/

 

 

التأصيل القرآني للمعرفة: قضية الأخلاق نموذجاً

عبد الرحمن حللي

لئن كانت العقائد والأخلاق والشرائع هي ما يميز الأديان، فمن البديهي أن تشتمل نصوص كل دين على ما يكشف عنها ويبيّنها لأتباعه. وعليه، فإنه من الطبيعي أن يعالج القرآن القضية الأخلاقية ويتضمن حولها ما يؤسس رؤية متكاملة حول النظرية الأخلاقية في الإسلام، بل إن أهم وظيفة للقرآن في حياة الإنسان تقتضي ذلك، فالقرآن كتاب هداية، «إِنَّ هَذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ» (الإسراء:9)، والأخلاق جزء من هذه الهداية التي جاء بها القرآن.
وبحثاً عن هذه الهداية نشأت العلوم الإسلامية تستكشف القرآن جواباً عن قضايا المعرفة وأسئلة الواقع، ولم تكن تلك العلوم بمعزل عن مسار المعرفة في التاريخ. إذ دخلت المعارف الفلسفية في الحضارة الإسلامية، فاستوعبها علماء المسلمين ووظفوا أدواتها في صياغة العلوم، وخضعت للنقد والجدال، وكانت الأخلاق في صميم تلك المعارف التي أخضعت للنقد والتنظير الفلسفي، وتم ذلك بالموازاة مع مسار آخر للأخلاق هو السلوك العملي والتطبيق الميداني للتعاليم الأخلاقية. وخضع هذا الجانب للتدوين، لكنه لم يكن تنظيراً علمياً إنما من قبيل كتب النصائح والرقائق والأدب والتربية.
في ظل هذا المسار من التنظير الإسلامي في علم الأخلاق الملتبس بصيغة فلسفية حكمت مسار العلوم عموماً، ظهرت محاولة للبحث عن نظرية الأخلاق من خلال القرآن مجردة من التأثير الفلسفي في التنظير. وأبرز هذه المحاولات دراسة المرحوم الدكتور محمد عبد الله درَّاز (1958) بعنوان: «دستور الأخلاق في القرآن : دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن»، وهي أطروحة دكتوراه بالفرنسية نوقشت في 15/12/1947م، في جامعة السوربون، وكان المشرف عليها المستشرق المعروف لويس ماسينيون M. Louis Massignon.
وكان دافع الشيخ محمد عبد الله دراز لدراسته ما لاحظه من وجود فراغ هائل وعميق في مؤلفات علم الأخلاق العام، إذ وجد فيها قفزاً من الوثنية الإغريقية إلى أديان اليهودية والمسيحية إلى العصور الأوروبية الحديثة مع إغفال ما يمس علم الأخلاق القرآني. أما الدراسات العامة حول الإسلام في القرن التاسع عشر، فوجدت فيها محاولات استشراقية لاستخراج المبادئ الأخلاقية من القرآن، لكن إطارها كان محدوداً، إذ انحصرت جهودهم في أن جمعوا عدداً من الآيات القرآنية وترجموها ترجمة حرفية، ومن نماذج هذه المحاولات «القرآن: مبادئه وواجباته» (باريس1840) للمستشرق جارسان دي تاسي Garcin de Tassy ، الذي يعتبر أول من استهل هذه المجموعة من النصوص المختارة، وتبعه آخرون.
أما في المضمون، فهي بعيدة من المطابقة الدقيقة للنظرية القرآنية، وترجع عيوب المضمون إلى: «ترجمات غير صحيحة وإما إلى تلخيص سيئ، وإما إلى الأمرين معاً، وهو ما نجده واضحاً لدى المستشرق جول لا بوم Jules La Beaume ، في كتابه «تحليل آيات القرآن» (باريس 1878)، وهو مع ذلك أقل الأعمال التحليلية في هذا المجال بعداً من التمام».
