تعيش الجامعة المغربية أزمات مركبة، لعل أبرزها ينجلي في بعدين أساسيين، بعد أول يتعلق ببنية التكوين، ثم بعد ثاني يتعلق بتكوين البنية، وأقصد بتكوين البنية، النسق الهيكلي والمؤسساتي للجامعة الذي لا يعكس في العمق التركيبة المجتمعية، كما أقصد ببنية التكوين، النموذج المعرفي والعلمي الذي يكمن في المحتوى التعليمي والذي يعبر عن الإيديولوجيا السلطوية ولا يعبر بشكل جوهري عن مخاضات التحول الثقافي الذي يعرفه مجتمعنا.
وأسعى ضمن انشغالات هذه المقالة إلى النظر في الموضوع من الزاوية الثانية، أي بنية التكوين في الجامعة المغربية، مع الوعي بالتلازم القائم بين مستويي بنية التكوين وتكوين البنية، كما أحاول التفكير في بنية التكوين من مدخل البحث في قضية التكامل المعرفي.
أعتقد أن جوهر الاختلالات النسقية في البنية التكوينية الجامعية، يتعلق بذلك التفكك الذي تعكسه المضامين التعليمية المعرفية والعلمية، والتي تنتهي بالضرورة إلى حالة من أزمة الهوية تعيشها الجامعة، فإذا تأملنا في الدلالة اللغوية لكلمة الجامعة (université) من حيث تعريفها في القاموس الأوربي، نجد أنها تحيل على "نظام مؤسسي ينظم النسق المعرفي المجتمعي"[1]، ومن ثم تتحدد وظيفتها في إنتاج المعرفة بشكل نسقي، وهو ما تحيل عليه أيضا لفظة الجامعة والجامع في اللغة العربية، ف"جمع الشيء، أي نظمه ونسقه"، مما يدل على أن الدلالة اللغوية للجامعة في المجال التداولي العربي الإسلامي تحيل على معاني النسقية والتكاملية والاستقرار، وهو ما تجد دلالته التاريخية ضمن المضمون العلمي للجامعة الإسلامية (القرويين، الأزهر، الزيتونة..)، والتي كانت تعبر بشكل نسقي عن النماذج المعرفية للعلوم الإسلامية كما تتجلى في تفاعلات النظام المجتمعي (أصول الفقه، أصول الحديث، المنطق، علوم اللغة..)، مما جعل تلك المؤسسات التعليمية حاضنة لكيان المجتمع وهويته ووجوده[2]، وهو ما يتجلى أساسا في المراهنات المجتمعية التي كانت تقع على عاتقها ( التمويل المجتمعي المستقل عبر نظام الوقف..)، وأيضا في الدور الحيوي الذي كانت تمارسه على مستوى الاستقرار النظمي (تخريج الأطر والقيادات المجتمعية من علماء، وقضاة، وخطباء..)[3].
لكن، الملاحظ أن سياق تشكل الجامعة المغربية المعاصرة لم يكن مثار نقاش مجتمعي يطمح للتعبير عن الهوية الثقافية للمجتمع، مما يحدد موقع الجامعة كتعبير عن العقل الجماعي للمغاربة، ولم تكن أيضا مثار نقاش فلسفي يحدد وظيفتها التاريخية، وهكذا ستعبر الجامعة المغربية لدولة ما بعد الاستقلال عن "الإيديولوجيا السياسية السائدة"، وعن النماذج المعرفية المهيمنة.
وإذا كان هذا السياق محددا للبنية التكوينية للجامعة التي تقوم على الفصل بين العلوم الإسلامية (كليات أصول الدين، كليات الشريعة..)، والعلوم الإنسانية والحقوق، ثم العلوم الحية والهندسة، فإن تداعيات هذا الوضع القائم على فلسفة "فصل العلوم والمعارف"، في سياق التحولات التي تدفع بها تيارات "السوق المعولم"، والتي تمثلها النخبة التكنوقراطية في نظامنا السياسي[4]، ينتهي اليوم إلى العمل على "تهميش" العلوم الإنسانية والاجتماعية، ما دامت النخبة التي تمثل هذه الأخيرة فاقدة لاختيارات فكرية مستقلة وقابلة للاندراج في مسلسل شرعنة القرار العام (يمكن التفكير في النخبة العلمية التي أعدت تقرير الخمسينية).
كما أن هذا الموقف السياسي الذي يتبناه تكنوقراطيو النظام السياسي، يتماشى مع تيار عالمي يعمل على "أقصدة الحياة" (l économisation du vie )، أي إخضاعها للمنطق الاقتصادي المقاولاتي الذي يعلي من شأن المهارات والتقنيات على حساب القيم والمعارف في بناء المنظومة التكوينية[5]، وهو ما سماه الفيلسوف يورغن هابرماس ب "تيار المصلحة"[6] الذي يعلي من شأن العلوم التقنية على حساب المعرفية التأملية ذات الرهانات المجتمعية والتواصلية.
إن السيرورة المطلوب أن تندرج ضمنها الجامعة على مستوى "بنيتها التكوينية"، هي سيرورة الانتقال الحضاري (أفق النهضة)، التي تشكل الخلفية الأساسية والعميقة لجميع السيرورات الأخرى (سيرورة الانتقال التنموي، سيرورة الانتقال الديموقراطي ..)، فإذا كانت سيرورة الانتقال التنموي تراهن على المعرفة التقنية العملية....، فإن سيرورة الانتقال النهضوي تحمل معاني المراهنة على الإنسان باعتبار طبيعته التكوينة المركبة، بما هي روح ووجدان وعقل وجسد، وهي الأبعاد التي تنجلي في الاحتياجات المجتمعية التي تعكس هذه الروح الإنسانية.
