/

 

 

الخمليشي ومنطلقات أصول الفقه

أحمد بوعود

هذا هو عنوان الجزء الثالث من "وجهة نظر" الأستاذ الدكتور أحمد الخمليشي الذي جاء حاملا لمجموعة من الأفكار تستدعي أكثر من وقفة للخروج بنتيجة تدفع قضية الاجتهاد والتجديد خطوة إلى الأمام... فعلى الرغم من تعالي صيحات التجديد الفقهي والاجتهاد فإن الأمر بقي على ما كان عليه من قبل، بل إن الخلل في مبادئ الاجتهاد نفسها التي تكرس الجمود والتقليد من حيث يظن أنها تفتح باب الاجتهاد والتجديد... وهكذا كان الكتاب محاولة لمناقشة بعض المبادئ الأصولية التي ينبغي إعادة النظر فيها للانتقال من اجتهاد التنظير إلى اجتهاد التقرير. فما هي المبادئ الأصولية التي ناقشها الكتاب ؟
قسم الكاتب مؤلَفه إلى ثلاث فقرات ضمن كلا منها مجموعة من المبادئ والقواعد التي تستدعي النظر والبحث والتقرير من جديد، لكونها لم تعد ملائمة مع العصر وتحولاته، أو لكونها منذ تأسيسها لم تكون قادرة أو كافية لتفعيل الاجتهاد والتجديد.
الفقرة الأولى: مفهوم استيعاب نصوص الوحي لوقائع الحياة
أول من ناقش مفهوم استيعاب نصوص الوحي لوقائع الحياة، الذي يعني أن جميع وقائع الحياة تضمنتها نصوص الوحي هو واضع علم أصول الفقه الإمام الشافعي رحمه الله الذي يقول: "فليس تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدي فيها" إما بالنص أو عن طريق القياس.
هذا القول كانت له آثار سلبية على الفكر الفقهي، وتتمثل في:
1- ثبات الأحكام الاجتهادية، فرغم القول بتعليل الأحكام وبدوران الحكم مع علته وجودا وعدما فإن ذلك "لم يؤثر إطلاقا على ثبات الأحكام الاجتهادية" ؛ ذلك أن علة الحكم كانت تؤدي وظيفتها عندما كانت تفسر بالحكمة والغاية من الحكم ، لكن بعدما تدخل علم الكلام وانقسم العلماء حول التعليل انتصرت فكرة عدم التعليل لتحل الأمارة مكان العلة، وهي وصف ثابت غير قابل للتغير مكانا وزمانا... ويفقد بذلك أهميته القولُ بأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
2- ضعف استعمال العقل والتحليل المنطقي والقصور عن بناء النظريات؛ فاتفاق الأصوليين على أن الأحكام شرعت لجلب مصلحة أو درء مفسدة وتأكيدهم على وجود مقاصد عامة للشريعة هي الهدف والغاية من الأحكام التي تقررها لم يكن له تأثير على الحيز الضيق للعقل والتحليل في عملية الاجتهاد، ولم يكن السؤال الجوهري في الموضوع ليجد إجابة كافية عند علماء الأصول والفقهاء، وهو: كيف تتحدد المصلحة والمفسدة اللتين يرتبط الحكم بهما ؟ وهل للعقل والتحليل القانوني والاجتماعي دور في تحديدهما ؟
وبعد استعراض أقوال كل من الشاطبي والعز بن عبد السلام حول النظر في مآلات الأفعال وإن معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل يصرح الكاتب قائلا: "لو قبل هذا التوجه في الاجتهاد وتقدير مفهوم المصلحة والمفسدة لكان للفقه شأن آخر، ولتمكن من الالتحام بحياة المجتمع ومن البحث المستمر والمتجدد لوضع الحلول الملائمة لتنظيم علاقات أفراده بما يحفظ لأحكام الشريعة تحقيق أهدافها العليا وقيمها المثلى" . لكن جدل الكلاميين حول التحسين والتقبيح لم يكن في صالح تفسير مفهوم المصلحة والمفسدة، بل كان سببا في تراجعه. ونجد الإمام الشاطبي، وهو الذي دعا إلى مبدأ مراعاة مآلات الأفعال، يقول: "كون المصلحة مصلحة تقصد بالحكم، وبالمفسدة مفسدة كذلك مما يختص بالشارع، لا مجال للعقل فيه بناء على قاعدة نفي التحسين والتقبيح" .
أما بالنسبة لمقاصد الشريعة فيلاحظ الخمليشي أن أغلبية مؤلفات أصول الفقه لم تتعرض لها نهائيا، وما تمت الإشارة إليه كان موضع أسئلة:
- هل بعض هذه المقاصد تشكل فعلا مقاصد عامة للشريعة ؟
- هل تساعد الفقه على صياغة الأحكام للوقائع المتجددة ؟
- أليس هناك ما هو أنسب لإضفاء صفة مقاصد الشريعة عليه ؟
3- العجز عن استيعاب المرافق الواسعة للتنظيم الاجتماعي، حيث ساد المجتمع الإسلامي نوعان من الأحكام:
ا- الأحكام الشرعية، والتي اختص بها الفقهاء طبقا للضوابط والقواعد التي حددها الأصوليون في أصول الفقه.
ب- السياسة الشرعية، أو الأحكام السياسية، يقررها الحاكم السياسي دون أن يلزم باتباع قواعد أصول الفقه، بل قد يخالف الأحكام الشرعية التي قال بها الفقهاء في الموضوع نفسه . 
4- المبالغة في اعتماد خبر الآحاد، وإن كان شاذا، رغم التعارض أو عدم الانسجام مع نسق أحكام الشريعة ومبادئها الثابتة، وهو ما عبر عنه لؤي صافي بالرؤية القرآنية، ورغم المجافاة للبناء المنطقي والتحليل العقلي .
5- الميل إلى التقليد.
الفقرة الثانية: البحث عن الحكام نصا أو دلالة
يعرض الكاتب للاتجاه الأصولي في البحث عن الأحكام الذي يتم من خلال تفسير نصوص الكتاب والسنة بالسنة للأحكام التي ورد النص عليها، وبالاستدلال بالنسبة للوقائع غير المنصوص على أحكامها؛ فتفسير النصوص عند الأصوليين ينحصر في البحث عن الدلالة اللغوية للنص، ووسائل رفع التعارض بين النصوص، وتترتب عنه نتيجة حتمية وهي "جمود معاني النصوص المفسرة، وثبات الأحكام التي استخلصها الفقهاء في اجتهاداتهم وعدم تغييرها، وإن تغيير واقع المجتمعات ظروف الناس، كما يجرد الأحكام الشرعية من حكمها ومقاصدها التي شرعت من أجلها" .
