/

 

 

وجهة الإسلام بين قوته الإرهابية وإمكانات استعماله الاسترهابية

عبد الجليل الكور


لقد ﭐستشرى، على ﭐلمستوى ﭐلعالمي، إنتاج ﭐلخطاب حول ما شاعت تسميته في ﭐلعربيةبـ"الإرهاب" ويسمى -مع حفظ الفارق- فِي ﭐللغات ﭐلْأوروﭘﻴﺔ « terrorism (e,o) »، حتى صار كل فعل فردي أو جماعي وكل رد رفيق أو عنيف يخالف، بهذا ﭐلقدر أو ذاكـ، ما يكرسه ﭐلعرف ﭐلسائد فِي فضاء ﭐجتماعي معين، معرضا لأن يُوصَمُ بـ"ﭐلْإرهاب" ويُوصَفُ صاحبه بأنه "إرهابِي". ونجد أن أمريكا وإسرائيل، مع كل أتباعهما وحلفائهما عبر العالم، يزعمون أن من بين أهم الأخطار والتحديات اللتي تواجه الإنسانية اليوم، وربما في المستقبل أيضا، هناكـ "الإرهاب" ؛ وأن ما يميز هذا "الإرهاب" هو كونه يستند إلى "الدين"، ليس إلى أي دين من الأديان اللتي يَعِجُّ بها العالم، وإنما هو "إرهاب ديني" يرتكز أساسا على "الإسلام" وينتشر فعليا بين "المسلمين". وإذا علمنا أن "المسلمين" يمثلون في العالم اليوم مليارا ونصفا، وأنهم ينتشرون عبر القارات الخمس، حيث إنهم يمثلون في عدد من الدول أكثرية (أكثر من خمسين دولة عبر العالم) وفي بعضها أقلية قد تبلغ مئة مليون (كما في الهند) وحيث إنهم لا تكاد تخلو منهم دولة، فإن الأمر يزداد خطورة وشدة !

هكذا صارت تلوح الصورة في أذهان كثير من الناس في العالم، بعدما تم عرضها وفرضها، بكل الأدوات المتوفرة والناجعة. ومن ثم، فإن "الإرهاب الإسلامي" قد أصبح هو الخطر الحقيقي اللذي يزعج النفوس اللتي كانت موضوعا لفعل وتأثير حملات الإنذار بالشر الجديد اللذي يهدد عالم البشرية الآن.

ولقد أعطت هجمات 11 سبتمبر 2001 كل ما كان يلزم من "شرعية" وقوة لما أصبحت تسميه القوى المهيمنة في العالم، بزعامة الولايات المتحدة، "محاربة الإرهاب". فمنذئذ صارت كل حرب تخوضها تلك القوى (وهي هيئات جَمْعِية مُنَظمِيَّة ومُؤسَّسِية لا تنحصر في "دول") تبرر بالنسبة إلى "محاربة الإرهاب"، بِما هي القضية الِاستعجالية الكبرى في العالم اليوم. وليس يخفى أن هذه القوى تعرض (وتفرض) مسألة "محاربة الإرهاب" بواسطة نَسق تبليغي وتدليلي يشكل خطابا كاملا ويبدو وقد ضُمِنت له كل مقومات الِاستمالة والِاستقطاب.

