/
أزمة العلاقات الإنسانية و قضايا البحث العلمي في الجامعات العربية... بين مذكرات المسيري وبدوي
محمد همام
1-تمهيد لابد منه: أريد أن أعترف في البداية أن قراءة السيرة الذاتية يشكل متعة لي ما بعدها متعة؛ فلا أجد كتابا في السيرة الذاتية إلا وانكببت على قراءته، معطلا كل التزاماتي في القراءة الراتبة والبحث المقرر. وهذا طبع اكتسبته منذ طفولتي؛ أي منذ وجدت نفسي منغمسا في قراءة "الأيام" لطه حسين؛ وكنت عندها صغيرا. كما اطلعت على "الخبز الحافي"، الجزء الأول، من سيرة الكاتب المغربي محمد شكري، ولم تستطع عندها، وأنا الطفل الصغير الذي لم يبلغ الحلم بعد، أن تصدني حملات المحافظين الرافضين لسيرة محمد شكري، واستطعت بمساعدة من شقيقي الأستاذ عبد الكريم، أن نحصل على نسخة من الطبعة الأولى "للخبز الحافي"، في بداية الثمانينات، قبل أن تختفي من الأسواق تحت ضربات المتشددين وتضييقاتهم، لتظهر من جديد في السنوات القليلة الماضية؛ ترى ما أسكت المتشددين عنها اليوم؟ وهذا الاهتمام أو قل الهواية في قراءة السيرة الذاتية، أحييته بشكل فعال في السنوات الأخيرة، من خلال الاطلاع على ما صدر من سيرة الجابري "حفريات في الذاكرة، من بعيد"، وعلى سيرة العروي في أوراقه، إذا افترضنا أن أوراق العروي نوع من السيرة الذاتية، وفي خواطر الصباح، وعلى سيرة مالك بن بني "شاهد على القرن"، وعلى نوع آخر من السيرة الذاتية المكتوبة نيابة، كتلك التي كتبها الشيخ يوسف القرضاوي عن الشيخ محمد الغزالي، بعنوان "الغزالي كما عرفته"، وعلى سيرة الفنان المغربي العربي باطما، بجزئيها "الرحيل والألم"، وهو أحد أعضاء مجموعة ناس الغيوان، أشهر مجموعة غنائية ملتزمة بالمغرب، وسيرة هشام شرابي "الجمر والرماد، ذكريات مثقف عربي"، وغيرها كثير من نماذج السيرة الذاتية التي استهوتني كثيرا ومازالت ! ولن أكون مجاملا ولامبالغا إذا صرحت أني لم أنشد إلى سيرة ذاتية واضطررت إلى إعادة قراءتها قدر انشدادي إلى سيرتين خطيرتين؛ الأولى لعبد الرحمن بدوي، سيرة حياتي، في جزأين، في حدود 765 صفحة، والثانية لعبد الوهاب المسيري؛ رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر، سيرة غير ذاتية غير موضوعية، الجزء الأول في حدود 559 صفحة، على اعتبار أن الجزء الثاني أي السيرة من خلال الشعر تحتاج إلى وقفه خاصة غير هذه ثم إنها لا تستهوي مثل الجزء الأول. 2- بصدد سيرة عبد الرحمن بدوي: ملاحظات على متن التلقي لنص سيرة بدوي: إنها سيرة مشوقة ومثيرة ومفاجئة بل ومستفزة؛ ففي بداية صدورها سمعت عنها وقرأت بعض القصاصات الإخبارية، وكانت عندها مفقودة في السوق المغربية؛ وعندما تيسرت لي زيارة مدينة فاس وجدت نسخة منها، في جزأين، بمكتبة الباحث العربي قرب جامعة سيدي محمد بن عبد الله، ففرحت غاية الفرح، وشرعت في قراءتها من فاس، بل كانت من أسباب تعجيلي العودة من فاس إلى أكادير حتى أتفرغ لها واستمتع بمفاجآتها. وقبل هذا كنت قد قرأت مقالا مطولا عن سيرة بدوي للأديب الروائي يوسف القعيد بعنوان "أنا ، أنا... ومن بعدي الطوفان، قراءة في سيرة حياة الدكتور عبد الرحمن بدوي"، بمجلة "الكتب، وجهات نظر، المصرية".[1] وكما يلاحظ لأول وهلة، فعنوان المقال كان مثيرا، وكذلك المقال نفسه. فالقعيد، ومنذ البداية، كان يهيئ القارئ لشن حملة نقد شرس على الفيلسوف بدوي، كما احتج على سيرته التي تعبر بنظره عن حالة مفكر استثنائي، وتحمل تقييمات غريبة، بل ومتحيزة. فيوسف القعيد يذكر أن بداية تعرفه على بدوي كانت في النصف الأول من الستينات وكان ذلك عندما ذهب إلى مكتبة البلدية في دمنهور، وللقدر العجيب أن دمنهور هي مسقط رأس الأستاذ عبد الوهاب المسيري، صاحب السيرة الأخرى المثيرة. وكان القعيد يود إنجاز بعض الأبحاث وتحصيل بعض المعلومات، وقدرا، وبينما كان يبحث في كتب الخزانة، إذا به يرمق عنوانا لكتاب هو "الزمان الوجودي" ولم يكن مؤلفه سوى عبد الرحمن بدوي. ويعترف القعيد أنه عجز، في ذلك الوقت، عن فهم كلمة واحدة من ذلك الكتاب، وهو كان رسالة بدوي للدكتوراه، برغم تردده الكثير على مكتبة البلدية، ومعاودته