/

 

 

الإسلاميون بين الحاكمية لله وحاكمية الشعب: مقاربة سوسيوسياسية

خالد بايموت

منذ الخلافة الراشدة أدرك المسلمون أن السلطة السياسية للدولة، مدنية وليست دينية، لذلك لم ينصب أي خليفة لاعتبارات دينية، بل كان تدخل سلطة الإرادة العامة في الاختيار، هو الاعتبار الحاسم في التولية. وكان ضعف الشورى يؤدي حتما إلى ظهور العنف السياسي، وتنامي نزعة الحاكم الفرد، حتى أن ذهنية الفقيه استسلمت لما ورد في الأثر من الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن؛ وترتب عن ذلك تهميش الأمة، وتغيب بناء المؤسسات السياسية والعَالِمية، فالتحق العالم الفرد بالحاكم الفرد، وتم القضاء سلطويا على أمل بناء نظرية سياسية تقول إن الله يزع بالأمة، ما لا يزع بالسلطان والقرآن.

  ومع الدينامية التاريخية والاجتماعية، وجدت الحركات الإسلامية نفسها أمام أسئلة السلطة، ودور الدين في الدولة الحديثة؛ وما يستتبع ذلك من إمكانية الانفكاك من المفاهيم الفقهية في التداول السياسي؛ أوعلى الأقل قراءتها بالاستفادة من انتاجات الفكر السياسي، وعلم السياسة الحديث.

إن أول ما يواجه الباحث في هذه الإشكالية، هو تحديد معنى الدين، وما يمثله في الاجتماع الإنساني. ومن هنا نقر بداية، أن الدين في الابتداء يمثل "مجموعة من النصوص" ذات المصدر الإلهي، أو النبوي، وما يجعله حيا عبر التاريخ هو التطبيق الاجتماعي للمؤمنين. وهذه الممارسة الاجتماعية ترسخ بعدين كبيرين للدين :

البعد الأول: يمثل المدركات الإيمانية الإعتقادية، التي تربط الفرد والجماعة بقيم عليا مطلقة، وتجعله لا يعيش اللحظة الزمانية العمرية، بل يؤمن بالحياة الآخرة.

أما البعد الثاني : فيتعلق بالكسب التنزيلي، فهو لا يستهدف البعد الروحي كالعنصر الأول، بل يضع المؤمن أمام مسؤولية تطبيق الفروض الدينية، المتضمنة في  الشريعة، والمتولدة عن فهم الجماعة للنص المقدس في زمان ومكان معين.

من هنا اخترنا أن نتناول بالبحث، ولو باختصار، منظور المقاربة السوسيولوجبة للدين وتفاعله مع السياسية، مع التعرض لنظرية الحاكمية وعلاقتها بمصدر السلطة السياسية عند بعض الإسلامين المتفاعلين مع الحداثة السياسية.

فما علاقة المدركات الإيمانية بأحقية الشعب والأمة في التشريع عبر المؤسسات الدستورية؟ وهل تمثل المرجعية الدينية سقفا للحراك السياسي، أم أن فهمنا الثقافي والجماعي، هو المحدد لحدود المرجعية الدينية في العمل السياسي العام؟

 أولا: الدين مقاربة سوسيولوجية

في كتابه "الصور البدائية للحياة الدينية"، يعرف دوركهايم الدين بالقول: " الدين هو نظام من العقائد والأعمال المرتبطة بالمقدسات، توحدت في المجتمع الأخلاقي الواحد باسم الكنيسة ويتبعها الموالون". 

هذا التعريف، بطابعه الوضعي، يعتبر الدين منجزًا، وإبداعًا بشريًا. الشيء الذي يقصي الماورائيات، لتصبح بذلك الأفكار القائلة بما وراء الطبيعة غائبة تمامًا عن الدين. فالدين هنا باختصار " واقعة اجتماعية " حسب الزعم العلمي الذي قدمه علم الاجتماع الديني والانثروبولوجيا منذ أفكار دوركهايم، وهذا الزعم انطلق من فصل الدين عن ما وراء الطبيعة، ليضع فصلا آخر، أو تجزيئا آخر بين الحياة الدينية والدنيوية، مرسخة بذلك الطابع الازدواجي للتاريخ المسيحي في النظر إلى الكون، وفي هذا يقول دوركهايم: 
" لا يمكن أن تجتمع الحياة الدينية والحياة الدنيوية ".

 ولهذا الاعتبار الجوهري اختارت المسيحية، أن تتمأسس، وأصبحت الكنيسة هي الدين على شكل جهاز ومؤسسة تتجلى في مجتمع الأتباع. بصيغة أخرى الدين هو" التعبير المركز عن الحياة الجماعية برمتها".

