/
"تصرفات الرسول بالإمامة".. للعثماني هل هو تأصيل للعلمانية؟
أمجد جبرون
صدر للدكتور سعد الدين العثماني كتاب "تصرفات الرسول بالإمامة"[1] منذ حوالي خمس سنوات، وهو طريف في موضوعه، ومتقدم من حيث أفكاره وأطروحاته، غفل عن ذكره النقاد والباحثون، رغم أبعاده ومراميه "الثورية" في الفكر السياسي للحركة الإسلامية المعاصرة. وسعد الدين ليس نكرة في العلم والعمل في الدائرة الإسلامية، فهو رجل ممارس ومفكر "عضوي" ساهم في صياغة وتطوير أدبيات العمل الإسلامي في المغرب، ولا أدل على ذلك رسالته القصيرة التي أصدرها مبكرا مقدمة تأصيلية لمشروعية المشاركة السياسية الإسلامية في الثمانينيات من القرن الماضي التي عنوانها "الفقه الدعوي: مساهمة في التأصيل". فالتعرض لأطروحة "تصرفات الرسول بالإمامة" بالنقد والتحليل والتصويب مسألة حيوية، بل ومسئولية أخلاقية ومعرفية، لأسباب كثيرة ليس أقلها وأضعفها إمكانية النفوذ العملي التي تتمتع بها مقارنة بغيرها. I- عرض الكتاب: تندرج هذه "الرسالة" المسماة "تصرفات الرسول بالإمامة: الدلالات المنهجية والتشريعية" من الناحية المعرفية والمنهجية في مجال الدراسات التي تعنى بمناهج فهم النصوص النبوية من زاويتي علم الأصول والحديث، والتي ازدهرت في العقود الأخيرة على هامش "الكلام" المتزايد "حول طرفي الغلو والتقصير في فهم النصوص الحديثية، ومع تزايد جهود التجديد والإحياء الإسلامي"[2]. وقد رغب المؤلف من خلالها في ترشيد الثقافة الدينية، وخاصة لأولئك المهتمين بالدعوة والنهضة. يقع الكتاب في ثلاثة فصول بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة، ففي الفصل الأول تحدث عن تنوع التصرفات النبوية: تأصيل وتصنيف، وفي الفصل الثاني تحدث عن التصرفات النبوية بالإمامة: مفهومها وسماتها، وفي الفصل الثالث بين أهمية التصرفات النبوية بالإمامة. أ- تنوع التصرفات النبوية: إن التصرفات النبوية تعني "عموم ما صدر منه صلى الله عليه وسلم من تدابير (وأمور عملية) من قول أو فعل أو تقرير سواء كانت للاقتداء أو لم تكن، وسواء كانت في أمور الدين أو الدنيا"[3]. وهي مختلفة ومتنوعة وأدلة ذلك كثيرة؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم نفسه ميز بين أنواع من تصرفاته، ولعل أشهر حديث في هذا الباب هو حديث تأبير النخل الذي رواه مسلم. وكذلك الصحابة من بعده ومتقدمي الأصوليين، أمثال الفراء والباجي وابن تيمية... أثبتوا وأكدوا تنوع تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يغفل المؤلف عن ملمح آخر من ملامح التنوع والاختلاف ويتعلق الأمر بمقامات التصرفات النبوية؛ فهي أحيانا في مقام التشريع للأمة، وأحيانا أخرى في مقام "اجتهاد الإمام في المصلحة"... وقد تقدم البحث في هذا الباب لدى أهل الحديث والأصول، ومن أبرزهم ابن قتيبة الدينوري وابن عبد البر والقاضي عياض والعز ابن عبد السلام والقرافي وابن عاشور...، وبالاستفادة من جهود هؤلاء يمكن تقسيم التصرفات النبوية إلى قسمين: - "تصرفات تشريعية: وهي ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم مما هو للاتباع والاقتداء"[4]. وتنقسم إلى تصرفات بالتشريع العام؛ "وهي تتوجه إلى الأمة كافة إلى يوم القيامة"[5]، وتصرفات بالتشريع الخاص؛ "وهي مرتبطة بزمان أو مكان أو أحوال أو أفراد معينين، وليست عامة للأمة كلها. ويدخل ضمنها التصرفات بالقضاء والتصرفات بالإمامة والتصرفات الخاصة"[6]. - تصرفات غير تشريعية: "وهي تصرفات لا يقصد بها الاقتداء والاتباع، لا من عموم الأمة ولا من خصوص