ولعل من أشد ما تعانيه ﭐللغة ﭐلعربية أن تكون مَجْلًى لِما يَحْيَاهُ عموم مستعمليها، خَاصِّـيِّهِمْ وعَامِّـيِّهم على سَوَاءٍ، من مُمارسات ﭐلتقليد، إما فِي ﭐتِّجاهِ مَاضٍ مَحلي مَجيد وإما فِي ﭐتِّجاهِ حاضرٍ أجنبِي باهر. فعلى ﭐلعكس من ﭐللغات ﭐلغالبة فِي ﭐلعالَم ﭐليوم، ﭐللَّتِي يَجتهد مستعملوها مَا وَسِعَهُمُ ﭐلْأمر فِي ﭐلبناء وﭐلْإبداع من خلَال ما تُـتِـيحُه لَهم، تظل ﭐلعربية مَوْقُوفَةً حَصْرًا لتكرار تراثٍ متفلت أو مُحاكاة تداول مَخصوص. وإننا لا نَحتاج أن نذهب بعيدا في البحث لنتبيَّن أن مستعملي لعربية لْمحدثيـن لَا يتورعون عن ستعمالِها بشكل فاسد ومفسد، ستعمال يَخرج، في غالب الأحيان، عن الشروط التصريفية والتركيبية والتداولية المحددة لها. وإن فُشُوّ استعمال لفظي "إرهاب" و"إرهابي" لَهُوَ وَاحِدٌ من الأدلة البينة على ذالكـ .

لقد شاع ﭐستعمال لفظ "ﭐلْإرهاب" تَرْجَمة للمصطلح ﭐلْأجنبِي«terrorism/terrrorisme». ولفظ "ﭐلْإرهاب" -فِي لعربية- ﭐسمُ فِعْلٍ (هو اللذي شاعت تسميته، خطأ، بـ"لْمصدر") مِنْ "أَرْهَـبَـ(ـهُ)¬ يُرْهِـبُـ(ـهُ)" بِمَعْنَى "أخافَـ(ـهُ)" و"أَفْزَعَـ(ـهُ)". ونَجدُ فِي ﭐلْمعجم ﭐلوسيط (بِما هو واحد من أهم لقواميس لْحديثة فِيلعربية) : "ﭐلْإرهابيون وصفٌ يُطلق عَلَى ﭐلذِين يسلكون سبيل ﭐلعنف وﭐلْإرهاب لتحقيقأهدافهم ﭐلسياسية". ونفهم من هذا أن لفظي "إرهابِي" و"إرهاب" ﭐسْـتُـعِيـرَا، هنا، لِأداءلْمعنَى لْمتعلق باللفظيْن لْأجنبيَّـيْنِ : لصفة (terrorist/terroriste) ولِاسم (terrorism/terrrorisme). لَاكِنَّ أولَائكـ ﭐللَّذِين ﭐستعاروا لفظي "إرهاب" و"إرهابِي" بِهَذَا ﭐلشكل أغفلوا مقتضى تداوليا يتحدد بالِاستعمال ﭐلقرآنِي لِلَّفظ، ﭐلوارد فِي ﭐلسياق ﭐلتالِي :«وَلَا يَحْسَبَنَّ ﭐللَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا : إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ. وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا ﭐسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍوَمِنْ رِبَاطِ ﭐلْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ ﭐللَّاهِ وَعَدُوَّكُم، وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ، ﭐللَّاهُيَعْلَمُهُمْ. وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ ﭐللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ.» (ﭐلْأَنْفَالُ : 59-60)، حيث إن هَذَا ﭐلسياق يَجعل لفظ "ترهبون" يتحدد، نَحْوِيًّا، بأنه "فِعْلٌ" بِمعنَى "تُخِيفُونَ" ؛ و، من ثَم، فلفظ "ﭐلْإرهاب" ﭐسمُ فِعْلٍ يدل على معنى "حصول أو تحصيل الرهبة لدى الغير بسبب لْخوف للَازِم، ﺑِﭑلضرورة، عن كل إعداد للقوة"، أي أنه لَيْسَﭐستعمالًا معينا للقوة ؛ مِمَّا يَجعل فعل "أرهب" يقابل ما يعبِّر عنه ﭐلغربيون بـ«terrorize/terroriser » أَوْ «terrify/terrfier»، بِمَعْنَى "خَوَّفَ/فَزَّعَ". ومن هنا، فإن الأمر الموجود في الآيتين السابقتين والمتعلق بدعوة المسلمين إلى إعداد القوة - مطلق لقوة ("ما ستطعتم من قوة")-، ثم شيء من لقوة لحربية ("ومن رباط لخيل") دعوة إلَى "لإرهاب" (أي لْإخافة ولتخويف)، بِما أن إعداد لقوة مطلوب لغاية تتحدد فِي "إرهاب عدوللَّاهِ وعدوكم" !

