/
تجديد أصول الفقه في مشروع الدكتور حسن الترابي
محمد همام
تقديــم*: علم أصول الفقه علم منهجي؛ وضع من خلاله علماء المسلمين القواعد التنظيمية للتفكير الإسلامي، مما عصمه في كثير من المراحل التاريخية من الذوبان داخل أنساق منهجية مفارقة، كما أهلته للتعامل الدقيق مع الوحي. فبفضل المجهود النظري والمنهجي لعلماء أصول الفقه تحطمت "أسطورة أرسطو" العقل الواحد، والذي تلبس به بعض الفلاسفة المسلمين، وكانوا على وشك أن يوقعوا الأمة في اندحار علمي مروع. فالمجهود الأصولي كان الركيزة الأساسية للمنهج الإسلامي الاستقرائي القائم على التجربة والذي تنظمه قوانين بسيطة ومحددة. وكان إلى حد كبير تعبيرا عن روح الإسلام التي تجمع بين معطيات النظر ومقتضيات العمل، عكس المنهج اليوناني المؤسس على القياس المشبع بالنظر الفلسفي المجرد. كما كان المجهود الأصولي مجهودا نقديا شاملا؛ مس على الخصوص مجهود المتفلسفة ممن احتوتهم خرافات الميتافيزيقا اليونانية. كما أحي الأصوليون المصطلح القرآني وأكسبوه مناعة منهجية ومعرفية. ولم يعد العقل العلمي الإسلامي تائها بين المعاني المجردة والغامضة لمفاهيم منقولة بطرق رديئة، كالجوهر والصورة، والهيولى، والجزء الذي لايتجزأ، وإنما أصبح يتداول مصطلحات مرتبطة بالطبيعة الحية الواقعية كالهباء، والذرة، والدخان، والماء، والنار، والشجر، والجبال، والطير، والنحل، والظلام، والسحاب[1]؛ فتأسست بذلك العقلية الإسلامية العملية والواقعية مفارقة للعقلية اليونانية التجريدية والخيالية. وعليه لم يكن نقد الأصوليين للحد والقضية والقياس مجرد إنطواء ذاتي أو رفض ساذج للمنهج العلمي، وإنما كان نقدا أصيلا استمد مقوماته من بيئة مخالفة وجنس مخالف وتصور حضاري جديد. وبرغم وجود النزوع النقدي في البحث الأصولي عبر تاريخ المعرفة الإسلامية، إلا أن المقاربة الأصولية لقضايا الدين والمعرفة والتاريخ أصابها فتور في لحظات من تاريخ الإسلام؛ فخفت الحس النقدي، وتضخم الشرح والتلخيص إلى حدود التعقيد والإبهام، وانقطع العطاء الأصولي عن مجاله التداولي، وتحول إلى هوامش على الهوامش وإلى ألغاز لايكاد يفهمها الباحثون بله المتعلمون. كل هذا جعل الحاجة ماسة إلى مجهودات نقدية لتقويم العطاء الأصولي ومراجعته، بما يبعث فيه روح الإبداع والعطاء والإجابة الفعالة عن انتظارات الناس من المعرفة الإسلامية. وعليه سنعرض للقيمة العلمية والمنهجية لأصول الفقه في المعرفة الإسلامية، والحالة التي انتهى إليها البحث الأصولي، والمجهودات المعاصرة لكبار مجددي الفكر الأصولي اليوم مع التركيز على مشروع الدكتور حسن الترابي. المبحث الأول: مركزية أصول الفقه في المعرفة الإسلامية. 