الكرة محاولة الدخول إلى عالم ذلك الكتاب المغلق. وقد ذكرني القعيد بحالة الفارابي مع كتاب أرسطو في النفس ! ولكن بعد سنوات أخرى قرأ القعيد لبدوي كتبا أخرى ليست بصعوبة الأول؛ مثل "شخصيات قلقة في الإسلام"، و "من تاريخ الإلحاد في الإسلام"، ومن ترجماته: "دون كيشوت". كما قرأ القعيد لبدوي حوارا مطولا مع مجلة "الكرمل" الفلسطينية، كان فيه بدوي، بنظر القعيد، حادا؛ إذ هاجم كل من في مصر بصورة مخيفة، وكان ذلك حوالي منتصف الثمانينات. وفي عقد التسعينات وجد له القعيد كتابين في المكتبة ليسا من جنس مؤلفاته التي نعرفها، أي الكتب الفلسفية ذات المنزع اليوناني؛ "دفاع عن القرآن الكريم ضد منتقديه"، والثاني " دفاع عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم". وهما مترجمان عن الفرنسية التي كتبهما بها في الأصل. وهذان الكتابان يعبران بنظرنا عن قدرة تنبئية ومستقبلية رهيبة عند الفيلسوف بدوي، والذي كان يعلم علم اليقين استعداد دوائر البحث الغربي، لشن حملة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا على القرآن الكريم، فكان تأليف الكتابين عملية استباقية من بدوي لحماية رمزي المسلمين والذوذ عنهما، إلا أن الأديب يوسف القعيد يصرح بأنه لم يجد في نفسه حماسة لقراءتهما ! بناء على انطباعات أولية. وآخر ما وجده القعيد لبدوي في سوق الكتب، كتاب ضخم في جزأين هو "سيرة حياتي"، موضوع حديثنا. ومرة أخرى يسجل القعيد تحفظاته الشكلية الأولى على الكتاب؛ فثمنه كان غاليا، ولولا إغراء الناشر بإجراء تخفيض على تخفيض معرض القاهرة الدولي للكتاب لما اشتراه ! واحتج القعيد على عدم توصية بدوي الناشر بتوفير طبعة شعبية مناسبة للقارئ العربي، على غرار ما فعله إدوارد سعيد في سيرته المطبوعة ببيروت[2]. وبرغم تصريح القعيد بأنه لم يلتقط جواب الناشر بسبب الصخب والضجيج في المعرض، إلا أنه أقر بأن بدويا لم يفكر في هذا من الأصل والأساس. وتفرغ القعيد لهذا السفر الضخم، على تبرمه الملحوظ من صاحبه. ووضع بين يديه معيارين أساسيين يجب أن يتوفرا بنظره في كل سيرة ذاتية؛ أولهما: الصدق؛ أي أن السيرة الذاتية تخاصم الكذب والادعاء، والصدق هو كلمة السر التي لايمكن تعويضها. وثانيهما: أن تكون هذه السيرة مكتوبة بشعرية عالية تعيد للعين متعة القراءة، بعدما افتقدتها في معظم ما نقرؤه هذه الأيام ! فهل وجد القعيد ما يريده في سيرة بدوي؟ يذهب القعيد إلى أن الذي دفعه إلى قراءة هذه السيرة الضخمة، إنما هو إحساسه بصدق الكاتب، وليس جمال أسلوبه أو شعريته وعذوبته؛ فكتابات بدوي، بنظر القعيد، وهو الذي لم ينس اصطدامه مع كتاب "الزمان الوجودي" في مكتبة دمنهور، هذه الكتابات حادة وجافة، تذكر الإنسان بكتابات الأدباء الألمان في جفافهم وبعدهم فيما يكتبون عن الدم واللحم وإنسانية الإنسان، خاصة هيرمان هيسه وتوماس مان. ولما أتم القعيد هذه السيرة المفاجئة، صرح بأنه أصيب بالذهول؛ إذ في وقت كان يمني نفسه بتعارف من نوع فريد، على تكوين عقل وضمير وروح مشتغل بالفكر والفلسفة، وكيف تكونت قناعاته وتطورت نظرته إلى الأمور، ذهل من نزيف الأنا، والتمركز حول الذات، بل وعبادة الذات من خلال حالة من هستيريا جنون العظمة التي تتعدى عند القعيد كل شئ تعامل معه من قبل ! كما ذهل من هذا الهجوم الكاسح على كافة رموز مصر في القرن العشرين؛ من ساسة وكتاب وأدباء ومفكرين ورجال دين، مع التركيز في هذا الهجوم الجارح على الأموات، والذين لا يردون عادة على مثل هذا الهجوم. كما ذهل القعيد من هذا الهدم المنظم لكافة إنجازات مصر في القرن الذي مضى وودعناه. قد يقال إن ذلك مجرد وجهة نظر بدوي، لكن القعيد يلح على أن ما قيل لا يمت بأي صلة من الصلات للآراء أو وجهات النظر، كما أن هذه السيرة فيها، بنظره، من السياسة والايدولوجيا أكثر مما فيها من الفلسفة. كان هذا نموذجا لردود الفعل تجاه سيرة بدوي؛ وقد أثقل القعيد مقالته بأدلة وشواهد وأحكام ونصوص من متن السيرة، كلها تذهب في اتجاه تكريس قساوة بدوي وعنفه في النقد والتحامل على كثير من الرموز الفكرية والسياسية. وللحقيقة، فالمطلع