وبناء على ذالكـ، أفلَا يكون صنيع أصحاب لْمعجم لوسيط (باختيارهم لفظي "إرهاب" و"إرهابِي") تشريعا لغويا-دينيا لـ"ستعمال لعنف لتحقيق أغراض سياسية"؟ ألَا يكون، إذًا،ستعمال لعرب ولْمستعربيـن لْآن للفظ "إرهاب" و"إرهابِي" ستعمالًا يَجعل لْإسلَام دينا يُشَرِّع "لْإرهاب" ("دين إرهاب" و"دينا إرهابيا") ويَجعل، من ثَم، لْمسلميـن "إرهابييـن"؟ ألا يكون هذا تبريرا لا غبار عليه للحرب العالمية ضد "الإرهاب" الإسلامي، "الإرهاب" الخاص بالمسلمين؟ ترى، إلَى أي حَدٍّ يقبل لْمسلمون أن يكونوا أصحاب دين يقوم على الدعوة إلى "لإرهاب" فِي ظل لتوجه لعالَمي إلَى ستئصال "لْإرهاب" بِما هو "عنف غيْر مشروع" يهدد لسلَام لْمدنِي فِي مُجتمعات لعالَم لْمعاصر؟

إن "ﭐستعمال ﭐلقوة والعنف لتحقيق غرض سياسي معين" قد أتى ذكره فِي ﭐلقرآننفسه بشأن موسى مع سحرة فرعون : «وَجَاءَ ﭐلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ، قَالُوا : "إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّانَحْنُ ﭐلْغَالِبِينَ". قَالَ :"نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ﭐلمُقَرَّبِيـنَ". قالوا : يا موسى إما أن تُلقي وإما أن نكوننحن ﭐلْمُلْقِيـن. قال: ألقُوا. فلما ألقوا سحروا أعيُنَ ﭐلناس وﭐسترهبوهم، وجاءُوا بسحرعظيم» (ﭐلْأعراف : 115-116)، حيث إن "ﭐسْتَـ-ـرْهَبُوهم" يعنِي "طلبوا إرهابَهم أَوْ جعلوهم فِي رهبة". فـ"ﭐلِاستـ-ـرهاب"، إِذًا، هُو "استعمال ﭐلعنف ﭐلْمادي و/أَوْ ﭐلرمزي طلبالتحقيق هدف سياسي، ينتج فِي- ﭐلغالب- عن طريق إرهاب ﭐلناس".

ومن ثم، كم يكون ﭐلأمر خطيـرا أن يكون ﭐلقرآن قد تضمن ﭐلْأمر للمسلميـن بإعداد ﭐلقوة "لِإرهاب" عدوهم، وأن نجد مَنْ يستعمل – بوعي أَوْ من دونه- لفظ "الإرهاب" و"الإرهابِي" للدلالة عَلَى ما يسمى فِي ﭐلقرآن بـ"الاسترهاب" أو "الإفساد" و"اُلْمفسدين فِي ﭐلأرض" وما يصطلح عليه ﭐلْفقهاء بـ"اُلْحِرَابة" و"اُلْمُحَارِبيـن" أَوْ ما يقترفه "الخوارج" و"المتطرفون" فِيإطار ﭐلرد عَلَى ﭐلعنف ﭐللَّذِي تُمارسه أجهزة ﭐلدولة أَوْ ابتدار عنف سياسي لِمُنازعة ﭐلسلطان ﭐلقائم !