من توجهت إليهم"[7]، مثل التصرفات الجبلية والتصرفات العادية والتصرفات الدنيوية والتصرفات الإرشادية والتصرفات الخاصة به صلى الله عليه وسلم. وأحصى الدكتور سعد الدين من هذه التصرفات التشريعية وغير التشريعية عشرة أقسام، خص كلا منها بالشرح والتفصيل. وجعل تصرفات الرسول بالإمامة من أقسام التصرفات بالتشريع الخاص، وعرفها بما يلي "وهي تصرفات منه صلى الله عليه وسلم بوصفه إماما للمسلمين ورئيسا للدولة، يدبر شؤونها بما يحقق المصالح، ويدرأ المفاسد، ويتخذ الإجراءات الضرورية لتحقيق المقاصد الشرعية في المجتمع"[8]. وفي ختام هذا الفصل نبه المؤلف إلى أن التمييز بين هذه التصرفات أساس فقه السنة، ومن الأسس المنهجية اللازمة للنظر فيها والتعامل معها، والغفلة عن هذا تفضي إلى نظرة غير واقعية وغير شرعية لقوله وفعله صلى الله عليه وسلم[9]. ب- التصرفات النبوية بالإمامة (مفهومها وسماتها): "التصرفات النبوية بالإمامة هي تصرفاته صلى الله عليه وسلم بوصفه إماما للمسلمين ورئيسا للدولة، يدير شؤونها بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد، ويتخذ الإجراءات والقرارات الضرورية لتحقيق المقاصد الشرعية في المجتمع ويسميها بعض العلماء تصرفات بالسياسة الشرعية أو بالإمارة"[10]. وبالتالي هي مقام غير مقام النبوة والرسالة والفتيا والقضاء...، وبحسب التصنيف السابق هي تصرفات "تشريعية خاصة بزمانها وظروفها، ولذلك يعبر عنها ابن القيم بأنها "سياسة جزئية" بحسب المصلحة، وأنها مصلحة للأمة في ذلك الوقت، وذلك المكان، وعلى تلك الحال"[11]. فبعد هذا التدقيق في المفهوم كشف المؤلف مظاهر وعي الصحابة بهذا النوع من التصرفات، وذلك من خلال أمور أربعة: مراجعتهم إياه في بعض قراراته، اقتراحهم رأيا مخالفا لرأيه فيما شاورهم فيه، تأويلهم لبعض تصرفاته صلى الله عليه وسلم على أنها كانت لمصالح مؤقتة، مراجعة الخلفاء الراشدين لبعض تصرفاته صلى الله عليه وسلم بعد وفاته. والتفت المؤلف بعد هذا لمتابعة تطور المفهوم لدى العلماء والأصوليين، حيث أكد أن الإمام شهاب الدين القرافي (ت.684هـ) هو أول من أبرز تصرفات النبي بالإمامة وبين سماتها، وإن كانت لا تعدم الإشارات إليها في كتب من سبقه، ومن بين هؤلاء العز بن عبد السلام (ت. 660هـ) الذي أشار إلى لفظ التصرف بالإمامة في كتابه "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، وتلقفه بعده تلميذه القرافي الذي خص هذا الجانب بالحديث في فروقه وأيضا في كتاب "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام"، وستتوالى الاجتهادات والتقعيدات في هذا الباب بعد القرافي مع ابن تيمية وابن القيم وغيرهم. ومن سمات التصرفات بالإمامة أربعة: أنها تصرفات تشريعية خاصة، مرتبطة بالمصالح العامة، واجتهادية، وتتعلق بأمور غير دينية. - تصرفات تشريعية خاصة: وهي "تصرفات للاقتداء والتنفيذ، فهي بالتالي سنة تشريعية. لكنها تصرفات جزئية مرتبطة بتدبير الواقع وسياسة المجتمع، فهي خاصة بزمانها ومكانها وظروفها".[12] وحصر أنواعها في نوعين: تصرفات تقنينية وترد بصيغة "العام الذي أريد به الخصوص"، وتصرفات تنفيذية صادرة عنه صلى الله عليه وسلم اجتهادا مثل تعيين أمراء البلدان، والسفراء، وتوزيع الإقطاعات... - تصرفات مرتبطة بالمصالح العامة: إن التصرفات بالإمامة تهدف أساسا إلى تحقيق المصالح العامة، وتعتمد المصلحة الراجحة أو الخالصة في حق الأمة.