شكلت العلاقة بين الإسلام والغرب أحد أهم المحاور التي شغلت خطاب التّجديد الإسلامي، ويتمتع الغرب بحضورٍ كثيفٍ في الخطاب الإسلامي منذ الغزو الاستعماري للعالم الإسلامي في القرن التَّاسع عشر، إلاَّ أن ما طبع معظم الدراسات الإسلامي للظاهرة الغربية بحسب ما ذكره مالك بن نبي أنها (تتَّسم بالنَّظرة الحدية التي حكمت ثقافة رجل ما بعد الموحدين؛ فالغرب إما طاهرٌ مقدسٌ أو دنسٌ حقيرٌ، ولم تتجاوز هذه الخطابات إطار التعبئة والتحذير والتجزيء، والقصور).
والمتأمل في أعمال مالك بن نبي الفكرية يجدها تعالج مسألة واحدة تدور حول (مشكلة الحضارة)، ويرى أن هناك ظاهرة واضحة للعيان ولا تحتاج إلى كبير تأمل, وهي ظاهرة عالمية الحضارة الغربية.
وفي معرض تحليله لدورة الحضارة يؤكِّد بأن لكل حضارة مجالها الحيوي وقيمتها المميزة التي تتحكم في مسارها وتطورها في التاريخ، وهو يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن ظاهرة القرن العشرين هي عالمية الحضارة الغربية، (فالظاهرة هي عالمية الحضارة الغربية التي تطرد بدافع من قوتها الخاصة، ومن تطور الشعوب التي تعيش على المحور الآخر).
وتعتبر عالمية من خلال توحيدها للمشكلة الإنسانية فقد )حققت العبقرية الغربية هذا التوحيد حين أوصلت مقدرة الإنسان إلى المستوى العالمي، وهو يتجلى في حياة كل شعب وفي تشكيلاته السياسية، وفي ألوان نشاطه العقلي والفني والاجتماعي).
وقد لاحظ مالك بن نبي أن العالم بدأ يتأمرك بفعل العامل التكنولوجي وانتشار الأفلام الأميركية وسيادة النموذج الاستهلاكي.
يولي مالك بن نبي أهمية خاصة للقرنين التاسع عشر والعشرين في تشكل المركزية الغربية، بسبب ما شهده العالم من توسع غربي شمل قارات العالم أجمع والخضوع المباشر للسيطرة الاستعمارية، ومع انحسار المشروع الاستعماري شهد العالم خضوعًا من نوع آخر بفعل العامل الصناعي، والقوة التكنولوجية، يقول مالك ابن نبي (وفي هذا الجو المفعم بالتفوق نشأت النَّفسية الأوروبية، وظهرت كتابات تنظر إلى تاريخ البشرية وكأنه بدأ مع الإغريق والرومان، ثم حدث فيه تقطع أو جمود، ثم عاد للظهور في باريس ولندن من جديد.(
والسبب في هيمنة النّزعة المركزية كما يرى مالك بن نبي أن أوروبا التي ورثت التَّقاليد الرومانية من عصر النهضة قد أصبحت رهينة ثقافة إمبراطورية تنحو إلى السيطرة قادتها إلى الاستعمار والعنصرية، وقد تغذى ضميرها في القرن التاسع عشر على جملة من القضايا أهمها ازدهار فكرة "جوبينو" العنصرية، وهو الكاتب الذي طبق أفكار "دارون" عن أصل الأنواع على مجال الإنسان، فخلَّف في القرن العشرين تراثًا روحيًّا ضارًا ثقيلاً أنتج "هتلر" والدكتور "مالون". إن الاستعمار بحسب مالك بن نبي سبب ونتيجة في الوقت نفسه فهو من جهة نتيجة لثقافة الإمبراطورية المتأصلة في النَّفسية الأوروبية والتي يعبِّر عنها "توسيديد" عندما يقوم ببتر المفهوم التاريخي بإلغاء تاريخ الإنسانية كله، بقوله: (إن حدثًا مهمًّا لم يقع في العالم من قبل عصره).