 يرى ماكس فيبر، كواحد من أهم علماء اجتماع الدين، أنه" لا يهمنا معرفة جوهر الدين، والمهم عندنا هو دراسة الظروف وآثار نوع خاص من السلوك الاجتماعي". هذا الموقف المبني على المنهج الوظيفي، يركز على الوظيفة الاجتماعية للدين، لأنها الوسيلة المثلى لمعرفة دور الدين في بقاء وبناء النظام الاجتماعي. ووفقا لهذا المنهج استطاع فيبر، أن يثبت وجود علاقة بين أخلاق الكالفينية وروح الرأسمالية.

إن المنظور الفيبري للدين، لا يجعل من الدين قاعدة متحكمة في السلوك الرأسمالي، بالقدر الذي يؤكد أن عامل الدين لعب دورًا مهما في إذكاء الذهنية الأوربية، وتزويدها بنمط معين من التفكير.

لقد تنبأ كل من فيبر ودوركهايم،  باندثار الدين التقليدي وانزواء وظيفته الاجتماعية، وفقدانه لوزنه السياسي، ونظّرا معا للعلمنة داخل السوسيولوجيا الغربية بوصفها السيرورة الكونية الثابتة.

في فحصه لهذا التنبؤ يرى عالم الاجتماع توماس لوكمان في كتابه "الدين غير المرئي"، أن فصل العلمنة عن أصولها الإيديولوجية أثناء البحث الاجتماعي يفيد فقط، أن الدين يتعرض إلى نوع من الخصخصة والتهميش، وهذا لا يعنى فقدانه لأهميته، بل فقدان الدين لوظائفه التقليدية العامة.

مع ثمانينات القرن العشرين، تعرضت الرؤى السوسيولوجيا لاختبار عسير، تمثل في رجوع الدين الفردي واحتلاله للنطاق العام، وبالتالي أصبحت نظرية التهميش والخصخصة غير مفسرة للواقع والوقائع المعاصرة. ولأن الأمر لا يقتصر على الدائرة البروتستانتية والكاثوليكية، فإن عالم الاجتماع المعاصر خوسيه كازانوفا، يرى أنه
"لا يبقى سوى خيارين فقط: فإما إهمال النظرية كليا كما توحي النزعة الحالية لدى معظم علماء اجتماع الدين حالما تبين أنها وصف غير علمي وميثولوجي للعالم الحديث، وإما مراجعة النظرية بحيث تستطيع الرد على منتقديها وعلى الأسئلة التي يطرحها الواقع نفســــه" ( راجع كتابه الأديان العامة في العالم الحديث ص 34).

   في الواقع الإسلامي الحالي يأخذ الدين الإسلامي، عند الإسلاميين الإصلاحيين طابع المنظومة التأسيسية العليا، لعاملين اثنين، أولا: لمصدرها الإلهي. وثانيا: للقبول العام للذهنية الإحتماعية بسمو سلطة الدين الروحية والسلوكية. فهو صيغة تنظيمية وتشريعية ترتبط بالعقيدة، والماورئيات، إلا أنها في ذات الوقت مجال للإبداع عن طريق إعمال العقل في المبادئ والنصوص الدينية، قصد تحقيق أحسن صورة للحكم الراشد.. وهذا المنظور يوفر نظريا إمكانية  حقيقة لعقلنة الإسلام ذاتيا، باعتبار هذا الأخير يتحدث عن مجموع المجالات الحياتية كالاقتصاد، والسياسة... في إطارها العام، ويدرجها في سياق الرؤية النبوية الموجهة " أنتم أعلم بأمور دنياكم".

القضية الأساسية من الناحية السوسيولوجية دائما، تتمثل في قدرة الدين على التنظيم الاجتماعي، من خلال القيام بمهمة حفظ السلم الاجتماعي، وتنظيم قواعد للنظام العام المستمدة من الواقع والمعايير الدينية، التي تتفاعل مع الواقع الإنساني، فيما يشبه قوة عميقة ترافق، وتراقب في الوقت نفسه الاجتماع الإنساني. فالدين من خلال نظرته للعالم، يعمد إلى توزيع الوظائف والمسؤوليات، فيضع الإنسان مسؤولا أمام الله، ومسؤولا سلوكيا أمام أخيه في الاجتماع البشري، وفقا لقواعد ملزمة لجميع أفراد المجتمع، معمقا بذلك التوازن وفكرة السلطة المشرفة على النظام العام.