على هذه السيرة الثمينة سيجد مفاجآت كثيرة؛ من أصنام تتهاوى ورموز تنكسر بشراسة وجرأة خارقة. إلا أن نقد القعيد كان بدوره قاسيا ومتحاملا ومغالطا في كثير من جوانبه؛ كما أنه عبر عن موقف شخصي من بدوي ومن كتاباته قبل الإطلاع على السيرة؛ إنما هذه الأخيرة كانت النقطة التي أفاضت الكأس؛ إضافة إلى أن بدويا نقد الشيوعيين والقوميين والإخوان إلى حد ما، وكشف خبايا السياسيين وخياناتهم. ولكنه لم ينطلق من فراغ، بل كان يدلي بمعطيات ومعلومات وإحصائيات، وأظهر بشكل ملفت قدرة على التذكر والاسترجاع للأحداث والأسماء والتواريخ، مع قسوة وسخط بينين، ليس على مصر وحدها، ولكن على كل الأقطار العربية التي زارها محاضرا أو مدرسا أو مقيما لفترة ما و ربما على جل من عرف !وهذا هو عبد الرحمن بدوي ! وعليه فمن لم يفهم هذه السيرة في ضوء شخصية بدوي وظروف تشكلها التاريخي والعلمي، فلن يرى في هذا الفيلسوف العظيم إلا أناة متضخمة تنبعث منها السهام المحرقة في كل اتجاه ! وللأسف ظلت الردود السلبية هي الغالبة على المطلعين على سيرة بدوي؛ فبعد مقالة القعيد، صدر مقالان عنها، الأول للكاتب المصري سعيد اللاوندي يروي فيه بعض ذكرياته مع المفكر الراحل عبد الرحمن بدوي[3]، والثاني بعنوان: أيام بدوي في ليبيا، كتبه فرج بو العشة[4]؛ فاللاوندوي سيرى أن بدويا لم يترك شخصا يعرفه أو يسمع به في الحاضر أو الماضي إلا ويخصه بحزمة من الأحكام القاسية، ولا يبالي إن كان سوف تسره أو تغضبه، حتى إنه أي بدوي، يكاد لا يرى في الكون إلا نفسه! ومن الأمور التي دار حولها النقاش بين اللاوندي وبدوي، انتقاد الأخير لكتابات الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في الدفاع عن العلمانية، وكذا كتابات الأستاذ حسن حنفي في السياق نفسه؛ فبدوي، كما يحكي اللاوندي، يرى أن الصغير يصدق قبل الكبير أن الإسلام لا يتفق مع الفكر العلماني، والدولة في الإسلام دين والدين دولة، ورئيس الدولة يجب أن يجمع بين الجانبين. ويحتج بدوي على اعتبار ادعاءات حجازي وحنفي رأيا، وإنما هما، بنظره، كما يحكي اللاوندي، يريدان ايجاد نوع من "حق المواطنة" للعلمانية في الفكر الإسلامي. كما اتهم بدوي حنفيا بالتنصر والإقامة في دير! كما انتقد بدوي المناضلة الإسلامية المشهورة "صافي ناز كاضم"، وهاجم ماضيها؛ أي يوم كانت شيوعية متعصبة بنظره ! وفي خضم هذا الحوار كان اللاوندي وبدوي يعبران في الشانزليزيه، ولما ذكره اللاوندي بوضعه هو أي التحول من الوجودية إلى الإسلام، أسرع بدوي الخطى، ثم ابتلعه الزحام وافترق عنه! وجمعت جلسة أخرى اللاوندي ببدوي؛ وكانت كل جلسة تكشف، بنظر اللاوندي، عن حدة بدوي وغضبه؛ فهو كان يتضايق من اللاوندي وينزعج منه ! لماذا؟ لم يحك اللاوندي ذلك ! وكان مدار الحديث هذه المرة حول كتابات بدوي الإسلامية، والتي كان يشعر بالسعادة وهو يتحدث عنها كما يذكر اللاوندي. وأشهر هذه الكتب كما سبق ذكره: "دفاع عن القرآن الكريم ضد منتقديه"، وهو رد على ما كتبه المستشرقون كنيلدكه في كتابه "تاريخ القرآن"، و "يل" الانجليزي الذي ظهر عام 1953. والكتاب الإسلامي الآخر هو "دفاع عن حياة محمد ضد الطاعنين فيها" وكتاب "الإسلام في نظر فولتير وادوارد جيبون وهيردر وهيغل"، وكتاب "ترجمة لجزء من السيرة النبوية لاسحاق بنهشام". و حكى بدوي للاوندي أن دافعه إلى الدخول في هذه المعركة المضادة عن الإسلام ضد المستشرقين، أتى من وعيه الشديد بالهجمة الصليبية الغادرة التي يتعرض لها الإسلام في السنوات الأخيرة، جسدها كتاب "آيات شيطانية" لسلمان رشدي، الذي دافع عنه الغرب، بنظر بدوي، للشر الكامن في داخله ضد الإسلام. وفي خضم الحديث عن الإسلام يعود بدوي إلى سؤال سابق للاوندي عن انتقاله من الوجودية إلى الإسلام، معتبرا أن انتماءه الوجودي لم يخرجه يوما من الإسلام، بل كان يجمع بين الاتجاهين؛ فحتى في التأليف كان يزاوج بين الاتجاهين؛ فعندما أصدر كتابه الأول عن "نيتشه" سنة 1939، أصدر كتابه الثاني عن "التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية"؛ وكتبه الأربعة عن الإسلام