1- مكانة علم أصول الفقه ضمن العلوم الإسلامية: مدخل معرفي: لم يبعد أحد الباحثين لما أدعى أن الحضارة الإسلامية حضارة فقه[2]. ثم أضاف أن علم أصول الفقه هو الذي قام بمهمة التشريع للعقل، ليس العقل الفقهي وحده بل العقل العربي ذاته، كما تكون ومارس نشاطه داخل الثقافة العربية[3] . فأصول الفقه كان يعتبره علماؤه طرقا للفقه وكيفية الاستدلال بها[4]. فعلم أصول الفقه هو الأساس الذي يقوم عليه الفقه، وهو بذلك علم معياري يشمل البحث في الأحكام وأقسامها، وفي الأدلة وطرق الاستنباط والترجيح[5]. وعادة ماينسب وضع أصول الفقه إلى الإمام الشافعي أحد أعظم الرجالات الذين أنجبتهم المعرفة الإسلامية[6]؛ فهو الذي وضع القانون الكلي لأصول الفقه ليرجع إليه في معرفة دلائل الشريعة وفي معرفة كيفية معارضتها وترجيحها[7]. وكان همه ضبط الاستدلالات التفصيلية بأصول تجمعها، من غير إغراق في الجزئيات والتفا ريع. كما نقد الإمام الشافعي مجموعة من التعاريف السابقة ونقضها والتي لم تكن تخضع، بنظره، لنظام متسق في الاستنباط. وبعد الشافعي سيعرف علم أصول الفقه تطورا هائلا خاصة تحت تأثير الحركة الفكرية الكلامية[8]. وكان كتاب البرهان لإمام الحرمين الجويني أبرز مجهود اتسم بالإبداع والابتكار في الموضوع؛ فهو أول من حاول إدخال أدوات التحليل المنطقي إلى علم أصول الفقه[9]. وبعده عرف علم أصول الفقه جمودا وركودا في ارتباط بظروف تاريخية ضمرت فيها القدرة البحثية والرغبة الملحاحة في الإبداع والتجديد. وكان بروز الإمام الشاطبي لحظة توهج جديد في المباحث الأصولية؛ إذا أعاد علم أصول الفقه إلى سيرته الأولى كمعرفة مواكبة لهموم المجتمع الإسلامي ومشاكله الفردية والجماعية، كما عمق أدواته في اتجاه نقد المفاهيم وتصحيحها[10]. واكتسى علم أصول الفقه صبغة خاصة بين المعارف الإسلامية؛ إذ قام على قواعد وقوانين صارمة، فتحول إلى علم منهجي دقيق. وقدم علماء أصول الفقه مجهودا كبيرا في حماية المعرفة الإسلامية من الغارات الأجنبية، وخاصة اليونانية؛ فقد كان الشافعي وابن حزم والباقلاني وابن تيمية من أوائل المتصدين للهجمة الهيلينية؛ وكانوا من أكثر الممثلين للروح الإسلامية، ولجوهر الرؤية المعرفية والمنهجية الإسلامية إذا ما قورنوا ببعض رموز الاستلاب المعرفي للمناهج الفكرية والفلسفية الوافدة. فكان أولئك المفكرون العلماء أكثر من غيرهم تطابقا وانسجاما مع الرؤية الذاتية الإسلامية[11]؛ فقد أثبتوا أن المنطق اليوناني يستند إلى الخصائص التداولية للغة اليونانية. وهذا فهم عميق لما بين اللغة والمنطق اليونانيين من صلات دقيقة. ولم يفطن لهذه الملاحظة شراح التراث اليوناني ممن استلبتهم الميتافيزيقيا الأرسطية، ودخل عليهم من خلالها كل أجزاء الفكر الأرسطي، فضعفت مرجعياتهم، وقل إبداعهم، وأصيبت عباراتهم بالقلق، وأفكارهم بالاستغلاق؛ فقد خرجوا لغتهم على مقتضى القواعد النحوية اليونانية وأصول البيان اليوناني التي جاءت متخللة البحث المنطقي. كما أخلوا، من الوجهة المنهجية، بقاعدة الإنجاز التي تضبط الأصل اللغوي لمجال التداول العربي، كما توجب أن يكون التعبير موافقا للأساليب العربية، صرفا وتركيبا وبيانا[12]؛ فهم إذن لم يستطيعوا استثمار، أو قل على الأقل استحضار، شروط مجالهم التداولي العربي الإسلامي. ويمكن ملاحظة هذا الذي ندعيه بوضوح من خلال المقارنة بين مفكرين طارت شهرتهما في تاريخ المعرفة الإسلامية ومازالت إلى اليوم، أحدهما فيلسوف هو ابن رشد، والآخر أصولي وفقيه هو ابن تيمية. فابن رشد محسوب على الفلاسفة المجتهدين، ولاأحد يشك في دور الفكر الرشدي في تطوير المعرفة الإسلامية في حينه والآن، إلا أن الأبحاث التي أنجزها الأستاذ طه عبد الرحمن، كفيلسوف ومنطقي وصاحب خبرة لغوية وفلسفية كبيرة يشك في القيمة الإبداعية لمجهود ابن رشد؛ إذ أعلن بجرأة أنه ليس رشديا ! ولا ينبغي أن نكون رشديين ! فابن رشد، بنظر طه عبد الرحمن، ينطلق من استقلال العلوم وعدم تداخلها، وهو بذلك فقيه وفيلسوف وليس فقيها فيلسوفا؛ فهو لم يستثمر تكوينه الفقهي في اجتهاده الفلسفي، كما فعل الشاطبي مثلا في مقاصده وموافقاته، كما أنه ليس فيلسوفا فقيها، لأنه لم يستخدم معارفه الفلسفية في المجال الفقهي كما فعل الغزالي في استخدام العدة المنطقية في علم الفقه عن طريق الفلسفة. أما شهرته فيردها طه عبد الرحمن إلى حاجة الغربيين إليه لتقريب فلسفة أرسطو ومواجهة سلطان اللاهوت الكنسي. كما ترجع هذه الشهرة إلى فتاوى التحريم التي أصدرتها الكنيسة في حق فلسفته. وانقسم حوله المفكرون الأوروبيون بين مؤيد ومعارض. فهذه العوامل أي: الحاجة إلى الشارح، والحاجة إلى الظهير، والدخول في الصراع، والإفتاء بالتحريم، ولما كان العلمانيون العرب مقلدين لامجتهدين، جعلوا شهرة ابن رشد بينهم كشهرته بين الأوربيين مع اختلاف الأحوال والعوامل[13] . فابن رشد إذن، وفق أبحاث طه عبد الرحمن، كان مقلدا في الفلسفة، وتقليده لأرسطو لا ينحصر في شروحه وتفاسيره وجوامعه، بل يتعداه إلى كتبه التي تعتبر من التآليف الاجتهادية مثل ( تهافت الفلاسفة)، كما أن علماء أصول الفقه آخرين سيقومون بدور تقريب المنطق إلى المجال التداولي العربي الإسلامي محاولين الاستفادة منه من داخل الرؤية المعرفية والمنهجية الإسلامية. وهذا ما قام به العالم الأصولي ابن حزم؛ ففي وقت انقسم الناس فيه بين جاهل بالمنطق اعتبر تعاطيه بدعة، وبين مطلع عليه عبر الترجمات القلقة، قام ابن حزم بعملية عرض هذا العلم كمرحلة أساسية، فرفع تعقيدات الترجمة، عبر عملية منهجية ومعرفية هي التقريب بألفاظ سهلة بسيطة يستوي في فهمها العامي والخاص. فالتقريب ليس فقط مدخلا أو تبسيطا، بل هو شرح للمستغلق وتعليق عليه[19]. ثم إن عملية التقريب باعتبارها ممارسة نقدية وبنائية في الآن نفسه، نزعت عن المنطق الأرسطي وصفه التجريدي، وزودته بوصف تسديدي يصله استعماليا باللغة العربية، واشتغاليا بالعقيدة الإسلامية، وإعماليا بالمعرفة الإسلامية[20]. لقد قام إذن علماء أصول الفقه بدور أساسي في تقريب العلوم، وقدموا إبداعا متميزا في وضع أسس التفكير الإسلامي المنظم. من هنا اكتسب علم أصول