ولذلك نعتقد أن فلسفة التكامل المعرفي تستجيب بعمق لإحدى أبعاد سيرورة الانتقال النهضوي، أي البعد التعليمي المتعلق ببنية تكوين الجامعة، وإذا كان لفلسفة التكامل المعرفي حضور تاريخي في الحضارة الإسلامية على مستوى تكوين البنية وبنية التكوين معا، فإنها اليوم تجد حضورها في كبرى النظريات الابستمولوجية (نفكر أساسا في أعمال كارل بوبير..)[7]، مما يعني أن استعادة هذه الفلسفة ضمن مسلسل "إعادة تشكيل" البنية التكوينية" للجامعة، سيسمح باستعادة عمقها الحضاري والتاريخي، وأيضا التفاعل مع التطورات المعرفية على المستوى الكوني، كما سيسمح منطقيا بتجاوز ثنائية الكوني والخصوصي في التعاطي مع المعرفة، ومن ثمة تجاوز "المنطق التوافقي" في التعاطي مع المعرفة على المستوى المرجعي.
إن فلسفة التكامل المعارفي، تندرج ضمن الأعمال النظرية حول ما يسمى "تقاطع موضوعات العلوم"[8] (transdisciplinarité ) والتي تحاول أن تنطلق من زاوية شمولية في النظرة للكائن المستهدف بالتكوين المعرفي، بحيث يصير التخصص في مجال معين لا يعني انعدام التكوين في مجالات أخرى، أقرب إلى ذلك المجال المتخصص، إذ لا شك أن هناك تقاطعا جوهريا بين الطب وعلم الاجتماع الطبي والانتربولوجيا الطبية، وعلم النفس..، وأيضا هناك تقاطع كبير بين تدبير الموارد البشرية وعلم السياسية أو علم الاجتماع...
وحاصل القول، إن هذا التقاطع الموضوعاتي للعلوم والمعارف على مستوى "بنية تكوين" الجامعة على مستوى مضمونها العلمي والمعرفي والابستمولوجي، سيسمح بتحقيق رهانات أساسية؛ قوامها، الشمولية في الفهم والتفسير بما يستوعب التعددية في مستويات الواقع ومنطقه، وتتويج المعرفة النسقية وتجاوز الانغلاق في بنية التخصص، ثم تمكين البحث العلمي الجامعي من القدرة على التكيف والاندماج في التحولات المجتمعية الأساسية.
وهي الرهانات التي لا يمكن كسبها، إلا عبر إعادة النظر في تكوين بنية الجامعة، بما يستوعب النسق الهيكلي والمؤسساتي للجامعة الذي لا يعكس في العمق – حاليا - التركيبة المجتمعية والحضارية والتاريخية لبلادنا.
وتلك قصة أخرى...
أصل هذه المقالة مداخلة تقدم بها الباحث ضمن أشغال الملتقى العلمي الوطني لمنظمة التجديد الطلابي، حول موضوع "إصلاح التعليم بالمغرب: الجامعة أول"، نظمت أيام 28، 29 أبريل 2008 بجامعة الراشيدية.
[1] - للتعمق في فهم علاقة المعرفة بالنظام المجتمعي، يمكن العودة إلى:
جورج كورفيتش: الأطر الاجتماعية للمعرفة، ترجمة د .خليل أحمد خليل ، ديوان المطبوعات الجامعية ، الجزائر ، 1981
[2] - للتعرف بتفصيل حول أنواع المعرفة العلمية يتعين العودة إلى :
- محمد غلاب : المعرفة عند مفكري المسلمين ، الدار المصرية للتأليف والترجمة القاهرة ، 1996.
[3] - أنظر: عبد الرحمن حللي: أزمة البحث العلمي في الجامعات الإسلامية: انتكاس المنهجية في بناء المعرفة، مجلة الملتقى للإبداع الفكري.
[4] - نحيل هنا على التقرير الأول للمجلس الأعلى للتعليم حول الحالة الراهنة للمنظومة الوطنية للتربية والتكوين وآفاقها برسم سنة 2008، والذي كان من بين توصياته "إطلاق مبادرات موجهة للبحث والابتكار محددة في مجالات: البيوتكنولوجيا، ونانوتكنولوجيا، والالكترونيك، والطاقة، والصحة، ثم الصناعة الغدائية".
[5] - عزالدين العزماني: "إشكالية القيم وسؤال المرجعية"، ضمن مداخلات "الجامعة والموطنة والمقاومة" مؤلف جماعي، دجنبر 2006.
[6] - للاستزادة يمكن العودة ليورغن هابرماس، "المعرفة والمصلحة"، ترجمة، تحقيق: حسن صقر - إبراهيم الحيدري.
[7] - كارل ر. بوبر: "أسطورة الإطار في الدفاع عن العلم والعقلانية" ، تأليف كارل بوبر ، تحرير مارك.نوترنو ترجمة أ د. يمني طريف.
[8] - يشكل هذا الأفق المنهجي إحدى الرهانات الأساسية ل"مجموعة العلم والثقافة" التي تشكلت بجامعة محمد بن عبد الله بوجدة، والتي لم يكتب لها الاستمرار ضمن الخط التحريري لمجلة المنعطف بالنظر إلى توقف هذه الأخيرة عن الصدور، مما يشكل في نظرنا خسارة علمية كبيرة.