تلت كتبه عن ايمانويل كانط (4 أجزاء)، وكتاب عن هيغل، ثم موسوعته الفلسفية. فلما كان يؤلف كتابا في الفلسفة العالمية، كان يتبعه بكتاب في الفكر الإسلامي. وفي خضم هذا النقاش/ الحوار الفكري، ينتقل بدوي، فجأة، كما يحكيه اللاوندي، إلى مهاجمة بعض الرموز السياسية والفكرية لأسباب يراها اللاوندي ساذجة؛ مثل بطرس غالي لأن زوجته يهودية، ثم إن إسرائيل كانت وراء ترشيحه للأمانة العامة للأمم المتحدة، ثم لركاكة انجليزيته، وعربيته كانت عربية الصحافة الدارجة. وفجأة ألقى بدوي قطعة نقدية ثمنا لقهوته وحده وغادر المكان وترك اللاوندي! وذكر اللاوندي بعض ذكرياته الأخرى مع بدوي، كلها تسير في اتجاه رسم صورة حادة له، بطباع غاضبة، وسلاطة لسان، وعنف في النقد بكثير من التهكم والسخرية والاحتقار للباحثين المصريين؛ كالدكتور عبد اللطيف عبد الحليم، ورجاء النقاش والذي اتهمه بدوي بالإجرام في حق الثقافة ! وسامح كريم ورشدي راشد، ومحمد أركون والذي اعتبره تلميذ الاستشراق بل شكك في جزائريته، واتهمه بالجناية على الإسلام من خلال كتاباته ! كما نال بدوي، برواية اللاوندي، من الكاتب أحمد بهجت، ومن أستاذ الفلسفة عزت قرني، وأبدى تضجرا من محمد عبده، وصب جام غضبه على تلميذه فؤاد زكريا، واتهمه باتهامات خطيرة كانت وراء طرده من الكويت. ولم تتوقف المعركة حول سيرة بدوي، بل ظهرت أقلام، على قلتها، تدافع عن بدوي وعن سيرته؛ فقد كتب الباحث حسوني المصباحي مقالا بعنوان "دفاعا عن الدكتور الفيلسوف"[5]، أكد فيه أن عبد الرحمن بدوي علم من أعلام الثقافة العربية خلال القرن العشرين، وراهبا حقيقيا في عالم العلم والمعرفة؛ فقد حقق عشرات النصوص والتآليف القديمة المتصلة بالتصوف والفلسفة، وترجم آثارا أدبية ذائعة الصيت عالميا من أمثال "تراجيديا سوفوكليس واسخولوس"، ودون كيشوت "لسرفانتس"، و"الديوان الشرقي لمؤلفه الغربي" لجوته. كما عرف بدوي بنظر المصباحي، بالفلسفة الوجودية، وألف فيها عن إبداع لاعن تقليد، وكتابه "الزمان الوجودي" دليل على ذلك. كما أن بدويا، ونظرا لقوة شخصيته لم ينساق يوما مع أنغام الموسيقى الصاخبة للأيديولوجيات الشيوعية واليسارية أوالعقائدية، ولم يترجم لأي من القادة الأيديولوجيين، ولاسقط قلمه في الابتذال أو السطحية كما فعل كثير من المثقفين العرب ومازالوا ! بل انصرف إلى التعريف بالمفكرين والفلاسفة الغربيين الحقيقيين من أمثال: نيتشه، وشوبنهاور، وهيغل، وهايدجر وغيرهم. كما يحسب لبدوي أنه لم يصفق يوما لديكتاتور عربي مهما علا شأنه في زمانه، بل لعنهم جميعا. ولم ينخدع بشعاراتهم في الوحدة والتقدم والتحرير. إلا أن صمته وانقطاعه للبحث والتأليف ورهبنته العلمية لم يجنبه غيظ المهرجين والغوغائيين من مريدي القادة الأيديولوجيين، وهو المتمسك بحريته الفردية والمتشبث باستقلاليته في الرأي والفكر؛ فاختار الهجرة هربا من الاختناق والنفاق، وظل وفيا لصراحته واستقلاليته وخياره النقدي، ونذر نفسه للعلم والمعرفة، ولم يبدل تبديلا حتى عندما أدركته الشيخوخة بمتاعبها وآلامها. إن سيرة بدوي وثيقة نادرة عن أحوال الثقافة والسياسة وقضايا البحث العلمي في العالم العربي خلال القرن العشرين، وبيان صريح عن فساد الحكام وسذاجة المحكومين، وهي بنك معلومات عن المؤامرات والدسائس، وعن المثقفين الأدعياء والمزيفين، وعن أسباب الجهل والتخلف في الجامعات العربية والتي امتد تأثيرها إلى وسط المجتمع العربي ومازال يعاني منها الإنسان العربي. وستبقى هذه السيرة بمثابة وثيقة فكرية هائلة، تمثل حلقة أساسية في مسار الفكر العربي، ومرجعية أساسية للباحثين في مختلف الحقول والمجالات المعرفية؛ من الجغرافيا إلى التاريخ مرورا بالقانون الدستوري والمنطق وتاريخ الفكر، وبين هذه الحقول تبرز قوة اللغة وجلاء الأسلوب ونباهة الذكاء ووضوح الفكرة، والخيط الرابط لكل ذلك ذاكرة متقدة وخارقة تلتقط أبسط الجزئيات[6]. وبرغم ما أثارته هذه السيرة من ردود سلبية وصاخبة، يبقى بدوي علما أساسيا في تاريخ الفلسفة العربية الحديثة، استجاب في أعماله إلى مطالب النهضة العربية دون التخلي