الفقه أهميته الإبستمولوجية القصوى داخل المنظومة المعرفية الإسلامية. وهذا أمر انتبه إليه مستشرقون كبار مثل شاخت وبرانشفيك؛ إذ لما أدركوا القيمة الكبرى التي يتمتع بها علم الأصول من بين علوم الإسلام، دعوا بحرارة إلى دراسته من وجهة نظر تاريخية، وتجاوز الدراسات التقليدية والإمتثالية كما هو سائد بنظرهما في كليات الشريعة. أما محمد أركون فكرر في الكثير من أبحاثه أراء المستشرقين بأسلوب استفزازي مدعيا أن علم أصول الفقه قد عرف نهايته وشهد عقمه منذ لحظته التأسيسية مع الإمام الشافعي[21]. وبسبب من هذه الأهمية القصوى لعلم أصول الفقه انتبه أيضا مجموعة من المفكرين الإسلاميين إلى أن أية نهضة معرفية أو منهجية لابد أن تمر عبر دراسات أصولية تجديدية[22]، تعمل على توحيد المنهج الأصولي وتقرب أطراف خلافه وتفهم مسائله، كما تعمل سد الذرائع في وجه الأهواء الشخصية والمذهبية، وتتجاوز القصور في رأي الفرد الواحد[23]. وكان من أبرز هؤلاء المفكر السوداني حسن عبد الله الترابي؛ إذ دعا إلى التواضع على منهج أصولي، ونظام يضبط التفكير الإسلامي، تجنبا لاختلاط الأمور، وارتباك المذاهب وكثرة سوء الأفهام، والوقوع المخل في الاختلاف في مسائل تتصل بالحياة العامة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدولية وغيرها مما يؤثر على وحدة المجتمع المسلم وعلى نهضته[24]. فكان إذن علم صول الفقه هو المنطلق، لأنه علم تتداخل معه أيضا مجموعة من العلوم والقطاعات المعرفية والمنهجية المختلفة. 2- التجديد المنهجي في علم أصول الفقه: لقد استقل علماء أصول الفقه بمنهجهم في العلم والمعرفة. واثبتوا، بنظر ابن تيمية، ما في طريقة المتمنطقة من العي واللكنة وقصور العقل وعجز النطق. وخرجوا من معركتهم مع حملة الفكر اليوناني ببناء منهجي متماسك؛ فالإمام الشاطبي كان يسكنه الهم المنهجي في مشروعه المقاصدي، وانطلق من مقدمات علمية هي في الحقيقة مداخل منهجية تلخص الأطروحة الكبرى التي ينهض عليها فكره لإحداث تجديد حقيقي في المعرفة الإسلامية ومجال علم الأصول بالخصوص. ويمكن أن يلمس الباحث البرهنة على هذا الوعي من خلال كتابي " الموافقات" و" الاعتصام"[25]؛ فمنذ المقدمات المنهجية الأولى تصادفنا مجموعة من المفاهيم الإجرائية ذات صلة بطرق الفهم والمعرفة وبمشكلة المنهج؛ كالفهم والشك والعقل والوهم والموافقات واليقين والدليل... بل إن الشاطبي سار في اتجاه تعميق الوعي بمفاهيم محورية في الخطاب الشرعي والأصولي، كالتكليف والمصالح والمفاسد والمقاصد، وهي المفاهيم – المداخل التي يدور حولها مشروعه بكامله. وسيتجاوز في أطروحته ما وقف عنده الشافعي في أبحاثه من الكشف عن صور الأوامر التكليفية ومراتب البيان إلى البحث المتعمق عن أسرار التكليف، ورصد مقاصد الشريعة الكبرى[26]. وبذلك يتكشف الطموح العلمي التجديدي المنهجي في مشروع الإمام الشاطبي، وهو وضع نظرية لأصول التفكير المنهجي