أمام حمى صعود جماعات العنف الإسلامي وعلى وقع الهزات التي تنتجها ضرباتها ضد مصالح القوى الغربية والدول القومية الحليفة لها، تستعيد قوى اليسار القديم التي اكتشفت ليبراليتها حديثا، والقوى القومية التي تعاند صيرورة الغياب، خطاب القوى الليبرالية (أصالة)، لتنشأ خطاباً جديداً متوائما بحسب ظنها مع روح العصر الذي لا يساوي راهنا إلا أيديولوجيا الفاتح الأمريكي العابر للقارات بترسانته العسكرية قبل الأيديولوجية.
خطاب "التنوير" العربي الجديد الذي يعمل جميع من تقدم على إنتاجه وفق الشرط اللبرالي للنهضة والتقدم، سعيا لحل إشكالية الهوية العربية المتعثرة، والعقل العربي "المتسلف" المنتج للعنف الأعمى والتقليد القاتل، فتنشط محاولات من الكتابة والترجمة والتخطيط الثقافي لإعادة قراءة مفاهيم الديمقراطية، والتقدم، والتنوير، والعقلانية، والحرية، وقضية المرأة...الخ. فيدعو بعض المثقفين إلى إحياء تراث خطاب عصر النهضة وتيار "التنوير" فيه. وتنهض وزارة الثقافة المصرية بطباعة بعض ذلك الإنتاج، ولتبدأ في المقابل إقامة مجامع مؤسسات لترجمة نتاج الفكر الغربي منها ما هو رسمي وما هو مدني كما في مصر وبيروت والكويت. ولتقام مؤتمرات على عجل تحت عناوين التجديد والإصلاح الديني. وأخيرا تبدأ وزارات الثقافة والتربية العربية في تعديل المناهج الدراسية وتحديدا المتعلقة بنصوص الثقافية الإسلامية والعلوم الدينية، كما هو الحال في الكويت والأردن والسعودية _ وقديما جدا في تونس _ طمعا في القضاء على ما ينتج العقل القتالي والفكر الانقلابي المتشدد، الذي يحارب الآخر المتحضر، ويتنكر للحضارة الإنسانية، ولا يعظم حداثتها التكنولوجية.
إن استعادة خطاب عصر النهضة قبل مئة عام، وإحياءه (من قبل تحالف قوي اللبرالية الجديدة) في سياق الرد الثقافي والفكري على جماعات العنف الإسلامي، وفي الوقت نفسه التركيز على المسألة الثقافية دون السياسية والاقتصادية، تدلان على عدة مسائل من أهمها:
ـ عجز الخطاب العربي الليبرالي واليساري المحدثن عن إنشاء خطاب في مستوى التحدي المفروض عليه، فبدلا من النهوض بمهمة بعث خطاب جديد مفارق للقديم، وتأسيسه بتجاوز الديماغوجية الأيديولوجية لكلا التيارين، ويقف وقفة نقدية جادة حول جملة أفكاره ومفاهيمه وحلوله، بدلا من ذلك فانه يهرب "متقدما" إلى الخلف مئة عام في حركة ردة ونكوص سلفية ليستعير من "خطاب النهضة" أسلحته أمام التحدي الذي يواجهه، والعجز الذي يعتريه في الواقع.
ولنجد الابن الذي فارق أباه معرفيا مستفيدا ـ بدعواه ـ من بعدي الزمان والمكان وما استجد من مدارس معرفية وقضايا ثقافية يعود أدراجه طالبا من "أبيه" كرم المشابهة على أقل تقدير، ويتم التعبير عن هذه الأزمة حين يتم التساؤل من قبل بعضهم: " أية مفارقة وقعنا بها؟ ففي عصر النهضة كانت القوى العقلانية تتقدم والقوى الظلامية تتوارى لصالح التنوير، وبعد مئة عام نعود إلى خطاب النهضة فيما تتقدم القوى الظلامية ومدارسها".
ـ إن دعاة التنوير الذين يناهضون (أو يختلفون مع !!) قوى العنف "القاعدية" أو "السلفوية" كما يسميها البعض لأنها ترتد لتقف عند إبستيم معرفي ماضوي ترى ما بعده ظلاما، ولأنها سر التخلف ومجمل الأزمات التي تحياها مجتمعاتنا المحلية، نجد هؤلاء الدعاة يرتدون إلى "سلفوية ماضوية" أخرى ولكن باتجاهين: الأول صوب "عصر التنوير العربي"، والثاني: صوب المدارس الغربية في عصر النهضة، فاستبدلوا سلفية بأخرى و"ماضوية " بأخرى، فان اتكأ بن لادن والظواهري وأشباههما على ابن حنبل وابن تيمية واعتبر ذلك "رمزا للتخلف"، اتكأ آخرون على هيغل وماركس وربما أفلاطون وكان ذلك عنوانا "للتقدم والعقلانية"، وإن أحيا السلفيون أمواتهم، أحيا الليبراليون واليساريون العرب أموات اليونان وأسلافهم.