الواقع  التاريخي يؤكد أن الرابطة الاجتماعية في العالم الإسلامي وثيقة الصلة بالدين، وهذا الأخير لا يتحدد حصرًا في الغيبيات العقائدية، والروحانيات، بل يخلق لنفسه قيمًا لها رؤية للشأن الخاص، والعام على السواء. فالسبب الموضوعي في حضور الدين في الشأن السياسي، يعود بالأساس إلى كون الدين ليس مجرد إيمان يقوم على الاقتناع، بل كذلك "سلطة" تستوجب التنظيم .

والدين حسب الخبرة التاريخية، عامل من عوامل الثورة الاجتماعية، كما قد يستتر به، وباسمه لتشييد نظام استبدادي. فهو عامل حاسم لقلب الوضع السياسي، وإحلال سلطة سياسية مكان أخرى (نشير هنا إلى النموذج الإيراني لسنة 1979م)، كما قد يؤوّل وفق مصلحة سياسية، تنتج التخلف والاستبداد باسم الدين كما هو الحال في (النموذج السعودي).

إن مشكلتنا الدينية حسب برهان غليون، كامنة في تعاطينا السوسيوسياسي مع الإسلام، والعَلمانية، "فالعلمانية مثلا تتحول من نطاق التمييز بين المعرفة والسلطة الدينيتين والمعرفة والسلطة العقليتين، لتتحول سواء عند العلمانيين أنفسهم أو عند خصومهم إلى ما يقارب نزعة العداء للدين وإزالته من المجتمع". إن هذه النزعة التي تموج وسط تجربة اجتماعية، لها نظمها الثقافي والسياسي المتصل بالدين لا تراعي حقيقة واقعية هي، "إن المجتمع العربي لن يستطيع، على الأقل في المدى المنظور، وفي اعتقادي واللامنظور، أن ينجح في بناء نفسه وتحقيق استقراره النفسي والثقافي ضد الإسلام، أو خارج الإسلام، أو حتى من دون الإسلام". كيف يمكننا إذن التوفيق بين ما يقدمه الإسلام كعقيدة ومبادئ أخلاقية، وما يقدمه من دعوة صريحة لتحكيم إرادة الأمة الجماعية في الشأن العام؟

 

ثانيا:  سمو حاكمية الأمة في المجال السياسي.

يثير مفهوم الحاكمية بدوره، رغم ما راكمه الفكر السياسي من معالم معرفية،وتنظيمية دقيقة، نقاشا حادا حول الشريعة، وشكل نظام الحكم عند عموم الإسلاميين.  وسنتناول هنا خلاصة بعض الأبحاث المنشغلة بقضية السلطة في الفكر السياسي المعاصر. فقد جاءت نظرية سيد قطب الزاعمة بأن أي خضوع لقانون غير الشريعة داخل في إطار الشرك، ووجه من وجوه الجاهلية؛ لتكرس إدغام حاكمية الأمة في حاكمية الله، ومتجاهلة كون البناءات المعرفية ترتبط باللحظات التاريخية، وإفرازاتها الاجتماعية، وبالتالي تخضع المفاهيم طبقا لعلم تاريخ الأفكار، والتاريخ المقارن، إلى التغير في الدلالة بتغير أحوال الاجتماع السياسي.

 فالدولة إنتاج بشرى يدرسه علم السياسة اليوم (رغم موجة العولمة) في دائرة حدود السلطة والأمة، والإطار الجغرافي؛ و طبيعة هذا الكيان اصطناعية، بشرية،وديناميكية، لا تتوقف عن التطور والتشكل، كما أنها تحيل دائما إلى بنية المجتمع التي تصوغ السلطة، ومن ثم قد يؤخذ بالدين أو العرف، أو غيرهما، كأساس للانسجام والتفاعل الاجتماعي السياسي.

يقدم علم السياسة السلطة السياسية للدولة باعتبارها الوجه الأول للقوة، فهي قوة ذات طابع نظامي، ومهيكل، يشمل تنظيمات مركزية وفرعية، تمتلك حق إصدار القرارات وتنفيذها وتوقيع الجزاءات، وهذا هو ما يطلق عليه اصطلاح السلطة؛. وحيث أن السلطة السياسية تتمظهر بأشكال مختلفة، وتنبني علي قاعدة أيديولوجية، فإن تأثيرات هذه الأيديولوجية وضعية كانت أم "سماوية"، تتحرك في الواقع الاجتماعي بالشكل الذي يضمن لها النفاذ والتحكم. بعبارة أخرى، إن ما يدفع المذهبيات السياسية، ليبرالية كانت، أم اشتراكية أم إسلامية .. لطرح وجهات نظرها حول السلطة السياسية هي القاعدة الأيديولوجية المحمولة أصلا من كل هذه المذهبيات.