الإسلامي، من خلال وضع آليات للفهم، وشروط محددة للاستنباط أو الاستدلال. فقد دقق الأصوليون، عموما، في فهم الكلام العربي، وزادوا في استقرائهم على الاستقراء اللغوي المعروف، وأغنوا علم أصول الفقه وطوره في إطار المنطق الإسلامي البحت الذي أسسوه. كما وفروا ما يلزم من أدوات وآليات إجرائية لدراسة النصوص الشرعية واستنباط أحكامها وكشف آفاقها في الهداية والتوجيه، كما انفتحوا على الواقع الخارجي بمستوييه الأصلي وما يتبعه من لواحق وإضافات لتحديد محل للحكم وتحقيق مناطه الذي يرتبط به[27]. كما برزت قدرة الأصوليين المنهجية في دراسة الخطاب، وابتكار مقاربات منهجية دقيقية لسياقه وهو ما عبر عنه أبو الوليد الباجي ب" معقول الأصل"، وجعله على أربعة أقسام هي: لحن الخطاب، وفحواه، والاستدلال بالحصر، ومعنى الخطاب، ويعني به القياس[28] . لقد انصب اهتمام الأصوليين منذ القديم على مناهج التفكير وأساليب البرهان والتدليل، لأن القضية في جوهرها مرتبطة بالتعامل مع الوحي من خلال طرق الفهم وآليات الاستنباط، وسد الطريق أمام أية نزعة فوضوية أو متسيبة ذاتية احتكارية لحقيقية دلالة النصوص، وضبط مستويات توظيفها على صعيد السلوك والحياة. وعليه كان مجال أصول الفقه هو المجال المناسب للتجديد الفكري في المعرفة الإسلامية؛ فيه تتجلى باستمرار مجهودات التأسيس لنظرية العلم، وتبديد العماء المعرفي، وترسيخ الرؤية المنهجية المناسبة. هذا ماجعل بعض المفكرين الإسلاميين اللامعين ينتبهون إلى أن علم أصول الفقه بقراءة إسلامية مستلهمة توجهات "منهجية القرآن المعرفية" يستطيع أن يقدم مؤشرات هامة على طريق معالجة "إشكالية المنهج" في الفكر الإسلامي المعاصر[29] . ولما كان علم أصول الفقه ثمرة العقل الإسلامي الخالص، من غير إغفال تداخلاته الخارجية الجزئية مع بعض الحقول العلمية الأجنبية، فهو منهج البحث العلمي الدقيق والمنضبط، برأي باحث آخر، والذي لابد من الرجوع إلى قواعده ومبانيه ومناهجه قصد تجديدها في إطار أية عملية معرفية أو منهجية تأصيلية منضبطة ومتماسكة. المبحث الثاني: التجديد في أصول الفقه. 1- حاجتنا إلى النقد الذاتي. تظافرت الظروف الموضوعية وعوامل الزمن وانطفاء شعلة الإبداع الذاتي لتحكم طوق الجمود والتقليد على الأبحاث الأصولية، وتهدر المجهود المعرفي والمنهجي الذي أقيمت على قواعده المنظومة المعرفية الإسلامية؛ فانقطع التواصل، وتقطعت أوصال المعرفة الإسلامية، ووقعت المفارقة بين تقدم الإرادة الإسلامية وتخلف العلم، مما عرض حركة الإسلام اليوم إلى التيه والاغتراب والارتباك. هذا مايستدعي القيام بعمل نقدي ذاتي جريئ لهذا المسار، نقد ذاتي هو في حد ذاته وعي بالذات، أو قل هو أرفع رتب الوعي[30]، لأن حيوية الإنسان الحضاري تتجه في مجراها إلى الباطن. ومناخ النقد الذاتي دون خوف فكري يحرر من جو المشيخة والدروشة (جو الشيخ والمريد)، ويحرر ثورة عقلية وخصوبة فكرية، باعتبار أن جو الزوجية