[13] - تصرفات اجتهادية: فعندما "يتصرف بوصفه "إماما" أو "قائدا" سياسيا إنما يتصرف باجتهاده في رأيه الذي يمكن أن يصيب فيه أو يخطئ"،[14] وكان الصحابة الكرام يدركون هذا المعنى في تصرفاته صلى الله عليه وسلم والأمثلة على هذا كثيرة في السيرة النبوية. - تصرفات في أمور غير دينية: والمثال القوي على هذا النوع من التصرفات هو حادثة تأبير النخل المشار إليها سابقا، "وأهمية التنصيص على انبناء التصرفات النبوية بالإمامة على مصالح الدنيا تكمن في إدراك ضرورة تغير تلك التصرفات في حال تغير المصالح التي انبنت عليها".[15] وقد خلص من كل ما سبق إلى قاعدة عامة: "تصرفات الرسول بالإمامة ليست ملزمة لأي جهة تشريعية أو تنفيذية بعده، ولا يجوز الجمود عليها بحجة أنها "سنة". وإنما يجب على كل من تولى مسؤولية سياسية أن يتبعه صلى الله عليه وسلم في المنهج الذي هو بناء التصرفات السياسية على ما يحقق المصالح المشروعة".[16] ج- أهمية التصرفات النبوية بالإمامة ودلالاتها: خصص الدكتور سعد الدين العثماني هذا الفصل –وهو الأخير من كتابه- إلى الفوائد المنهجية والفقهية والحديثية التي يتيحها لنا الوعي بتصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة. فمن الناحية المنهجية تدل هذه التصرفات -باعتبارها غير ملزمة ولا يجوز الجمود عليها- على سنة التدرج في تنزيل الأحكام وإصلاح الواقع، ومراعاة أحوال الناس وخصوصيات الواقع، وكذا الأحوال الطارئة، غير أن أبلغ دلالة منهجية تعبر عنها هذه التصرفات هي تعلقها ب"منطقة مفوضة" (منطقة العفو أو الفراغ التشريعي) "لاجتهاد أولي الأمر للنظر فيها بحسب مصالح الأفراد والجماعات".[17] وإلى جانب هذه الفوائد هناك فائدة أخرى لا تقل أهمية عن تلك السابقة وهي "حل إشكالات في الفقه والحديث"؛ فاعتبار تصرفات الرسول بالإمامة في كثير من الحالات يرفع الخلاف، ولا أدل على ذلك الخلاف الذي نشأ بين الفقهاء والمحدثين حول حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو سفيان، والذي جاء فيه: "من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه"، فمنهم من قال بأن الحديث منسوخ ومنهم من نفى ذلك، والمخرج من هذا كله هو ما ذهب إليه ابن القيم من أن هذا الحد "هو بحسب المصلحة إلى رأي الإمام".[18] وآخر هذه الفوائد تتجلى على صعيد الفقه السياسي، فالوعي بتصرفات الرسول بالإمامة يؤشر على مبدأ فصل السلطات في الإسلام، ويؤيد مدنية الدولة الإسلامية وتاريخية التجربة الإسلامية بما في ذلك عهد الراشدين. II- تصرفات الرسول بالإمامة؛ الأطروحة وتداعياتها: إن أطروحة "تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة" هي إضافة نوعية في مجال الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، ويمكن اختصارها في التالي: "تصرفات الرسول بالإمامة ليست ملزمة لأي جهة تشريعية أو تنفيذية بعده، ولا يجوز الجمود عليها بحجة أنها "سنة". وإنما يجب على كل من تولى مسؤولية سياسية أن يتبعه صلى الله عليه وسلم في المنهج الذي هو بناء التصرفات السياسية على ما يحقق المصالح المشروعة". وهي بالإضافة إلى الفوائد التي أشار إليها المؤلف ترفع الحرج عن الفعل السياسي الإسلامي، بحيث تجعل من الممارسة السياسية ممارسة اجتهادية لا تنضبط إلا للمصلحة المشروعة. فإذا كانت هذه الأطروحة ترد وبكفاءة عالية على الفهوم "السلفية" للسنة، التي تقف عند ظاهر النصوص في عصرنا هذا، وتحرر العمل السياسي الإسلامي من الكثير من "العقد النصية" الناتجة عن ضعف في الفقه، والتي تشتغل ككوابح للتفكير والممارسة في الوقت الحالي، وتحد من إمكانيات التكيف مع ضغوط العصر وصعوباته، فإنها في المقابل تبدو