وهذه الأقوال هي التي خلقت ثقافة الإمبراطورية، تلك الثقافة التي تقوم على أساطير السيادة والعنصرية والاستعمار. ومن جهة أخرى فإن هذه المركزية تكونت بسبب الكبرياء والتعالي والنرجسية؛ فالغربي الذي يولد في جو استعماري يتعلم النظر إلى الإنسانية بتعال وكبرياء، ويتعلم ازدواجية النظرة إلى الأشياء، فهو يرى بصورة طبيعية مشاكل الغرب، أما حين ينظر إلى مشاكل الشعوب الأخرى فإنه يضع نظارة على عينيه ويرى الصورة بشكل مختلف.
فالحضارة الغربية على الرغم من عالميتها وشمولها متمركزة أساسًا حول ذاتها، وتتعامل مع الآخر على أنه هامش وأطراف، وذلك بسبب ماديتها وفعاليتها (فالفكر الغربي يجنح على ما يبدو أساسًا إلى الدوران حول مفهوم الوزن والكم، وهو عندما ينحرف نحو المغالاة يصل حتمًا إلى المادية في شكليها: الشكل البرجوازي للمجتمع الاستهلاكي، والشكل الجدلي للمجتمع السوفياتي(.
وقد تشكلت هذه الرؤية المادية الغربيَّة من خلال أربعة مصادر، وهي بحسب مالك بن نبي: المسيحية البروتستانتية، والرأسمالية، والماركسية، والعنصرية، وهذه النظرة الماديّة رسَّخت مفهوم المركزيَّة ذلك أن المادية تجعل الإنسان ينظر إلى الأرض وتجعله يتعلقبالأشياء والمادة، الأمر الذي يقود إلى ثقافة ترتبط بعالم الأشياء، (فالطريقة الأولى تملأ وحدته بالأشياء حيث يجمح بصره المتسلط لامتلاكها، وبالتالي تنشأ عنها ثقافة سيطرة ذات جذور تقنية).
وقد أنتجت الحضارة الغربية المرتكزة على الآلة والتقنية عقلا غربيا آليا باردا، فصارت الحياة أرقامًا، بل إن أوروبا النازعة إلى الكم وإلى النسبية، قد قتلت عددًا كبيرًا من المفاهيم الأخلاقية، حين جردتها من معانيها النبيلة، وأحالتها ضروبًا من الكلمات المنبوذة في اللغة، طريدة الاستعمال من الضمير.
وبحسب مالك بن نبي؛ فإن الحضارة التي لا تنمو فيها إلا النَّواحي المادية دون أن يواكب ذلك نمو متكافئ في ميدان الرُّوح هي أشبه ما يكون بسفينة اختلت قيادتها، ومضت بسرعة متزايدة نحو الكارثة التي ستقضي عليها.
ويمكن القول بأن مالك بن نبي ينظر إلى عالمية الحضارة الغربية كنتيجة للاطراد التاريخي لحركة الحضارة الإنسانية، والتي تقودها الحضارة الغربية منذ القرن الثامن عشر على الأقل، وهي حضارة محكومة بنظرة الغرب للعالم باعتباره دار نفوذ، ومسرح السيطرة الأوروبية، التي غذاها الاستعمار والعنصرية، ونشأت نفسيتها في ظل الاكتشافات الجغرافية في أواخر القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر، ووجدت تأسيسًا لها في جهود حركة النهضة الأوروبية، وروادها الأوائل أمثال "ميكافيلي" و "ديكارت"، وغيرهما، ثم"هيجل" والفلاسفة الألمان، ثم "ماركس" ، فالجميع بطريقة أو أخرى يشّرعون لسيادةأوروبا على العالم من منطلق التفوق الأوروبي.
فهذه الحضارة الغربية العالمية تهدف إلى تأكيد المركز الأوروبي الغربي بالنسبة للعالم، من خلال تركيبتها الثقافية التي تستند إلى مزيج من المادية والفعالية بحسب مالك بن نبي، وتحسب موقع العالم بمقدار ما يؤثر في حركة التاريخ.