يتبين، إذًا، أن مصطلح "الاسترهاب" هو الكفيل بأداء معنى "استعمال الوسائل الإرهابية-المرهبة (سواء كانت مادية كالقوة أو معنوية كالسحر) لأغرض مذهبية أو سياسية معينة". وعلى هذا، يكون الإسلام "دينا إرهابيا"، لأنه قائم على طلب القوة الرادعة-المرهبة، لاكنه من الناحية المبدئية ليس "استرهابيا"، لأنه قائم على "الحق" بما هو مجموعة من الأصول التي تكفل "العدل" و"التعارف" بين الناس، وهي الأصول التي تُقَوِّم "روح الشريعة" كمقاصد مثلى تدور بالأساس على حفظ كرامة الإنسان كمخلوق إلاهي مفضل على كثير من العالمين. وكون الإسلام ليس استرهابيا من الناحية المبدئية، لا يجعله يبقى كذالكـ في الواقع الفعلي، إذ أن استعمالات الإسلام كما يؤكدها التاريخ الماضي والحاضر يمكن أن تتخذ منحى استرهابيا في ظل أنظمة الحكم الطغيانية والاستبدادية (كما عرف، قديما، مع بني أمية و، حديثا، مع معظم نظم الحكم في العالم الإسلامي) أو في فترات التأزم السياسي والتمزق الاجتماعي (طائفة الخوارج، طائفة الحشاشين، طوائف التطرف المعاصرة). وهذا معناه، في الحقيقة، أن الإسلام قوة إرهابية-مرهبة بالنسبة إلى أعدائه وخصومه (بحكم أن كل ذي قوة مرهوب)، في حين أن المسلمين يمكنهم أن يكونوا قوة استرهابية بهذا القدر أو ذاكـ حسب شروط الواقع المعيش اللتي تدفع الناس عادة إلى التنافس والصراع باستعمال كل الوسائل الممكنة. وذالكـ كما هو الحال تماما بالنسبة إلى كل القوى الأخرى عبر التاريخ وفي كل جهات العالم. ومن هنا، فإن التمييز بين "الإرهاب" كأثر ملازم للقوة و"الاسترهاب" كاستعمال معين للقوة يُمَكِّننا من تجاوز الالتباس المحيط بهذه الظاهرة البشرية التي لا تعود، بالتالي، حكرا على شعب بعينه أو خاصية مقومة ذاتيا لدين أو مجتمع ما. فكما يمكن أن يكون "الإسلام" دينا استرهابيا على أيدي أناس يستعملونه بكيفية مغرضة ومنحرفة، فإنه يمكن أن تكون هناكـ طائفة أو دولة استرهابية لأنها تستعمل كل إمكانات القوة من أجل الهيمنة اقتصاديا أو سياسيا أو ثقافيا على المستوى الإقليمي أو العالمي. ولهذا، فإن "الاسترهاب"، كاستعمال مغرض وغير مشروع للقوة، يقترن أشد ما يكون الاقتران بمظاهر التفاوت والتنافس اللتي عرفتها المجتمعات الإنسانية منذ أقدم العصور، بل إن الواقع المعاصر إذا كان يبدو أشد ملاءمة لأعمال "الاسترهاب"، فليس ذالكـ إلا لكونه قائما على الصراع والتفاوت في أشد مستوياتهما. ولعل الدول الغربية، خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية ومحظيتها إسرائيل، تقدم أفضل نموذج للدول الاسترهابية، ليس فقط لأنها عرفت قيام أنظمة استبدادية وطغيانية (النازية، الفاشية، الشيوعية) أو منظمات استرهابية مشهورة (الكلوكس كلان، الإرغون، الألوية الحمراء، جناح الجيش الأحمر)، بل لكونها ما فتئت تستعمل على نحو غير مشروع القوة الإرهابية-المرهبة في التعامل مع المجتمعات والدول الأخرى، وذالكـ في حرصها الدائم والشديد على التوسع الهيمني عبر العالم.