وكأنها شكل من أشكال التأصيل للعلمانية. وسواء قصد المؤلف هذا الأمر أو لم يقصده، فإن الطريف في عملية الكتابة من جهة، وجمالية التلقي من جهة ثانية، تكمن في المعاني وأشكال التلقي اللامتوقعة لهذه الأطروحة. فتمييز "تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة"، أو ما يمكن أن نسميه بلغة العصر التصرفات السياسية للرسول صلى الله عليه وسلم، بأنها في أمور غير دينية واجتهادية ومصلحية،[19] مقابل التصرفات الدينية للرسول هو ترجمة أصولية لمبدأ "فصل الدين عن السياسة"، بل السؤال الأكثر أهمية في هذا السياق أي مشكل للإسلاميين مع العلمانية مع هذا التمييز وبعده؟. فهذه الأطروحة تطرح السؤال كبيرا حول الطريقة التي يصل بها الإسلاميون، أو على الأقل فريق منهم المسمى "معتدلا" الدين بالسياسة. فرسالة سعد الدين العثماني باختصار اشتغلت على التصرفات التي تدخل في باب الإمامة والسياسة، وحاولت تحديد سماتها العامة وخصائصها، وبنت على ذلك مفهوما للإمامة يتميز بطبيعته الدنيوية والاجتهادية، والمصلحية والتاريخية. ومن الناحية العملية انتهت إلى حقيقة أصولية وفقهية وهي عدم إلزامية تصرفاته صلى الله عليه وسلم بالإمامة للأئمة بعده، وعدم جواز الاستنان بها. فمقتضى هذه الرسالة وقصدها غير المباشر دعوة الإسلاميين لتمثل هذا المفهوم للإمامة واعتناق حقيقته الأصولية والفقهية. وباعتبارها كذلك لابد من مناقشتها ومراجعة أحكامها. وسنحاول ذلك من خلال العناصر التالية: أ- مفهوم الإمامة: من الناحية المعرفية تقوم أطروحة "تصرفات الرسول بالإمامة" على مفهوم- أساس؛ وهو مفهوم التصرفات بالإمامة، الذي يعني: "تصرفاته (ص) بوصفه إماما للمسلمين ورئيسا للدولة يدير شؤونها بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد ويتخذ الإجراءات والقرارات الضرورية لتحقيق المقاصد الشرعية في المجتمع ويسميها بعض العلماء تصرفات بالسياسة الشرعية أو بالإمارة".[20] وفي سياق البرهنة على أصالة هذا المفهوم وصحته رجع لكلام بعض الأصوليين وتحديدا القرافي الذي جعل الإمامة مقاما مختلفا عن مقام النبوة والفتيا...، ومن الناحية المنهجية اختار منهج الاستنباط في بناء أطروحته، حيث اقترح في البداية مفهوما وبدأ يفصل الكلام ويفرعه على منواله. فهذه الأطروحة يمكن الاعتراض عليها من خلال الأسئلة التالية: ما مدى صواب قصر التصرفات بالإمامة فقط على تلك التي قام بها النبي باعتباره رئيسا للدولة؟ ألا تدخل فيها بعض التصرفات التي قام بها صلوات الله عليه من منطلق النبوة وتبليغ الرسالة؟ ثم ما مفهوم الإمامة المرجعي لتصنيف تصرفاته صلى الله عليه وسلم؟ وهل سنعتمد على معيار الجهاز/المؤسسة الدولة في تمييز هذه التصرفات أم معيار آخر؟ إن الإمامة من المباحث الكلامية والأصولية القديمة في الفكر الإسلامي، وكل المصنفات وكتب الفرق تنضح بها، ومن المعلوم في التراث الإسلامي بالضرورة اختلاف الأمة حولها، وافتراقها إلى مذاهب وطوائف لا زال بعضها حاضرا في حياتنا الدينية إلى اليوم. فالإمامة في الجناح السني هي "نيابة عن صاحب الشريعة (النبي) في حفظ الدين، وسياسة الدنيا به، تسمى خلافة وإمامة، والقائم به خليفة وإماما".[21] وقد عبر الماوردي عن هذا المعنى بالشكل التالي؛ "فإن الله جلت قدرته ندب للأمة زعيما خلف به النبوة، وحاط به الملة، وفوض إليه السياسة، ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع فكانت الإمامة أصلا عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح الأمة حتى استثبتت بها الأمور العامة، وصدرت عنها الولايات الخاصة".