ـ إن الرجوع إلى تراث عصر النهضة، ومحاولة التنظير لمفاهيم الديمقراطية والعقلانية والتقدم ...الخ، في الوقت الذي يتعثر الجميع عن إبراز هوية أو اتجاه فكري واضح المعالم ومحددة الرؤى، كما كان حال آبائهم من المنظرين الاشتراكيين والقوميين عند تبشيرهم لنا بمدارسهم طوال نصف قرن من الزمن، يعكس لديهم كما حال الإسلاميين جملة أزمة هوية واغتراب ولكنه هذه المرة اغتراب مركب يُنتج مشاريع مشوهة ليست على مقتضى الداخل، ولا تروي جشع الخارج. خاصة بعدما اهتزت مواقع أقدامهم وتبدلت قوى وموازين الفكر والسياسة من حولهم، فغدو لا يعرفون من هم؟ ولا ماذا يريدون؟، والى أية مدرسة أو جهة ينتمون؟ لتبقى أسئلتهم:من نحن؟ ما العمل؟ ما البديل؟ تراوح مكانها بلا مجيب وبلا إجابات.
ـ إن الوهم الأشد ضعفا هو اعتقاد الغالبية من هذه القوى ومعها الأنظمة الرسمية أن مسألة العمل على إلغاء مناهج أو تعديلها هي السبيل إلى مواجهة أفكار الحالة العمياء لعنف القوى السلفية، وأن معركة النصوص يمكنها إنهاء المشكلة، وكأن القوي السلفية لا تصدر إلا عن النصوص ولا تصدر عن الواقع، فإذا ما تم حذف وإلغاء النصوص التي تحتمل سوء التأويل، أو مظنة قبول العنف بصورة ما ونكران الآخر ونبذ سبيل الحوار سينتج تلقائيا جيل أكثر اعتدالا وتسامحا.
إن هذه القوى تصدر عن الواقع كما عن النص الذي تجد ملاذها فيه، وتعكس صورة هذا الواقع القائم على انتفاء العدل، وشيوع المظالم، وسيادة قوى الاستبداد، وغياب الحريات، وفشل مشاريع التنمية، وتردي الحالة الاقتصادية للمواطن، هذا فضلا عما ترتكبه عموم أجهزة الدولة "الوطنية" وعلى رأسها الأجهزة الأمنية بحق الأهل أو "الرعايا". أما على صعيد القضايا الكبرى والمشتركة لعموم العرب والمسلمين سواء في فلسطين أو العراق أو الشيشان أو كشمير، أو حتى البلدان المسماة زورا مستقلة فقد بات واضحا للعيان أية قوانين، وأية "عدالة"، وأية موازين تقام وتطبق في تلك البلدان، بل وأي عنف رسمي محلي، وغير رسمي خارجي يرتكب بترسانتهما من فظائع هو خارج الوصف لكل من ألقى السمع وهو شهيد.
إن معالجة هذا الواقع الظالم، والتقدم بمشاريع وخطط وقوى لأجل نفيه، واستبداله بواقع أخر أكثر عدلا وأمانا وحرية، واقع تكون الدولة فيه مملوكة لأهلها وليس العكس، واقع تكون فيه العلاقات الدولية قائمة على التكافؤ والحوار والتعارف والتعاون، هو الكفيل بالقضاء على كل أسباب وبواعث تيارات وجماعات العنف إسلامية كانت أو غير إسلامية. والتي بات استمرارها في ظل انسداد الآفاق على أية تغيير جاد في الواقع العربي الإسلامي منذرا بتفجّر لا يعلم مداه وآثاره الكارثية أحد.
ختاما نقول إن المسألة الثقافية مهمة في هذا السياق على أن تصدر عن علماء محليون مجتهدون لا عن سلطة الدولة القهرية، وأن تتم بحركة تجديد كلية للعلوم، لا بحذف نصوص وإلغاء أخرى، حركة تجديد بإعادة قراءة النصوص وفق بنيتها التداولية والمعطى الواقعي، في حركة جدل من التنزيل إلى التصعيد الحكمي، استجابة لمشروع تتطلع إليه الأجيال لردم الفوات الحضاري واستئناف الحياة من جديد.