ومن ثم، فإن الإسلام، في دعوته إلى إعداد القوة بإطلاق، لا يمكنه إلا أن يرهب أعداءه، يرهب منهم العدو المحارب كما يرهب الخصم المنافق. وإن إرهاب الإسلام لأعدائه وخصومه لا يكف عن الازدياد ما دام أتباعه يتكاثرون على نحو لا يجدي في وقفه كيد الكائدين ومكرهم بالليل والنهار. ومع ثبوت صفة "الإرهابي" كخاصية مميزة للإسلام بما هو دين "مُرهب" و"مرهوب" (بل أيضا "راهب" أو "رهباني"، من حيث إن "الجهاد هو رهبانية أمة المسلمين")، تزداد الحاجة إلى تمييز الاستعمال "العمراني/الاستعماري" للإسلام عن الاستعمال "الاسترهابي" له بكل إمكاناته. لذا، فإن تحديد مفهوم "الاسترهاب"، كعنف إفسادي غير شرعي وغير مدني، يقود إلى تمييز العمل الإسلامي في استناده إلى القوة الطبيعية وفي استكماله للقوة بواسطة التسديد الشرعي على النحو اللذي يجعلها قوة إصلاحية تعمر الأرض (أو تستعمرها) وتصلح بين الناس بالقسط والمعروف. ومن هنا، فإن "الجهاد" في الإسلام يتحدد بالأساس كمغالبة أو منافسة في الجهد العمراني-الاستعماري وليس فقط كما يظن كثير من الناس كـ"بذل للجهد القتالي". وإذا كان الإسلام يُرهب بقوته، فإن هذه القوة المرهبة لا تأخذ معناها الكامل إلا بما هي قوة جهادية، أي قوة تعميرية/استعمارية أو قوة إصلاحية وحضارية. ولذا، فإن أي تحريف في الإسلام، بما هو قوة جهادية، يؤدي بالضرورة إلى جعله قوة إفسادية تسترهب الناس وتستكبر على العالمين، تماما كما حصل مع الأمم السابقة اللتي حرفت هدي المرسلين ابتغاء العلو في الأرض وابتغاء الفساد، وأيضا مع الأمم الحاضرة اللتي تحتذي حذو سابقاتها من الأمم المستكبرة في حرصها على "الاستعلاء" اللذي لا ينفكـ عن "الاسترهاب". ولذا فإن استعمالات الإسلام المنحرفة سرعان ما تُحَوِّل إمكانات القوة فيه (تلكـ القوة المرهبة) إلى نزوع استرهابي قائم على الاستكبار على الناس والاستعلاء في الأرض. وهذا بالضبط ما تقوم به أمة المسلمين الآن (وعلى الأقل منذ بضعة قرون) كأمة غثائية خالفت الأمر الإلاهي فصارت تستكثر بالأعداد وتزهد في كل إعداد، مما لم يجعلها تأمن الوقوع في "الاسترهاب" على نحو مكن منها أعداءها اللذين ما فتئوا يتكالبون عليها كما يتكالب الأكلة إلى قصعتهم اللتي ليست سوى خيرات المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.