هو شرط الخصوبة، والخصوبة هي حصيلة تلاقح زوجين[31]؛ "ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون"[32]. إن النقد الذاتي، بنظر الكاتب اللامع خالص جلبي، حركة ديناميكية حية ومتطورة ونامية، وأداة إنضاج للوعي. وهو أداة سترافق الإنسان حيث أعمل عقله سواء في رؤية برنامج تلفزيوني، أو في قراءة قصة، أو تناول بحث، أو فك علبة، أو أكل طبخة، أو ركوب سيارة؛ إنه أداة نفض مستمرة للوعي لكي يبقى نشطا وحيا[33]. من هنا يصبح أمرا مبررا ومطلوبا التعرض بالنقد لفقه التقليد، وكشف تناقضاته، ورصد عجزه، ليكون مدخلا مشروعا لطرح قضية تجديد أصول الفقه، ومن ثمة تجديد آليات الاشتغال العقلي الإسلامي. ذلك أن القيام بتكاليف الاجتهاد، وزرع بذور التجديد، في مثل ظروفنا، يتطلب جرأة في الرأي، وقوة في الصبر وتحمل ضغوط المحافظين، لاسيما وأن التجديد، برأي حسن الترابي، سيكون شاملا، وسيعمل على إحداث ثورة تصلح الأصول مع الفروع[34]. 2- حاجتنا إلى تجديد أصول الفقه: بسبب جنوح الحياة الدينية الإسلامية إلى الانحطاط والجمود، وفتور الدوافع التي تولد الفقه الحي والعمل في حياة المسلمين، تحول علم أصول الفقه، والذي كان في إحدى اللحظات التاريخية عاصم الذهن وهادي التفكير، إلى معلومات جافة لاتهدي إلى فقه ولاتولد فكرا. وأصبح نظرا مجردا ومبالغا في التشعيب والتعقيد بغير طائل؛ يوضع في المنظومات لتحفظ على سبيل التلهي، أو يستعمل في المبارزات والمفاخرات بين طلبة العلوم الشرعية عموما. كما زاد من جمود أصول الفقه هيمنة نزعة سيكولوجية عند المسلمين عموما، علماء وغيرهم، تميل إلى الضبط والتشديد، مما جعل هذه الأصول غير مساعدة للفقيه لإنتاج معارف واقعية تستوعب حركة الحياة المتطورة. إن منهج التربية في التاريخ الإسلامي عرف إنحدارا حادا، وكان له الأثر السلبي المباشر على تطور المناهج العلمية، وعلى صياغة الشخصية المسلمة بشكل سلبي يبث روح المسكنة والذل والخضوع واعتزال الناس. ودعم هذا التوجه تربية متورعة خجولة وغير مقدامة؛ ما فتئت تذكر بالخوف من الله واتقاء الشبهات والمحارم[35]. وحولت هذه التربية السلبية مشروع الإسلام، معرفيا ومنهجيا، إلى خلاص أخروي وأناني، يعيش على الوهم، ويقفز على قيم الاستخلاف والتوكل والتسخير. لهذه الأسباب التربوية التاريخية انعزل علماء أصول الفقه والفقهاء، وابتعدوا عن معالجة قضايا الحياة العامة، واكتفوا بمجالس العلم الخاصة. فكانت الحياة تدور بعيدا عنهم؛ يأتيهم المستفتون من أصحاب الشؤون الفردية والخاصة في الحياة، يسألونهم عن قضايا شخصية في أغلب الأمر؛ فتضخم مجال فقه الفتاوى الفرعية، وضمر الإبداع الفقهي في القضايا النظرية والمنهجية، بل أصبحت المدونات الفردية عبارة عن قضايا أفراد طرحتها لهم ظروف الحياة من حيث هم أفراد[36]. وانغمس العقل الفقهي في المسائل الشعائرية والشخصية كالزواج والطلاق والآداب، وهيمن التقليد، وتقلصت مساحة العقل