/

 

 

الفضاء الديني وكيفية التعامل معه

عبد الرحمن الحاج


يشبه الفضاء الديني الجملة الفيزيائية «لا شيء يفنى»، فإذا أدخلت في تحولات لا بد من أن تتشكل جملة فيزيائية جديدة هي حاصل هذه التحولات، هذا في الواقع ما حصل في ما يخص الفضاء الديني في كل المحاولات التي جرت لتأميمه وتحويله وفق حاجات الأنظمة، وفي كل مرة كانت هناك تنشئة دينية مضادة وسوق سوداء للفتاوى بصفتها نوعاً من آليات الدفاع عن الذات المعنوية المقهورة.
ثمة أمثلة كثيرة لذلك: على سبيل المثال قامت بعض الحكومات العربية القومية في مطلع الثمانينات، بسبب أحداث العنف التي جرت فيها بإلغاء أي مصدر من مصادر التثقيف الديني إلا ما تقره هي، وتشتمل هذه المصادر الممنوعة على ما يصنف اليوم تحت كتابات «الاعتدال الإسلامي»، وأنشأت مجلات دينية خاصة باهته كوجه النظام ذاته لتكون مصدراً للثقافة العامة، إضافة إلى ذلك عملت على تعديل المناهج بحيث حذفت كل ما لا يعجبها ووضعت أقوال «القائد» بجوار النص الديني، وكان على الطلبة منذ المرحلة الابتدائية إلى نهاية المرحلة الثانوية أن يحفظوا أقوال «القائد» ويستعينوا بها كشواهد في طرح القضايا الدينية، وأدت هذه العملية إلى فقدان الثقة كلياً بالمعارف والتصورات الدينية التعليمية، ونشأ في الظل تنشئة دينية موازية في البيوت والأسر والمساجد، وأدى هذا الانتهاك المتطرف للمقدس إلى مزيد من المحافظة وربما التطرف المضاد في المجتمع.
وفي حالة أخرى - وللسبب نفسه - قامت حكومة عربية باتباع مبدأ «تجفيف الينابيع» التي تبعث على التطرف (وباسم التطرف أيضاً الاحتجاج على تجاوزات النظام)، عبر تعديل المناهج، صحيح أنها لم تصل إلى درجة إقحام أقوال القائد بجوار النصوص المقدسة، إنما تم فتح مجالات تسهل أسباب التحلل الديني والخلقي، بجوار منع قانوني صارم لأي شكل من أشكال التدين في المجال العام والحكومي، غير أن أكثر من بضعة عقود من التجفيف لم تغير من إيمان الناس وقناعتهم الدينية، نشأ بطبيعة الحال فقه ديني في الظل، وكلما شعر المجتمع بتخفيف القبضة الأمنية وتراخي التعامل الحكومي مع الشأن الديني يتشجع الناس لإظهار تدينهم، وتبدو المسألة كما لو أنها انبعاث ديني جديد، وواقع الأمر أنه ليس إلا خروج التدين إلى العلن بعدما أكره للدخول في الظل.
بطبيعة الحال، فإن أي محاولة حكومية للقبض على الفضاء الديني هي محاولة فاشلة، ذلك أن المعنى لا يمكن القبض عليه (إذا جاز لنا هنا أن نستعمل تعبير اللسانيين)، يجرنا هذا الى الحديث عن تأميم الفتوى والمحاولات الحكومية للاستيلاء عليها عبر المنصب الرسمي «مفتي الديار» أو «مفتي الجمهورية»، وما حدث فعلياً أن الحكومات ما استطاعت تأميم الفتوى، وإنما خلقت مفتياً تابعاً يضفي الشرعية على تصرفاتها، الأمر الذي أفقده الثقة، ودفع الناس للبحث عن مصدر تثق بدينه واستقلاله وعلمه.