وإن تعجب، فعجب من أن مستعملي العربية (بمن فيهم من فقهاء في اللغة وجهابذة في البيان) لم ينتبهوا إلى شيء من ذالكـ، اللهم إلا المحاولة التي قام بها الشاعر جلول دكداكـ اللذي كتب (منذ 2004) في تأصيل لفظ "إرهاب" برده إلى معناه القرآني وبيان أنه لا يحتمل أن يؤدي معنى اللفظ الأجنبي اللذي يفترض كمقابل له. لاكن يبدو أن "شاعر السلام" لم يفعل، بعد تنبيهه ذاكـ، شيئا آخر سوى أن أكد أن الإسلام دين إرهابي لأنه يدعو إلى إعداد القوة الرادعة للأعداء، ثم اكتفى بالاستسلام إلى تعريب سهل للمصطلح (بـ"تروريزم" كاسم وبـ"تروري" كصفة)، وأصدر على إثر ذالكـ بيانا إلى العالمين يحث فيه على تخصيص اسم "الإرهاب" للدلالة على القوة الرادعة للإسلام وضرورة أن يتم، بالتالي، نفي تهمة "الإرهاب" عنه بالمعنى الشائع، أي كعنف محارِب وإفسادي حسب ما يريد له خصومه وأعداؤه. وليت شعري ! لكأني بصاحب البيان، المزهو بلقبه كـ"شاعر للسلام"، يظن أنه قد رد الاعتبار إلى الإسلام بالتأصيل القرآني للفظ "الإرهاب"، وهو التأصيل الذي لم يُمَكِّنه من إعطاء قوة تبليغية وتدليلية لمصطلح "الحرابة" أو إبداع مصطلح آخر له نفس الكفاية، بل إنه تأصيل يخدم أغراض اللذين يتصيدون كل الثغرات لوصم وتجريح (بل تجريم) الإسلام كدين إرهابي، دموي ولاإنساني . ولهذا، فإننا لا نستغرب أن تكون محاولة شاعرنا قد مرت كصيحة في وادٍ، وادٍ لهيام الشعراء وواد لتيه البلغاء ! إذ استمر لفظ "الإرهاب" مستعملا، بعد أن صار مصطلحا قدحيا وقد كان لفظا عاديا يحمل معنى قرآنيا. حقا إن شاعرنا بدا منتبها إلى واقع مهانة/هوان اللغة العربية في واقع التداول، كما أكد ذالكـ وهو يشير إلى أسباب الانزياح في استعمال ذالكـ اللفظ القرآني. لاكن معاناة العربية بين أيدي مستعمليها شديدة إلى حد كفيل بتثبيط عزائم المصححين والمصلحين. وإن تكن من حاجة لِذِكْر شيء من هذا، فإني أشير إلى أنني كنت قد كتبت نواة هذا المقال في كتاب مخطوط لي (بعنوان "لسان العرب القلق") منذ 1998 (أي منذ عشر سنين) ؛ لاكنني بقيت أرجئ إصداره، ليس فقط بسبب صعوبة المشكلات اللتي عالجتها فيه، بل أيضا لإيماني بأن أزمة العربية كلغة إنما هي تعبير عن أزمة عميقة تحيط بمجموع الكيان الخاص بالشعوب العربية على تعددها واختلافها. لهذا، فإن مشكلة اللغة لا يمكن أن تعالج منفردة، وإلا فإن الأمر لن يعدو أن يكون عملا حالِما أو واهما. غير أن هذا لا يعني بتاتا الدعوة إلى تخلي المعنيين عن مهامهم الرسالية، بل لا بد لهم من القيام بها في جميع الأحوال، لاكن ليس على أي حال اتفق. فالقيام بالأمر يحتاج إلى قائمين يُقيمون أعمالهم ويحسنونها كما يقيمون صلواتهم. ألا ترى أن القرآن يتضمن الأمر إلى المؤمنين بـ"إعداد القوة"(مطلق القوة)، بمعنى السعي للتمكن من كل أنواع القوة، اللتي يأتي في مقدمتها حفظ اللسان من عوامل الانتقاض اللتي تزداد تعددا وقوة بمرور الزمن واللتي تهدد حقيقة الوحي الإلاهي نفسه.

من أجل ذالكـ، فإن تناول لفظ "الإرهاب" لا طائل من ورائه إن لم يؤد بنا إلى الإمساكـ بالمشكلة الحقيقية المتعلقة بضرورة توفير الشروط المناسبة لاكتساب واستعمال العربية على نحو قويم كما هو الحال بالنسبة إلى كل الألسن القوية في العالم. ونجد، بهذا الخصوص، أن العربية ضحية بين أيدي مستعمليها المتخصصين اللذين لا يجيدونها كما ينبغي ولا يجتهدون بما يكفي لإجادتها. ألا ترى كيف أنهم، في معظمهم، لا يكادون يستطيعون التمييز بين "إرهاب" و"استرهاب" وبين "استعمار" و"استيطان" وبين "جهاد" و"قتال"، وكلها مصطلحات قرآنية طمست معاني بعضها وبعضها الآخر آخذ في الانطماس؟! وكل هذا لا يرجع إلا إلى كونهم يجهلون أو يتجاهلون أن العربية كلسان مبين إنما مصدرها القرآن، وأن لغة القرآن إبداع مخصوص يحتاج إلى علم كافٍ لتبين أسراره.