[22] ونفس الحقيقة يقررها ابن تيمية في رسالة بعث بها إلى أحد سلاطين المسلمين، حيث افتتحها بقوله: "من أحمد بن تيمية إلى سلطان المسلمين، وولي أمر المؤمنين، نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بإقامة فرض الدين وسنته".[23] ومعطيات لسان العرب" لا تناقض هذا المعنى، بقدر ما تؤكده، فالإمامة في اللغة تطلق على الرئاسة في الدين والدنيا.[24]فقد ورد عند ابن منظور أن "الإمام كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين"،[25] "وإمام كل شيء قيمه والمصلح له، والقرآن إمام المسلمين، وسيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة، والخليفة إمام الرعية، وإمام الجند قائدهم".[26] ومن ثم، فالإمامة في القاموس السياسي الإسلامي هي قيادة روحية ومادية، دينية ودنيوية. وبالتالي "التصرفات بالإمامة" هي تصرفات دينية ودنيوية ليست فقط من منطلق الرئاسة السياسية، ولكن أيضا من منطلق الرئاسة الدينية والزعامة الروحية. فمن بين ما يحتويه مدلول كلمة الإمام معنى "القيادة العلمية والتوجيهية للأمة".[27]فالطرطوشي على سبيل المثال كان يعي هذا التداخل والاجتماع، ففي كتابه "سراج الملوك"، دل ملكه على طريق إقامة "العدل الشرعي" أو "العدل النبوي" أو "العدل الإلهي"، المؤدي "لاستقامة الدين والدنيا"، وخلاصته إشراك العلماء في السلطان باعتبارهم "الأدلاء على الله والقائمون بأمر الله، والحافظون لحدود الله، والناصحون لعباد الله"،[28] ذلك أن القيام بفروض الإمامة ومهامها متعذر إذا عول السلطان على نفسه وأقصى العلماء عن حكمه، فالمسئوليات الدينية والروحية من أعمال العلماء والصلحاء. وعموما الوعي باتساع دلالة الإمامة واشتمالها على الرئاسة الدينية والدنيوية كان عاما لدى السلف الصالح من علماء الأمة المتقدمين والمتأخرين. ولا أدل على ذلك اشتراط فقهاء الأحكام السلطانية في المقدم للإمامة "العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل".[29] ومع تقدم الزمان وتعذر هذا الشرط في ضوء التحولات السياسية التي طرأت على العالم الإسلامي فقد أمر المتصدي للإمامة والخلافة بتقديم "من العلماء والقضاة من فيه كفاية وغنية"[30] في جانب الدين. ب- مفهوم التصرفات بالإمامة: فمفهوم التصرفات بالإمامة الذي طوره سعد الدين العثماني في هذه الرسالة يعود إلى الإمام القرافي وشيخه العز بن عبد السلام، والغموض الذي يداخله يرجع إلى الأصل الذي نقل عنه والأصوليين الذين استعملوه بشكل محدود من بعده. وقد انتبه بعض المتقدمين لهذا الالتباس وحاولوا رفعه بتدقيق تعريف لفظ "التصرف بالإمامة"، لكن الدكتور سعد الدين غفل عن هذا التنبيه، ولم يوليه الأهمية التي يستحقها. جاء في حاشية ابن الشاط[31] على "الفروق" المسماة "ادرار الشروق على أنواء الفروق"، وعلى هامش حديث القرافي عن التصرف بالإمامة ما يلي: "المتصرف في الحكم الشرعي إما أن يكون تصرفه فيه بتعريفه وإما أن يكون بتنفيذه، فإن كان تصرفه فيه بتعريفه فذلك هو الرسول، إن كان هو المبلغ عن الله تعالى وتصرفه هو الرسالة، وإلا هو المفتي وتصرفه هو الفتوى. وإن كان تصرفه فيه بتنفيذه، فإما أن يكون تنفيذه ذلك بفصل وقضاء وإبرام وإمضاء، وإما أن لا يكون كذلك، فإن لم يكن كذلك فذلك هو الإمام وتصرفه هو الإمامة، وإن كان كذلك فذلك هو القاضي وتصرفه هو القضاء".[32] وعليه يكون تعريف التصرفات بالإمامة حسب ابن الشاط على النحو التالي: التصرف بالإمامة هو تصرف في الحكم الشرعي بتنفيذه دون فصل وقضاء وإبرام، سواء تعلق بأمور دينية مثل الصلاة والزكاة...