عن هموم الإنسان عامة، متجنبا السقوط في المواقف العقدية التي تكاد تقتل العمل العلمي والفلسفي في لحظتنا الراهنة، تحقيقا أو ترجمة أو تنظيرا أو تاريخا أو إبداعا. كما يرجع له الفضل في تأسيس فلسفة في تاريخ الفكر الإنساني من منظار الحقبة العربية[7]. وإذا كانت سيرة بدوي قد أثارت جدلا واسعا وسط الباحثين والمهتمين فذلك راجع ليس إلى تعصب بدوي أو شراسته في النقد، ولكن إلى الحقائق المخيفة التي ذكرها والتي تسكن باطن الحياة الثقافية والعلمية في العالم العربي. أكيد أن كثيرا من الناس ربما يتضررون من إفصاح بدوي عن أسمائهم، كما قد تكون لنا وجهة نظر متقاربة حول رفض نوع من التجريح والهجوم على الأشخاص والذوات. لكن المؤكد أن بدويا لم يصنع الأحداث ولم يكذب على حالتنا العربية خصوصا في الجامعات. وهذا الذي ذكره بدوي سيؤكده علم فكري آخر لا يشك المثقفون العرب، على اختلاف نحلهم ومللهم، في نزاهته الفكرية ودقته العلمية، وهو المفكر عبد الوهاب المسيري؛ فالذي يثير انتباه كل باحث مهتم بقضايا البحث العلمي في مذكرات بدوي والمسيري ما آل إليه الوضع في المؤسسات العلمية والتكوينية العربية خاصة الجامعات؛ إذ أجمعا على شيوع أشكال من الشحاذة والحقد والكذب والصراع المدمر بين الباحثين، لأسباب في غالبها شخصية مسكونة بعقد وتحيزات نفسية بغيضة. 3- بصدد سيرة عبد الوهاب المسيري؛ مأزق التصنيف الأجناسي لسيرة المسيري: لم يثر صخب كبير حول سيرة عبد الوهاب المسيري، مثل ما رأينا بالنسبة لعبد الرحمن بدوي؛ أولا لطبيعة الرجل أي المسيري، فهو معروف بهدوئه وقدرته العجيبة على استيعاب كل الاختلافات الفكرية بين الباحثين والمثقفين، ثم لقدرته المعرفية المدهشة على صياغة خطاب معرفي يكاد يجد فيه كل باحث ذاته الفكرية وطموحه العلمي. وعليه يصعب اليوم تصنيف عبد الوهاب المسيري ضمن التيارات الفكرية الموجودة في العالم العربي، إلا أن نقول مفكر عربي إسلامي كبير، بدون زيادة أي قرينة أخرى؛ فخطابه المعرفي في بعده الكلي والمنهجي يعبر عن خطاب مركب بشكل مبدع ومنغمس في تراث الأمة وفي قيمها التداولية لغة وعقيدة ومعرفة. وحتى سيرة المسيري، والتي من المفترض أن تكون مفاصلها الأساسية، كما ألفنا في السير الذاتية الأخرى، وفق أدبيات النقد والتنظير السير الذاتي، ذات عمق حميمي خاص، استطاع المسيري إخراجها من ذاتيتها ومن موضوعيتها لتكون نموذجا سير ذاتيا قابلا للتعميم. وهذا هو سر الإقبال على سيرة المسيري. فإذا سألتني مثلا لماذا تثيرني سيرة المسيري وتستهويني؟ فإني سأجيب بأن أهميتها ليست لكونها تحكي عن رجل اسمه عبد الوهاب، نشأ من خلال خط متصاعد في الحياة، وعرف أحداثا متنوعة ومتناقضة مملوءة بالآمال والآلام وغيرها، ولكنها استهوتني، لأني وجدت نفسي في كثير من اللحظات يمكن أن أعوض عبد الوهاب. وبمعنى آخر أعطت هذه السيرة الذاتية الخاصة بالمسيري قيمة حقيقية كنت أجهلها لسيرتي الذاتية التي لم أفكر يوما في كتابتها ولا ظننت بأنها مهمة ! فالمسيري في الحقيقة يكتب سيرتنا وليست سيرته وحده بل يكتب سيرة الأمة ! أذكر أن سيرة عبد الوهاب المسيري لما نزلت إلى السوق المغربية في طبعتها الأولى تسابق إليها الشباب الإسلامي بالدرجة الأولى؛ أولا لأنا كنا نعرف المسيري من خلال مواجهته الأكاديمية العالية للوبي العلمي الصهيوني، ثم أن كثيرا من مؤطرينا كانوا يحدثونا عن عودة المسيري إلى الفضاء الإسلامي أي إلى ما تتصوره "الحركة الإسلامية" فضاء إسلاميا ! فكان الإقبال على المسيري بخلفية تنظيمية وإيديولوجية، مثل إقبالنا على مفكرين كبار كمحمد عمارة ومنير شفيق وعبد الحليم محمود، وخالد أحمد خالد، وفتحي عثمان... الذين عادوا إلى الإسلام كما كنا نتصوره ! وبما أن سيرة المسيري انتشرت وسط شباب كثير خصوصا في جنوب المغرب، فقد عقدنا جلسات متتالية لدراستها والوقوف على ما فيها من المعطيات والمعلومات، وبدأنا نكتشف المفاجأة تلو الأخرى عبر مسار حياة هذا الرجل العظيم. وبقدر إمعاننا في قراءة هذه السيرة بقدر هروب شبح صورة المسيري الذي كوناه عنه من خلال تنظيماتنا وجماعاتنا. وخرجنا