ومبادرات التجديد. إن الإمام مالك، مثلا، لم يكن مسؤولا ولاموجودا في إحدى المؤسسات العامة، اجتماعية أو سياسية، مما جعله لم يستثمر مجموعة من القواعد وأصول المصالح التي وضعها فآلت إلى التعطيل الكامل. ولم يستوعب إلى اليوم فقهاء المالكية البعد التاريخي في نشأة المذهب وتكوين بنيته المعرفية والمنهجية؛ فالمدينة، مثلا، حيث عاش الإمام مالك، أصبحت هامشا بعد تحول المركز إلى الشام، فظلت مناشط الحياة ضيقة وكذا الفقه، أي في غياب التفاعل الحيوي مع مشكلات يفترضها واقع حيوي، ليست المدينة نموذجه في تلك اللحظة ! وعليه تم تضييق مجال القياس، مثلا، وأصبح مجرد قوانين أقرب إلى المنطق الصوري الجاف. ولم يعد هذا المدخل المنهجي، أي القياس، مجديا إلا لتبين أحكام النكاح، والآداب، والشعائر. وعجز الفقه، إذن، عن الإحاطة بمجالات الدين الواسعة، لعجز قواعده ومداخله. كما لم تجد إيديولوجيا الضبط في الأحكام بنظر الترابي، والتي اقتضاها، لغير سبب علمي ولامنهجي، حرص السلطة السياسية على الاستقرار والأمن، خشية الاضطراب والاختلاف[37]. بل لقد حاولت هذه السلطة مصادرة الحرية الفقهية، زمن المنصور، لولا ذكاء الإمام مالك وتفطنه لذلك فاستطاع تلافيه. كما جعل فقهاء التقليد الموالين للسلطة السياسية العلة منضبطة، ووضعوا لها قيودا صارمة، وألغوا بذلك كثيرا من حكم الشارع[38] ! ورغم أن الإمام الشاطبي قد وعى جيدا أزمة المعرفة الفقهية والأصولية، وماتطرحه من مشكلة الفهم ومناهج التفكير والاستنباط، فإنه لم يفلت هو الآخر من قبضة التقليد واضطر في لحظات عدة إلى التسليم به، ودعا إلى الانقياد للعلماء، والصبر عليهم في مواطن الإشكال؛ فتارة يسمى التقليد تسليما، وتارة أخرى اقتداء، حتى إنه امتدح الإمام مالكا بمبالغته في هذا التقليد[39]. لكنه في أماكن أخرى وجدناه يحذر من الإخلاد للتقليد والتعصب للمذهب[40]. بل يعلن في خطبة كتابه عكس دعوته للتقليد ويحذر قارئه من ذلك قائلا: " وفارق وهد التقليد راقيا إلى يفاع الاستبصار، وتمسك من هديك بهمة تتمكن بها من المدافعة و الاستنصار"[41]. كل هذا يجسد الحيرة التي يعيشها العالم الأصولي، وهو يقف أمام تراث فقهي يحبل بكل التناقضات، ويحتاج إلى ثورة جذرية، مع أخذ بعين الاعتبار بنيته التقليدية المتماسكة؛ لأن مجتمعنا الإسلامي، للأسف، تغشاه حالة نفسية مضادة لكل من يخرج عن التقليد، لما تراكم عند كل فرد من أفراد الجماعة، خصوصا المقهورين منهم، من حقد وعدوانية، نابعين من الإحباط والمهانة اللذين يتضمنهما الغبن المفروض عليهم[42]. ورغم ذلك، لم يعد مقبولا التواصي بالمحافظة والاعتدال بل المطلوب بث المنبهات المنعشة والمنشطة في جسم الأمة وعقلها، وطرح التخوفات من التجديد والنقد. 