أما المكتبة الإسلامية، فيلاحظ أنها لم تعرف سوى نوعين من التعاليم الأخلاقية: فهي إما نصائح عمليه هدفها تقويم الأخلاق، مثل رسالة ابن حزم «مداراة النفوس»، وإما وصف لطبيعة النفس وملكاتها وتعريف للفضيلة وتقسيم لها، ترتب غالباً على النموذج الأفلاطوني أو الأرسطي، وربما تعاقب المنهجان معاً كما في كتاب «الذريعة» للأصفهاني وفي كتب الغزالي لاسيما كتابه «إحياء علوم الدين»، وما وجد من مقاربات لقضايا أخلاقية في العلوم الإسلامية كالحسن والقبح والمسؤولية والأخلاق الصوفية، فإنها كانت أفكاراً متناثرة في كل المذاهب، وكانت تصدر من روح المذهب الذي ينتمي إليه مؤلفوها، والقرآن لا يرد ذكره فيها إلا بصفة مكملة شاهداً أو برهاناً على فكرة أو أخذ بها سابقاً.
أما في المجال العملي، فحاول الغزالي في كتابه «جواهر القرآن» أن يحلل جوهر القرآن، وأن يرده إلى عنصرين أساسيين أحدهما يتصل بالمعرفة (763 آية). والآخر بالسلوك (741 آية)، لكن هذا التصنيف لم يعقبه ما يبنى عليه، كما أنه صنفه على ترتيب السور، فكانت مجرد جمع لمتفرقات لا تربط بينها قرابة، ولا يظهر فيها تسلسل للأفكار، ففقدت الوحدة الأولى لكل سورة، ولم توجد وحدة منطقية تربط بين الأجزاء المختارة، أو تصنيف منهجي تقتضيه قاعدة التعليم. (ص:7)، وهذا شأن كتب أحكام القرآن أيضاً، فلم تحظ الأخلاق العملية بتأليف متماسك.
ويصل دراز من نقده هذه المصادر إلى أنه لم ينهض أحد باستخلاص الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعه، ولم يقدم أحد مبادئها وقواعدها في صورة بناء متماسك مستقل عن كل ما يربطه بالمجالات القريبة منه، وكان السؤال الجوهري لدراز في أطروحته هو: كيف يصور القرآن عناصر الحياة الأخلاقية؟ وكان هدفه الرئيس في أطروحته إبراز الطابع العام للأخلاق التي تستمد من القرآن من الناحيتين النظرية والعملية، محاولاً سدّ ثغرة في مؤلفات علم الأخلاق العام، فكان هدفه صريحاً «ملء هذه الفجوة في المكتبات الأوروبية، وحتى نري علماء الغرب الوجه الحقيقي للأخلاق القرآنية، وذلكم في الواقع هو هدفنا الأساسي من عملنا هذا» (دستور الأخلاق، ص:4).
ويميز دراز ابتداء بين فرعين لعلم الأخلاق هما النظرية والتطبيق، ففي الجانب العملي استخلص النصوص ذات الصلة بالموضوع، لكنه لم يلتزم أن يستوعبها إنما يكتفي بما يدل على القواعد المختلفة للسلوك، مع تجنب التكرار. كما اعتمد النظام المنطقي في التصنيف بدلاً من ترتيب السور أو الترتيب الأبجدي، بحسب العلاقة التي سيقت القاعدة لتنظيمها. فركز اهتمامه في الجانب النظري على المجال الأخلاقي، ووضع كل مسألة في المصطلحات التي تصاغ بها لدى الأخلاقيين المحدثين، واتخذ من القرآن نقطة انطلاق للإجابة عن كل مسألة، وبالرجوع المباشر إلى النص ولاقى صعوبة كون النصوص المتعلقة بالنظرية الأخلاقية ليست بالكثرة والوضوح اللذين تمتاز بهما الأحكام العملية.
وانصب الجهد الأكبر في دراسته في البحث عن أسس النظرية الأخلاقية في القرآن. ويصل إلى أن القرآن وضع قاعدة للسلوك شاملة ومفصلة، وأتبعها بقواعد من المعرفة النظرية أعظم متانة وأشد صلابة. وكخلاصة لمنهجه، يمكننا القول أنه اعتمد التأليف المنهجي والتصنيف الجامع، فقسم عمله إلى دراسة نظرية وأخرى عملية، واستخلصها من القرآن الكريم. لكنه عالج المسائل الأخلاقية بحسب المفاهيم التي تعالج بها عند علماء الأخلاق المحدثين، فكان مفتاح الدراسة مصطلحات غربية في علم الأخلاق. أما في المضمون، فكان المادة العلمية قرآنية مقارنة بالدراسات الإسلامية السابقة وببعض الدراسات الغربية.