أما الاستدلال فهو إما قياس أو استحسان أو مصالح مرسلة، وهذان الأخيران لم تتوحد عليهما كلمة الأصوليين تعريفا واستعمالا، في حين بالغوا في استعمال القياس، فكانت النتيجة حصر أهلية البحث عن الأحكام على من يتقن أساليب التفسير المنصوص عليها في أصول الفقه، وهذا ما حصر الشريعة في مجالات النصوص، على الرغم مما حدث للمجتمع الإسلامي من تغير في نمط الحياة. أمام هذا الوضع ترك الفقهاء للحاكم السياسي ما سمي بالسياسة الشرعية يمارسها بعيدا عن ضوابط أصول الفقه ومعايير التفسير الفقهي. وكانت هذه بوادر أولى لما سمي لاحقا بالعلمانية ومهد الطريق لدخول النموذج الغربي ليملأ الفراغ.
فماذا يقترح الدكتور أحمد الخمليشي ؟
في تفسير النصوص يقترح، إضافة إلى البحث عن الدلالة اللغوية البحثَ عن الدلالة الغائية أي الحكمة التي شرع الحكم لتحقيقها إحياء من جديد للقاعدة الأصولية "الحكم يدور مع علته وجودا وعدما"، ولمبدأ "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة".
والاستدلال، كما يرى، هو صياغة أحكام التنظيم الاجتماعي فيما لم يرد به نص بمقاييس العدل والخير، وتفادي الظلم والتعسف، في ظل القيم القرآنية، بشرط عدم مصادمة حكم من الأحكام القطعية للشريعة.
الفقرة الثالثة: الرأي الاجتهادي والقائم بالاجتهاد
1- الحكم الاجتهادي
ويقصد به الكاتب كل ما عدا الأحكام المستفادة مباشرة من النصوص القطعية الدلالة وهو إما الحكم المستنتج من نص تقبل عبارته أكثر من دلالة، أو أحكام الوقائع التي لم يرد فيها نص واعتمد فيها أحد أدلة الرأي من قياس أو استحسان أو مصالح مرسلة.
وينبه الكاتب هنا إلى أنه بالرغم من اتفاق الأصوليين والفقهاء على أن الأحكام الاجتهادية ظنية، تجاوز التطبيق الوصف الظني الذي يستحق وصف الشرعية لأنه يجب العمل به، وليس أجنبيا عن الشريعة ولا مخالفا لها، إلا أنه ظني لا يمكن أن يستوي مع الأحكام الثابتة بنصوص الوحي القطعية الدلالة، وإنما يبقى دائما قابلا لإعادة النظر فيه والبحث عن إمكان فهم آخر للنص، أو استنتاج مغاير لاستعمال مغاير لدليل من أدلة الرأي...
ويعود الكاتب مرة أخرى ليؤكد أن وصف الرأي الاجتهادي بحكم الله وتسويته بذلك مع أحكام النصوص القطعية الدلالة أدى في مجال أصول الفقه إلى القول:
- بثبات الحكم الاجتهادي. 
- لا اجتهاد في مورد النص، حيث يؤكد أن هذا المبدأ لا جدال فيه بالنسبة للعبادات، وما منع على المسلم من المحرمات بأعيانها، وكذلك النصوص المتعلقة بالأحكام الكلية التي تشكل مقاصد الشريعة. أما الأحكام الجزئية الخاصة بالمعاملات وتنظيم العلاقات الاجتماعية فإن النصوص المقررة له قابلة للاجتهاد، سواء كانت دلالتها قطعية أو ظنية، أما مع مرور الأيام فقد أصبحت اجتهادات الأمة نصوصا لا يجوز الاجتهاد بوجودها.
- الإجماع لا تجوز مخالفته، وهو الذي لا يتجاوز صفته الاجتهادية التي تعني أنه حكم ظني.
2- القائم بالاجتهاد 
يوضح الكاتب تصور الأصوليين لمؤسسة الاجتهاد الذي كان قائما على:
- التأثر بما كان سائدا في الديانات السابقة السماوية منها وغير السماوية من وجود طائفة ما كان يطلق عليهم اسم رجال الدين (الإكليروس) أو السدنة الذين يختصون وحدهم بفهم الدين والاطلاع على أسراره واحتلال مركز الواسطة بينه وبين العامة.
- تقسيم أفراد الأمة إلى مجتهدين ومقلدين. تقرير هؤلاء الأخيرين غير مكلفين بأكثر من السؤال. ويطرح ضرورة مشاركة العامة في الأحكام بعد الاجتهاد من طرف المختصين لاختيار الأوفق والأرفق.
- التركيز على الجانب الفردي للمسؤولية عن تطبيق أحكام الشريعة، وبالتالي عدم الاعتناء بتنظيم دور السلطة العامة وإجراءات تدخلها في هذا التطبيق.
- الارتباط بواقع حياة المجتمع الذي كانت حاجاته التنظيمية محدودة، سواء في مجال العلاقات الخاصة أو العامة. 
ثم يخلص الخمليشي إلى أن الاجتهاد الفردي، كما يقول به الأصوليون، غير قابل للتطبيق في الواقع الاجتماعي الذي نعيش فيه، مؤكدا على أن:
- الحديث قاصر على العلاقات الاجتماعية.
- قواعد تنظيم العلاقات الاجتماعية لا تتحمل التعدد.
- شكلية إقرار قواعد التنظيم الاجتماعي وقصور طرق الاجتهاد.
- تعذر استيعاب الفرد لكل التخصصات.
ويختم الكاتب بخلاصة ضمنها أفكارا تشكل معالم الطريق الموصلة إلى الهدف المنشود:
1- نشر الفهم المفيد لشريعة الإسلام بين أفراد الأمة، بالتركيز على الكليات والجمع بين الشعائر والسلوك الذي يربط الفرد بالمجتمع... وهذا لا يقوم إلا على مقلِّد ومقلَد. وهذه مهمة الكتاب المدرسي والخطاب الفقهي.
2- تحمل الفقهاء أو العلماء المسؤولية الحقيقية لهذا الوصف.
3- حق إبداء الرأي والالتزام بقواعد المناقشة الفكرية.
4- الآراء الفردية، وإن صدرت من "علماء متخصصين" تبقى فهما شخصيا لنصوص الشريعة قابلة للمناقشة.
5- ضرورة التصور الشمولي لأحكام الشريعة.
6- الشعور بالمسؤولية الكاملة عن فهم نصوص الشريعة بتنزيل أحكامها على وقائع الحياة كما يعيشها الناس أمام أعيننا.
7- إعادة النظر في مضمون أصول الفقه بالإضافة أو بالاستغناء أو بالتعديل.
وما أحوج هذه الأفكار إلى دراسة وتفصيل من الباحثين والمهتمين حتى تشكل فعلا معالم الطريق نحو الهدف المنشود، فيسود الاجتهاد محل التقليد والتجديد محل الجمود.