في الأخير بخلاصة مفادها أن المسيري كقيمة فكرة وعلمية وتجربة إنسانية أكبر من مجرد كائن إيديولوجي وتنظيمي يصلح لخوض المعارك هنا وهناك. فأول الآثار لهذه السيرة علينا جمود علاقاتنا التنظيمية ودخول أفواج من الشباب الإسلامي في مراجعات فكرية ومنهجية مازالت مستمرة وفي طور التخلق والتكوين. وعليه اكتشفنا من خلال السيرة أن المسيري لم يكن مجرد جندي أو قل ضابط أو حتى جنيرال في الجيش العربي المفترض ضد إسرائيل، بل كان أولا وقبل كل شئ تجربة إنسانية غنية بإمكاناتها العاطفية والوجودية والفكرية. كل هذه المميزات جعلت سيرة المسيري تلقى قبولا وسط المثقفين لأن المسيري قدم لنا حياته في عفويتها الإنسانية وتلقائيتها الوجودية، تظهر فيها شخصية عبد الوهاب وديعة ومسالمة، لا تميل إلى الخصومة والاصطدام وهي سمات شخصية عبد الرحمن بدوي، رحمه الله. ثم إن المسيري قدم هذه السيرة خارج كل المواصفات الأجناسية التي أثقلنا بها النقد الأدبي العربي، تقليدا لمدارس نقدية غربية وإطارات مرجعية مفارقة لمجالنا التداولي، فتاهت نصوصنا الإبداعية السير الذاتية وغيرها بين محاكم تفتيش دولة النقد المتسلطة !هذه المحاكم النقدية التي تعمل تحت ذريعة الشرط المنهجي بتعبير صديقنا الباحث عبد السلام أقلمون[8]، على إسكات النصوص وتكميم الدلالات، وهو سلوك بات واضحا حتى في الدراسات السميائية التي يكون موضوعها علم الدلالات، لكنها تحولت إلى علم شكلانية الدلالة، مما يحول المعاني في أي نص إلى جملة من الجزئيات المفككة يقوم الدارسون بتشخيصها مع الإمعان في استبعاد التوصيل الدلالي الكلي. فجاءت الدراسات السيميائية مثل نظيرتها اللسانية والشكلانية لتتلف وظائف السرد وأغراضه الكبرى، ولوءد المعاني، مما يحول بين النصوص وبين المساهمة في تحريك أوضاع المجتمع وتفعيل واقعه. وهذه الوظيفة المشبوهة للنقد هي الرهان الكبير الذي يتواطؤ على تكريسه بتعاون مع الاستبداد. وعليه فقد استطاع النص السيرذاتي للأستاذ المسيري أن ينفلت من كل التعقيدات الأجناسية لنظرية الآدب، وكذا للمقاربات النقدية الشكلية، ومن ثم لايمكن إدراك نص المسيري خارج النسق المتواشج لنصوص متنوعة ومتناصة فيما بينها؛ فالتناص مفتاح أساسي لولوج عالم الدلالة في نص المسيري؛ هذا إذا اعتبرنا أن التلقي الأجناسيPérception générique يتحكم بشكل كبير في أفق انتظار القارئ بل وفي تلقي العمل بحسب تنظيرات جيرار جينيت في كتابه "مدخل لجامع النص"؛ بل يبقى نص المسيري متفلتا حتى من التصنيفات الأجناسية الثلاثة التي حددها أفلاطون وأرسطو والقائمة على مبدأ "المحاكاة". كما يتميز نص المسيري السير ذاتي بالتكثيف، من خلال الإحالة على أفكار عديدة ونصوص متكاثرة، مع التوجه نحو تركيب معرفي ومنهجي بطاقات تحليلية مبدعة وضمن شبكة مفهومية وجهاز نظري متكامل وقوة تفسيرية باهرة. وإذا كان كات هامبورجر Kate Hamburger قد حصر ثنائية الذاتي والموضوعي في الشعر والرواية، مع استحضار هامشي للتعبير الشخصي مثل السيرة الذاتية أو مايسميه بالرواية على لسان المتكلم، فإن نص المسيري استطاع إحياء مفهوم النص السير ذاتي غير الذاتي والنص السير ذاتي غير الموضوعي، مع إمكانية الجمع بينهما عكس نظرية النقد الأدبي الكلاسيكي التي تلح على الفصل بين الأجناس الذاتية والأجناس الموضوعية. فنص المسيري هو جوامع أجناس، يقدم نمطا جديدا للسرد لم تعد النظريات النقدية العجوزة قادرة على الإحاطة به والإلمام بتفاصيله إلا من خلال آفاق نقدية رحبة وتداولية أصيلة. وعليه فقد أبدع المسيري، ربما من دون قصد، في توفير نص سير ذاتي خارج مواصفات الأجناسية (Génologie) الكلاسيكية، مما يلهم النقد الأدبي العربي أفكارا ورؤى جديدة منبعثة من داخل الإطار الثقافي والتداولي لنص المسيري، أو من مختلف أنماط الخطاب التي ينتمي إليها هذا النص. وإذا كانت عناصر التجنيس في النص السير ذاتي يبرز من خلال الحضور المتصل بضمير الأنا كتعبير عن امتلاك ناصية الكلام والسيطرة على الخطاب والتذويت بتحويل الأنا المتكلمة إلى بؤرة مركزية في نص السيرة الذاتية، والميثاق