ومن ثم، إذا كان قد شاع على ألسنة الناس لفظا "إرهاب" و"إرهابي" في الدلالة على "فعل ارتكاب مفاسد معلومة بقصد ترهيب الناس وإكراههم على الإذعان" (كإزهاق الأرواح واختطاف الأشخاص وتدمير المباني وإتلاف الممتلكات)، فإن هذا الاستعمال فاسد تداوليا وغير مفيد دلاليا، لأنه يجعل ما هو مبتذل (الرهبة أو الخوف من بطش صاحب القوة) شيئا غير عادي (ظاهرة "الإرهاب" كعنف مرضي وخطر حضاري). ومن العجيب أن الأمر نفسه قد وقع، من قبل، بالنسبة للفظي "استعمار" و"مستعمر" في انتقالهما من الدلالة على "الجهد العمراني للإنسان المستخلف في الأرض" إلى "أعمال السيطرة الاستيطانية اللتي تقوم على غزو الأوطان وإخضاعها للاستغلال والتبعية". وهكذا، فإننا لسنا فقط بصدد إفساد لغة (تُعرَف بأنها "إعرابية")، وإنما نجد أنفسنا أمام أحد أنماط السيطرة الثقافية، وهو النمط اللذي يقوم على تبخيس منظم لـ"نسق القيم" الخاص بمجتمع أو أمة، تبخيس يستهدف اجتثاث الأصيل واستبدال الدخيل به، تماما كما تقتضي سيرورة التفاعل بين الغالب والمغلوب.

إن الإسلام دين يدعو أتباعَه بشكل صريح إلى إعداد كل أصناف القوة في مواجهة أعدائهم وخصومهم، بل إن اللـه ليأمر عباده أن يأخذوا الدين بقوة ويحب منهم العبد القوي. فالإسلام، إذًا، دين يرهب ويخيف، لأنه يأخذ بالقوة ولأنه دين يكره الاتكال والدنية والاستسلام. لاكنه، في الوقت نفسه، يُحرِّم الظلم والعدوان والإفساد في الأرض. فالقوة اللتي يطلبها الإسلام "قوة" قائمة على "الحق" كما تبينه "الشريعة" كأصول حاكمة ومسددة، أصول تؤكد أنه "لا إكراه في الدين" وأن "اللـه يأمر بالعدل والإحسان" وأنه "لا يحب المعتدين" وأنه "قد كتب الرفق على كل شيء". ولذا، فلا إرهاب ولا ترهيب في الإسلام، إلا ما كان مما تقتضيه الضرورة الطبيعية المتعلقة بأن "كل ذي قوة مرهوب". وحين يكون على المبطلين والمفسدين أن يستعملوا القوة لاسترهاب الناس وإكراههم بكل الوسائل كما تجسد ذالكـ قصة فرعون وسحرته ضد موسى، فإن الإسلام يعلن أن "الجهاد"، كمغالبة ومنافسة في الجهد، لا يكون من أجل دنيا هنية ولا تحت راية عُمَّية، وإنما هو "استفراغ الوسع في البناء لاستعمار الأرض والإصلاح بين الناس". وهكذا، بينما يتجلى الإسلام كقوة جهادية ترهب كل عدو أو معتد، يأبى المبطلون والمفسدون إلا أن يَسْتَخِفُّوا الناس ترغيبا وترهيبا بفعل نزوعهم الاستكباري والاستعلائي اللذي يجعلهم يتوسلون "الاسترهاب" كعنف إفسادي خارج كل حق.

 

 

05-07-2008 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=613