في عام 2006 طرح في الأردن مشروع قانون الإفتاء، والذي يتضمن تأسيس «دائرة الإفتاء العام» برئاسة مفتٍ عام تكون مهمته، بدرجة رئيسة، الإشراف على شؤون الفتوى وتنظيمها، وإصدار الفتاوى العامة والخاصة في القضايا المعروضة عليه، ويُعيّن أعضاء الدائرة بإرادة ملكية سامية، ويُعزلون بالطريقة ذاتها.
وكان السبب المعلن رسمياً، وراء سن القانون، إنهاء حالة «الفوضى» في الفتاوى وضبطها وتحديد الجهة المخوّلة بها، حرصاً على حرمة الفتاوى وقيمتها، وكي لا تكون أداة للتكفير والتشدد السياسي والديني وحدوث حالة من التضارب والاختلاف حول أحكام الإسلام في ضوء تعدد المدارس الفكرية والفقهية، والصراع المحتدم في ما بينها لفرض تصوراتها ورؤاها الفقهية على المجتمع والناس، كما أشار الخبير بالحركات الإسلامية محمد أبو رمان، صحيح أن الحكمة في معالجة الأمر أدت إلى التراجع عن فكرة المشروع، ولكن لو حدث وأممت الفتوى ومنع العلماء والفقهاء رسمياً من الإفتاء ما لم يكونوا في منصب الإفتاء الرسمي لأنشأ ذلك سوقاً سوداء للفتاوى، إذ سيفقد المؤمنون ثقتهم بالمفتين، وربما كان هذا سيعزز التطرف بدلاً من أن يخفف منه.
لا تختلف الحركات الإسلامية (وخصوصاً الراديكالية) عن الحكومات في محاولة احتكار التصورات الدينية وفتاويها، إذ طالما أحس هؤلاء أنهم يمثلون الإسلام «الصحيح»، وأن عليهم إخراج الناس من ضلالهم وتيههم إلى هداهم وإسلامهم! ما الذي حدث؟ الذي حدث أن الإسلاميين حظوا بقاعدة شعبيه واسعة لكنها متعاطفة وليست مؤمنة بالضرورة بتصوراتهم وفتاويهم، لكنها ما لبثت أن تقلصت شيئاً فشياً مع الدخول في صدام مسلح ضد مجتمعاتها، وعندما تحولت بالكامل الى محاربة «الكفار» وانتقلت إلى «الجهاد العالمي» نالت بعض التعاطف في ظل الأزمات السياسية الخانقة في العالم الإسلامي والشرق الأوسط على وجه الخصوص، والخلفية الدينية للاحتجاج السياسي لا تلبث أن تتحول إلى عقائد دينية وإيمان راسخ!
محاولة تأميم الحركات الإسلامية للتصورات الدينية «الصحيحة» هي أيضاً باءت بالفشل وأدت - في ما أدت إليه - إلى تحول العالم الإسلامي إلى طوائف متناحرة، وخيبة الخطاب المتشدد غير القابل للحياة الطبيعية من قبول واسع.
وبين محاولة الحكومات لتأميم الفضاء الديني، والمحاولة المقابلة للحركات الإسلامية لتأميم التصور الصحيح للدين نشأ في شكل واسع شعور بالضياع لدى الأجيال الشابة، يغذيه تدفق منتجات الحداثة العولمية وافتقاد التصورات الدينية المتصالحة مع العالم والتاريخ.
من منظور علم الاجتماع، فإن الفضاء الديني - بصفته تعبيراً عن حاجة الإنسان الى المعنى - هو أزلي، وهذا المنظور هو وصف لشيء موضوعي مستمد من تاريخ الإنسانية، ويتوقع أن يكون أبدياً يغطي مستقبلها طالما أن الإنسان بحاجة الى المعنى، وليس بالضرورة أن حاجته الى الدين محصورة بالشعور بالخوف - كما يقول كلاسيكيو علم الاجتماع - بقدر ما هي حاجتة الى تفسير العالم وتأويله، وهو أمر يستحيل تأميمه.

 

 

09-07-2008 .   الملتقى /  /    .   http://almultaka.org/site.php?id=616