وحول خصائص وسمات الأخلاق العملية في القرآن، يصل إلى ما يلي:
حافظ القرآن على ما سبقه وكان استمراراً له، وتميز عنه بضمه جوهر القانون الأخلاقي كله.
طريقة القرآن في صياغة دروس الماضين وتقريبها تميزت بتقديم تنوعها في وحدة لا تقبل الانفصام.
ضم القرآن فصولاً جديدة كاملة الجدة في التعاليم الأخلاقية، وختمت إلى الأبد العمل الأخلاقي.
تميز المنهج القرآني بالبساطة والوضوح، فكانت أقواله المبينة للقواعد الأخلاقية بين المجرد الغامض والمبهم وبين الحسي المفرط في الشكلية.
يطمئن الأسلوب القرآني النفس الإنسانية إلى سعادة مزدوجة تجمع بين النقيضين، الخضوع في الحرية، واليسر في المجاهدة، وبفضل أسلوبه المتمثل بلطف في حزم، وتقدم في ثبات، وتنوع في وحدة.
استبعاد المبالغة والإفراط في (كيف؟ وكم؟) من القواعد القرآنية، ليتسنى للفرد أن يمارس طاقته العقلية والجسمية والخلقية بطريقة تختلف عن غيره.
وسرد نصوص الأخلاق العملية مصنفة في آخر الكتاب في خمسة فصول هي: الأخلاق الفردية، الأخلاق الأسرية، الأخلاق الاجتماعية، أخلاق الدولة، الأخلاق الدينية. ثم اختتمها بنصوص تجمع أمهات الفضائل الإسلامية، واكتفى في هذا القسم بسرد النصوص مصنفة بحسب الفصول مع عناوين جزئية، وهي تمثل جواباً للتساؤل الذي يعقب العرض النظري للأخلاق: ماذا يجب أن أعمل؟ فالأخلاق العملية تجيب عن ذلك، إذ نرى فيها طريقاً مرسوماً لنشاطنا في كل ميادين الحياة.
أما الأخلاق النظرية، فقسم دراسته لها إلى خمسة فصول، هي: الإلزام، المسؤولية، الجزاء، النية والدوافع، الجهد. وهي كما نرى من عناوينها مصطلحات حديثة درس من خلالها النص القرآني باحثاً عن سمات الواجب وعن طبيعة السلطة التي ينبعث منها الإلزام أو التكليف، وعن درجة المسؤولية الإنسانية وشروطها، وعن طبيعة الجهد المطلوب للعمل الأخلاقي، والمبدأ الأسمى الذي يجب أن يحفز الإرادة على العمل، فاستخلص صيغاً تجيب عن سؤاله الجوهري: كيف يصور القرآن عناصر الحياة الأخلاقية؟
أخيراً يمكننا القول إن دراسة الأخلاق من خلال القرآن تمثل مدخلاً أساسياً في فهم النظرية الأخلاقية في الإسلام، وبالتالي فهم كثير من المشكلات التي تحول بين المسلمين وبين تمثل تلك الأخلاق. فهي أخلاق متكاملة ولا بد من التعامل معها ككل. وتمثل دراسة الدكتور دراز نقلة نوعية في دراسة الأخلاق في الإسلام، لكنها التبست بمداخل الفلسفة الأخلاقية الحديثة وفرضت المقارنة عليه الانطلاق في التأصيل من مصطلحات غير قرآنية. لكن دراسة أخرى قريبة العهد به شكلت نقلة نوعية أيضاً في دراسة الأخلاق القرآنية، وهي دراسة الباحث الياباني توشيهيكو إيزوتسو حول «المفهومات الأخلاقيّة - الدّينيّة في القرآن» Ethico – Religious Concepts in the Quran ، (صدرت اخيراً ترجمتها العربية في حلب) وتميزت باكتشاف المنظومة القرآنية للأخلاق من خلال المفاهيم القرآنية، لكنها اقتصرت على الأخلاق الدينية. ولعل الدكتور دراز كان يطمح أن يقوم بعمل من هذا النوع، أعني أن تكون دراسته قرآنية بحتة، لكن شروط البحث الجامعي اقتضت منه المقارنة. ومع ذلك، فإن كلا الدراستين لم تحظ بالاهتمام الذي يليق بهما، على رغم مضي زمن على صدورهما.

 

 

05-07-2008 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=612