التلفظي من خلال وضع صورة في إعلان المؤلف عن مقصديته من الكتابة بالإحالة على تجربته بإشارات مختلفة إلى ذلك، برغم هذا فإن نص المسيري لم يعرف تمركزا أنانيا للذات/ الأنا، بقدر ما عرف تمركزا للفكرة في نموها وتطور مسارها عبر مراحل حياة المتكلم؛ هذه الفكرة التي تتحول إلى رسالة إنسانية تلامس آمال وأشواق كل الحيارى والقلقين. إن هوية نص المسيري السير ذاتي ليست معطى سابقا ومحددا بشكل تقني، وإنما يتشكل هذا المعطى من خلال الكينونة الفكرية والمعرفية للذات/الفكرة عبر تطورها في الزمان والمكان، وفي ارتباط وثيق مع قيم اجتماعية وثقافية مترابطة، ولا يتحدد الفرد فيها إلا من داخل هذه الشبكة الاجتماعية. فنص المسيري ليس اعترافا، مثل اعترافات روسو أو القديس أوغستان، وليس تعبيرا عن توهج فرداني مرتبط بخصوصية عبد الوهاب/الفرد، وإنما هو تتبع من خلال حياة فرد/نموذج لحركية شبكة القيم الثقافية والعلاقات الاجتماعية. إن الحكي في سيرة المسيري، لايقود بالضرورة، كما ادعى كوسدورف[9]، وبكل يقين إلى الذات/الفرد، بقدر ماينفتح على الجماعة وعلى تاريخها ورموزها، بل إن السرد في سيرة المسيري هو الوعي؛ الوعي بالحياة وبالقيم و بالإنسان وبالمستقبل. فشخصية السارد في نص المسيري، لا تقدم نفسها كمركز للعالم، بقدر ما هي عنصر حيوي وفعال في خلية عائلية متراحمة ومتعاونة، من دون أن ننسى أن السارد/عبد الوهاب يقدم نفسه من خلال انتمائه الطبقي البورجوازي، والذي عادة ما يتلاءم في الأدبيات النقدية الغربية مع جنس السيرة الذاتية، لكن هذا السارد سرعان ما يمعن في الانتماء إلى رموز طبقات مستضعفة ومقهورة،أي الاستضعاف الحضاري، محققا انتحارا طبقيا ثقافيا ورمزيا عبر مسار السرد وعبر الوعي المتطور بمفاهيم الحياة ومحركات الصراع الاجتماعي والبحث عن الهوية المفقودة، في الخارج على الخصوص وبعيدا عن الوطن. إن إشكالية نص المسيري السير ذاتي ليست في علاقة النص بالذات، ولكن في علاقة النص بالتاريخ، والوعي بالحياة. وإذا كان لابد أن نبحث عن نماذج من السيرة الذاتية لنص المسيري، فلن نجدها بنظري في الإطار الغربي، ولكن في أدبنا القديم "كالمنقذ من الضلال" للغزالي و الذي أرخ به لتوتره الفكري، وكذا "الإمتاع والمؤانسة"، الذي أرخ به التوحيدي لثورته وانفعاله، و "الإشارات الإلهية" لمناجاته، أو "كتاب الاعتبار" لأسامة بن منقد والذي صور فيه حياته الفكرية وحياة عصره. فسيرة المسيري تقترب في مقصدتيها من هذه التجارب السيرة الذاتية القديمة أكثر مما تقترب من النماذج السير ذاتية العربية الحديثة مثل"مرداد و لقاء" لمخائيل نعيمة، و"الأيام" لطه حسين، و"ابراهيم الكاتب" للمازني، و"سارة" للعقاد، و"عودة الروح" لتوفيق الحكيم، و"الحي اللاتيني" لسهيل ادريس. فهذه النماذج مصاغة بشكل أقرب إلى ما نجده في الأدب السير ذاتي الغربي. إن نص المسيري ينتهي بنا إلى أنه ليس بالضرورة جنسا أدبيا وحسب بقدر ما هو تجربة فكرية وحياتية تصلح لأخذ العبر والدروس، ولو عبر ممارسة شخصية للكتابة تنفتح على الذات والحياة، عبر تشكل ذهني عميق تكوينا و اكتشافا وتربية وذكريات. إن دراسة نص المسيري السير ذاتي تحتاج إلى رؤية أكثر شمولية لمفهوم النص وكذا لمفهوم الجنس الأدبي؛ فهذا النص مجال خصب لإنتاج الدلالات وتشابك الخطابات، وصياغة الرؤى الكلية والنماذج التفسيرية لكثير من الظواهر الفكرية والاجتماعية.وعليه فإن النقد العربي المتحيز والمولع بتقليد النقد الغربي استنفذ إجرائيته في مقاربة نصوص من هذا الحجم وبهذا الغنى؛ فلا قيمة لمنهج نقدي لا ينصت إلى النص المنقود، وليست السيرة الذاتية بالضرورة تفكيكا للأنا وفضحها كما أوضح ذلك رولان بارت في كتابه "الغرفة الواضحة"، كما ليست بالضرورة حديثا ذاتيا مفرطا عن الجسد أوالذوق أو العشق أو العزلة أو الكآبة أو المعاناة، إنها عند المسيري، تركيب لمفاهيم كلية ونماذج تفسيرية وإعادة إنتاج القيم الإنسانية العليا. إن النص السير ذاتي الذي أبدعه المسيري يتقاطع مع التصور العالي للأدب ولقيمته؛ أدب تلتقي عنده عبقرية الفرد بروح الأمة، كما أوضح