في دراسته للحاكمية يخلص الباحث في العلوم السياسية، هشام أحمد جعفر إلى وجود أداتين تيسران فهم معنى الحاكمية:

 الأولى سياسية، وهو ما سماه بالحكم بالمعنى السياسي، ويدور حول الأفعال بحيث يكون الناس بها- أي الحاكمية- أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، " فهذه الأداة تتأسس على الحاكمية بمكوناتها وتهدف إلى تحقيق مضمونها بما يجسد حضور عقيدة الإسلام وشريعته وأخلاقه في واقع الحياة غير معزول عن الدنيا، أماالثانية فتتعلق بسلطة القضاء.

بعد انتقاده لبعض الآراء في الفكر الإسلامي السياسي المعاصر، يطرح محمد عمارة الحاكميية من زاويتها السياسية، انطلاقا من اعتبار "حق الله" يعني في المجال السياسي "حق المجتمع" و "حكم الله وسلطانه" يعني في السياسة " حكم الأمة وسلطانها"، وبالتالي ينتهي إلى خلاصة تقول: "ليس هناك تناقض هنا بين أن يكون الحكم لله، وبين أن تكون السلطة السياسية والحكم في المجتمع الإسلامي لجماهير المسلمين".

إذا أردنا أن نتحدث بلغة الفقه الدستوري، فإن الحاكمية يقول محمد سليم العوا:

"هي السيادة"، وهذه الأخيرة لله سبحانه وتعالى، وهو من منح للإنسان حق الحاكمية على مصيره الاجتماعي، انطلاقا من الحرية المقررة في الدين نفسه.

لقد اتخذ المفهوم القطبي للحاكمية بعدا إطلاقيا، غير مميز بين الأحكام العبادية المحضة، وغيرها، وبذلك يكون قطب خاصة قد وسع من مفهوم الحاكمية ليمس كل مجالات حياة البشر، ويدعي أن كل التشريع لله، وأن عقيدة الإسلام وشريعته كل متناسق في شؤون الدين والدنيا. والملاحظ أن هذه المسلمات مقررة عند المسلمين منذ الجيل الأول للإسلام، غير أن جديد سيد قطب تمثل أساسا في نظام المفاصلة بين من يقول بالحكم لله، وبين سائر البشر.

في مناقشته لهذه الإشكالية اعتبر عبد الوهاب الأفندي السيادة/الحاكمية لله، بأن الترجمة العملية لهذا المفهوم هي "السيادة للشرع أو القانون".

أما حسن الترابي، فيقدم تصورا يذهب إلى تفسير الحاكمية لله في المجال السياسي، تفسيرا جديدا يرتبط أولا بإرادة الأمة، وثانيا بالدولة، ويمكن تلخيص رأي الترابي فيما يلي:

1- الدولة وممارستها السياسية تحول إلى مشرع أي إلى رافد من روافد الشريعة/ القانون، ويدل على ذلك تاريخيا اعتبار علماء الأمة الممارسة السياسية لدولة الخلافة الراشدة بمثابة سوابق قانونية.

2- إن الإجماع الذي يعتبر مصدر من مصادر التشريع، لم يعد مقبولا أن يكون في المجال السياسي هو إجماع القلة. فإجماع علماء الدين المتخصصين في المجال الديني المحض يعتبر إجماعأما اليوم فإن الإجماع في السياسة هو: الرأي العام، أي رأيجمهور المسلمين، لا رأي قلة من المتخصصين، النتيجة إذن أن الرأي العام هو الحاكم في شؤون الأمة، ومنها القرارات التي تلزم الدولة.

3- إن الاختيارات التي تختارها الأمة تصبح جزءا من الشريعة، وهذا يعني أن الأمة تشرع لمصالحها، المتحولة عبر الزمان والمكان. فإذا كانت القاعدة أن التشريع لإرادة الله " فإن للأمة -   بتعبير راشد الغنوشي- مشاركة فعالة في ذلك".

هكذا يمكننا أن نتجاوز المفهوم الجامد الذي يحصر الشريعة في النصوص الدينية، ويتدخل العقل البشري الجمعي لتدبير أمور الحياة السياسية...التي تركتها الشريعة نفسها منطقة عفو وفراغ في كثير من أمورها، لما تتسم به من دينامية مرتبطة أساسا بالاجتماع السياسي البشري. وبالتالي يمكن القول أن ما يشرعه المجتمع عبر مؤسساته الدستورية كالبرلمان.. في مجال الشأن العام والحياة السياسية، هو بمثابة شريعة تستوجب التقديس من الأمة، ما لم يرد فيه نص قطعي الدلالة و الثبوت في الشريعة الإسلامية.

 

 

 

05-07-2008 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=614