3- العطاء التجديدي المعاصر في أصول الفقه: تقييم مجهود الترابي: لقد انتهينا إلى أن المفاهيم والأدوات التي نشأت في مجال أصول الفقه لم تعد تنتج إلا الفقه الثابت. وأصبحت عاجزة عن استيعاب كل مرافق التنظيم الاجتماعي في حياة المسلمين؛ فالعلة لم تعد تفسر بالحكمة والغاية، وإنما أصبحت هي الأمارة الظاهرة، والأمارة وصف ثابت غير قابل للتغيير مكانا وزمانا[43]. هذا أدى إلى الاقتصاد في استعمال العقل واستثمار آليات التحليل وبناء النظريات؛ إذ أصيب الفقيه بالرهاب، وسيطر عليه الخوف من التقول على الله، فاكتفى بالتقيد بالدلالات اللفظية طبقا للقواعد المحددة في أصول الفقه، لأنه يرى ذلك أسلم له ! وحتى إن توسع في استعمال القياس باعتباره وسيلة عقلية ومنطقية، فمن غير تدقيق في الصلة التي يقوم عليها ومن غير حصره في الأحكام المقررة بالنص، مما جعله يطال أحكاما اجتهادية فولد تطبيقات شاذة في قضايا حيوية وخطيرة في حياة المسلمين؛ كتعيين رئيس الدولة، وصلاحياته بعد التعيين، وقضايا الشورى[44]. لقد كان استعمال القياس في تحديد صلاحيات رئيس الدولة الإسلامية، مثلا، كارثة حقيقية حالت دون نمو الفكر الدستوري والسياسي الإسلاميين[45]. كما أن مساحات أخرى في حياة المسلمين انسحب منها الفقه ليكتسحها النموذج الغربي بإيجابياته وسلبياته، لأن حفظة تراث الدين التقليدي، بنظر الترابي، ظلوا ساكنين بحكم الأوضاع الواقعة، ما انشغلوا بعالم السياسة ولو بدا فيه الفسوق عن الشرع، إلا حينما يدعوهم أولياء الأمر أحيانا ليباركوا مقاعدهم ويزينوا فعالهم ترويجا لأمرهم بين عوام المسلمين الذين يتبعون العلماء والشيوخ التقليديين[46]. وعليه لما طرحت بين المسلمين مسألة الفصل بين الدين وشأن الدولة وجدوا أن رصيد الفقه الموروث لم يجد هديا حاضرا وكافيا لإسلام السياسة لله. وأما أصول الفقه فقد رويت بمنهج جامد ميت لايلد اجتهادا مسعفا فورا يعمر ماخرب ويتم مانقص في مجال السياسة. بل كان لغو السياسة الحديثة في المجتمع الإسلامي بغالبه لفظا غريبا وترجمة ساذجة لمعاني المذاهب والتجارب الوضعية اللادينية يغيب عنها مصطلح الفقه الشرعي[47]. وإنه بقدر ما أسهم علم أصول الفقه في بناء الشوكة المعرفية والمنهجية للأمة، بقدر ما أدى جموده إلى إحداث ثقوب واسعة في صرح الأمة المعرفي، فجاءت إذن المشاريع التجديدية في أصول الفقه تتوالى. وقد لخص الدكتور علي جمعة في كتابه "قضية تجديد أصول الفقه" مختلف دعاوى التجديد الأصولي خلال القرن العشرين؛ منذ تأليف الشيخ محمد الخضري كتاب "أصول الفقه" (طبعـه عام 1911م /1329 هـ). انتقد فيه التدريس بطريقة المتون والحواشي والتي تجعل التلميذ وشيخه سواء لافرق بينهما إلا من كثرة الفروع في رأس هذا عن ذاك. فتجديد الخضري، إذن، هو تجديد الأسلوب وطريقة العرض فقط[48]. أما دعوة الدكتور محمد عبد اللطيف فرفور في وجيزه، فقد عبرت عن استحالة تقديم الجديد والاستدراك على فحول الأقدمين، ولخص مهمته في التبسيط والتحقيق للمسائل العلمية، والرجوع في النقول إلى أمهات المصادر[49].
17-07-2008 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=624 |