ذلك دلتي في كتابه "مدخل إلى دراسة العلوم الإنسانية". ورغم ذلك يبقى نص المسيري في حاجة إلى تحديد الحدود بين الرؤية للعالم أو النظرة الكلية أو النموذج، وبين الأيديولوجيا، خصوصا في معانيها السلبية؛ مثل تحديد العلاقة بين النظرات المختلفة عند الفرد الواحد في لحظات متفاوتة من تطور حياته، ثم مشكل الخيال والسلوك وحدود الذاتية والموضوعية في هذه النظرة الكلية؛ فهل يمكن الحديث عن أنماط من النظرة الكلية أو الرؤية للعالم، بتعبير غولدمان[10] ، عند المسيري. إن القدرة التفسيرية لنموذج المسيري والتقاط التفاصيل وتركيبها في إطار كلي يجعل مشروعه مفتوحا وقابلا للإضافة والإغناء؛ وهذا مسؤولية قراء المسيري والمولعين بنماذجه التحليلية ورؤيته الكلية. وإذا كان غولدمان قد ذكر الكتب الثلاثة التي شكلت خلفيته التصورية المرجعية، و هي التي كتبها لوكاتش؛ أي "الروح والأشكال"، و "نظرية الرواية"، و "التاريخ والوعي الطبقي"، فإننا مازلنا في حاجة إلى دراسة مراجع المسيري والنصوص المضمرة وسط نصوصه الظاهرة، للوقوف على قدراته العجيبة في التأسيس لنظرة كلية ونموذج معرفي من خلال الدمج الخلاق والتركيب المبدع للنصوص في تداخل مع تجربة الحياة وهموم الذات وقلقها المعرفي، وقدرتها على قراءة النصوص وتأويلها ضمن رؤية متماسكة للعالم. 4- أزمة البحث العلمي في الجامعات العربية من خلال سيرة عبد الرحمن بدوي وسيرة عبد الوهاب المسيري: إن دراسة سيرة عبد الرحمن بدوي وكذا عبد الوهاب المسيري تحتاج إلى مجهودات أكبر مما اكتفينا به في هذه المقاربة في المدخل على أساس التلقي بالنسبة للسيرة الأولى، والتصنيف الأجناسي بالنسبة للنموذج الثاني. ويمكن دراسة السيرتين من خلال المقارنة على أكثر من مستوى وفي أكثر من مجال؛ وعليه اقتصرنا على ذكر ما اتفقا عليه جميعا في نقطة جزئية برزت لنا أهميتها، وهي قضايا البحث العلمي وأزمة العلاقات الإنسانية بين الباحثين في الجامعات العربية وظروف تشكل وعيهما الفكري و شخصيتهما العلمية، وربما كان حديث عبد الرحمن بدوي بصراحة كبيرة في هذا الموضوع سببا رئيسيا في طبيعة التلقي السلبي الذي لاقته سيرته؛ فقد حكى بدوي عن حرمانه من الذهاب في بعثة إلى فرنسا أو ألمانيا مع أنه الأحق بذلك من السبعة المتخرجين في قسم الفلسفة في أعوام 1930، 1931، و 1934، يومها كان طه حسين عميد الكلية، وكان الشيخ مصطفى عبد الرازق وزيرا للأوقاف، وكلاهما على علاقة خاصة ببدوي؛ إذ درساه ولهما تأثير كبير على حياته العلمية. وتدخل الشيخ لحل المشكل، ولما أحرجت الكلية اتخذت قرارا استثنائيا يجعل الذهاب في بعثة إلى الخارج محصورا في الذين حصلوا على الماجستير أولا من مصر. ويتساءل بدوي بمرارة: من ذا الذي قرر ذلك وليس في قرارات مجلس الكلية شئ من ذلك؟ ومتى صدر هذا القرار إن كان ثم قرار؟ ولم لا يصدر إلا الآن وأكون أنا أول من يطبق عليه؟ هذه وبقية من الأسئلة بقيت أرددها مع نفسي وأعجب لهذا التصرف الغريب (ج1 ص 117). فهذا تصرف يكشف مستوى الأخلاق العلمية في الجامعة، وإلى أي حد يعتمد أهلها معيار الكفاءة والاستحقاق في اختيار الطلبة وتكريمهم ! والغريب أن أغلب المبعوثين يعودون من الخارج، و من فرنسا على الخصوص من دون الحصول على شهادة الدكتوراه والتي من أجلها ذهبوا، ذكر بدوي العديد منهم بالاسم، ومنهم من بقي عشر سنوات في الخارج ! إنه إخفاق ! ويطرح بدوي السؤال: ما السبب؟ ويجيب: ليست اللغة الفرنسية هي السبب، فقد كان المتخرجون في قسم الفلسفة في مصر يتلقون معظم دروسهم بالفرنسية، إنما السبب بنظر بدوي، قلة الذكاء المقرونة بالكسل وعدم الرغبة في العلم والتحصيل (ج 1 ص 155-156). هؤلاء العائدون / الفاشلون، بنظر بدوي، هم الذين تزعموا حملات التحريض وبث أجواء التوتر بين الباحثين ممن بقوا في مصر واجتهدوا في تحصيل الدرجات العلمية العالية. لهذا يقول بدوي:" كان جو القائمين بالتدريس في كلية الآداب جوا مسموما خانقا تكثر فيه الحزازات والوشايات والمهاترات والمؤامرات".(ج1 ص 157).
24-08-2008 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=647 |