفكير في رفع سقف الحريات في معظم العالم الإسلامي، بل هناك تأكيد على أن معظم حكام الدول العربية والإسلامية يريدون السير عكس حركة التاريخ.
إن النظرة الأولية للمشهد الديمقراطي-الاقتصادي للعالم الإسلامي يؤكد على العلاقة القلقة والضبابية بين مستوى العيشة والحرية، حيث نجد أن الدول الإسلامية ال 14 الأكثر فقراً، هي الدول الأقل حرية، كما تتركز انعدام الحرية في ست دول فقيرة أيضاً؛ أما بالنسبة للحرية الجزئية فهي تتناغم ومستويات الدخل، فالدول الأكثر غنى هي الدول الأقل تركزاً للحرية الجزئية، بينما الدول الأكثر فقراً هي التي تفضل ولو القليل من الحرية التي حرمت منها بعد أن حرمت تذوق حلاوة المكاسب الاقتصادية.
المؤسف أن تكون الدول الإسلامية الأغنى هي الدول غير الديمقراطية ، وهذا على خلاف عادة اقتران الغنى بالحرية وسمو مكانة الإنسان في أجندة النظام الحاكم، وذلك لاختلاف في طبيعة مصدر الثروة والقوة التي يستمد منها النظام الحاكم شرعيته؛ فينما تكون قوة العمل البشري (وصاحب الصوت الانتخابي) مصدر الثروة، يُستعاض عنها بقوة المصادر الطبيعية، لذا فإن الحاكم قد لايرى للعامل الإنساني دوراً كبيراً في عملية التنمية الاقتصادية، بل تنتهي العلاقة بين الحاكم والشعب إلى علاقة استجدائية تتمثل في المنح والعطايا من "الحاكم بأمر الله" وتنطلي حيلة المنح على المواطنين، الذين يرون مزية الحاكم الجيد هو مدى جوده وتفضله بحصة من ثروة الوطن على شعبه باعتباره "الأب الحنون" لرعاياه اليتامى.
إن الشعور العام بالحرية سيبني جسور الثقة مع الحكومة حيث تنعكس على حساب زيادة الثقة في المصارف الحكومية مما يزيد عدد المودعين وبالتالي فإن حشد الأموال المحلية يؤدي حُكماً لتفعيل الاقتصاد بمشروعات ضخمة لاتقدر عليها إلّا البنوك صاحبة الملاءة المالية، إضافة إلى تشجيع المصارف الخاصة التي ستشعر بالاطمئنان طالما أن هناك قضاء عادلاً ضمن مناخ الحريات الصحفية.
إن العمل على استقطاب الشركات الخاصة للمساهمة في عملية التنمية الاقتصادية لايأتي فقط بعد إعمار البنية التحتية لأن هذا بدهي ولاحاجة للتأكيد عليه هنا، بل يجب تأمين مناخ من التعبير عن الرأي لأصحاب رؤوس الأموال التي تخاطر باستثمار ملاينها، لاأن تفاجأ بتعذر لجوئها لقضاء مدني (وليس عسكري) نزيه، أو أن تُفجع بتعذر إسماع صوتها للمسئولين في الصحافة اليومية، كما تجري العادة في الصحافة العالمية كالوول ستريت جورنال، أو الفاينانشال تايمز، أو الايكونومست، لأن الصحافة الحرة تعتبر الضمانة ربما الوحيدة –بعد القضاء النزيه (المدني طبعاً) والعادل- لعدم تعرضهم للاستغلال من قبل بعض المتنفّذين الذين يتقنون إساءة استخدام صلاحياتهم من خلال ابتزاز هذه الشركات.
اختطت معظم اقتصاديات الدول العربية والإسلامية نهجاً ليبرالياً اقتصادياً منذ أكثر من عقدين من الزمان بعد أن قررت اللحاق بالركب العالمي، الذي يقرن أسلوب الإدارة الديمقراطية بسينياريوهات التنمية الاقتصادية الليبرالية، وذلك عبر ضخ المزيد من الحريات في الحياة العامة إلى جانب التحرر الاقتصادي تأسياً بمعظم دول العالم المتقدم. فكما يتوجب على الحكم رفع درجة الحرية الاقتصادية بالصيغ الليبرالية، عليهم كذلك رفع مستوى الحريات المدنية والسياسية من أجل وضع حد للفصام النكد بين الحاكم والمحكوم، لأن الالتحام بين الشعب والسلطة لايتم إلا في أجواء الحرية والمصارحة والاحترام المتبادل. ولعلي أدعو قرائي للإطلاع باقتضاب ماجاء في بيان قادة الدول العربية في تونس 23 مايو/أيار 2004 : "نحن قادة الدول العربية …نعلن تصميمنا على تعميق أسس الديمقراطية والشورى وتوسيع المشاركة في المجال السياسي والشأن العام وفي صنع القرار في إطار سيادة القانون وتحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين واحترام حقوق الإنسان وحرية التعبير…"
إن النظر إلى الليبرالية بشقها الاقتصادي وإهمال الشق السياسي والإنساني يكرّس "ليبرالية عرجاء" وللأسف فإن انتهاكات حقوق الإنسان "المواطن المطحون"، وممارسة مختلف أنواع التمييز، واعتقال أصحاب الرأي، وإجهاض الانتخابات، ومصادرة الصحف، والمحاكمات العسكرية وغيرها، لدليل ناصع على أن بعض الدول العربية والإسلامية تسير حقاً عكس حركة التاريخ...لابل هي "خارج التاريخ".