1- الرسالة ص 20.
2- الخمليشي، التفكير الفقهي ومنطلقات أصول الفقه ص 9.
3-انظر اجتهاد عمر في تقسيم الأراضي وعدم إعطاء نصيب المؤلفة قلوبهم، وعثمان في التقاط ضوال الإبل، وعلي في تضمين الصناع رضي الله عنهم، وانظر أيضا لؤي صافي، إعمال العقل ص 116 وما بعدها.
4- الخمليشي، التفكير الفقهي ص 13.
5- الموافقات 2/215.
6- الخمليشي، التفكير الفقهي ص 20.
7- راجع لؤي صافي، إعمال العقل ص 164.
8- الخمليشي، التفكير الفقهي ص 37.
9- يقصد الخمليشي بالقطعية ما كانت نسبته إلى الشريعة مقطوعاً بها، أي عاضدت الأدلة حتى أصبح الحكم الذي يتضمنه من الشريعة بداهة وبدون شك أو تردد، انظر الخمليشي، التفكير الفقهي ص 21.
10- رغم دعوة الكاتب إلى اجتهاد جماعي فإنه لم يعبر عنه بوصف المؤسسة إلا في هذه الفقرة. وهذا الوصف نجده غائبا عند جلِّ الذين كتبوا في الاجتهاد... وفي دراسة لجمال الدين عطية "تجديد الفكر الاجتهادي" دعا إلى "مأسسة" السلطة التشريعية، وفي مقدمة ذلك تحويل الإجماع والاجتهاد والشورى إلى مؤسسات كخطوة نحو تجديد الفكر الاجتهادي. انظر مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد الثالث عشر، 2000م 1421هـ.

 

 

07-06-2008 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=599