، أو أمور دنيوية كالمصالح العامة. والأمثلة على التصرفات بالإمامة في المجال الديني بعد النبي صلى الله عليه وسلم كثيرة، مثل قتال أبي بكر لمانعي الزكاة في بداية خلافته، وأيضا ما ذكره المؤرخون في حق "معلم" المرابطين عبد الله بن ياسين، الذي كان يلزم أتباعه ودائرة نفوذه السياسي بصلاة الجماعة في المسجد، وكل من تخلف عنها كان يعاقبه بالجلد،[33]ويدخل في هذا المعنى عقاب تارك الصلاة والصوم والزكاة... قال ابن تيمية: "فالواجب على ولي الأمر أن يأمر بالصلوات المكتوبات جميع من يقدر على أمره، ويعاقب التارك بإجماع المسلمين، فإن كان التاركون طائفة ممتنعة قوتلوا على تركها بإجماع المسلمين، وكذلك يقاتلون على ترك الزكاة، والصيام، وغيرها، وعلى استحلال المحرمات الظاهرة المجمع عليها، كنكاح ذوات المحارم، والفساد في الأرض، ونحو ذلك. فكل طائفة ممتنعة من التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة يجب جهادها، حتى يكون الدين لله، باتفاق العلماء".[34] فبغض النظر عن طبيعة الأحكام التي قررها ابن تيمية في هذه الأمور، فإن تصرف الإمام فيها ذو طبيعة "دينية"، وبالمعنى الخاص للدين. أما التصرفات بالإمامة في المجال الدنيوي فكثيرة أيضا وقد ذكر المؤلف في رسالته طائفة منها لا داعي لتكرارها هنا، وإنما غرضنا من هذا البيان، ومن التركيز على ما هو ديني، إعادة التوازن لطرح العثماني من جهة، وتلمس الطريق نحو خيار أفضل لضبط التصرفات بالإمامة والأسئلة الشرعية والسياسية الحقيقية التي يتوجب على العقل الإصلاحي الحسم فيها. فاستنادا إلى ما سبق، تنقسم التصرفات في "الحكم الشرعي" إلى: - تصرفات تعرف الحكم الشرعي، وهي من اختصاص الرسول والمفتي من بعده. - تصرفات تنفذ الحكم الشرعي وهي إما قضائية إذا قامت على فصل وقضاء، وإما تصرفات بالإمامة إذا لم تقم على ذلك. فجميع ما ذكره سعد الدين العثماني فيما يتعلق بالتصرفات بالإمامة لدى الصحابة، ولدى العلماء والأصوليين من بعدهم يصدق على التصرفات التنفيذية للأحكام الشرعية عموما، سواء كانت قضائية أو إمامية، دينية أو دنيوية. وحتى الخلاف الذي وقع بين العلماء حول بعض تصرفاته صلى الله عليه وسلم يرجع سببه إلى أن بعضهم صنفها تصرفات تعريفية، بينما رأى فيها البعض الآخر تصرفات تنفيذية. ج- سمات التصرفات بالإمامة: إن سمات التصرفات بالإمامة تتحدد لدى سعد الدين تبعا لتصنيفه للتصرفات النبوية في الفصل الأول، وأهم هذه السمات: أنها تصرفات تشريعية خاصة، مرتبطة بالمصالح العامة، اجتهادية، واردة في أمور غير دينية. ويمكن أن نعقب على هذه السمات وننقض بعضها، من زاوية المفهوم البديل الذي صغناه اعتمادا على استدراك ابن الشاط على القرافي. فكونها تصرفات تشريعية خاصة فهذا فيه قدر من الالتباس وعدم التناسب، فالغالب على التصرفات التي وسمها بالتشريعية الخاصة أنها تصرفات تنفيذية، وتغلب عليها هذه السمة، ومن ثم ومن باب أولى تسميتها بالتصرفات التنفيذية. والطريف في الموضوع أن المؤلف عندما التفت نحو تنويع التصرفات بالإمامة باعتبارها تصرفات تشريعية خاصة سمى النوع الأول منها تصرفات تقنينية، وقال: "وهذا النوع من التصرفات بالإمامة يصطلح عليه أيضا لدى العلماء قديما، إذا صدر من أولي الأمر بعد الرسول صلى الله عليه وسلم بالتنفيذ"،[35]والنوع الثاني من هذه التصرفات سماه تصرفات تنفيذية. فمادام الأمر على هذه الشاكلة لماذا لا نسم هذه التصرفات بأنها تصرفات تنفيذية حسب تعريف ابن الشاط، أو تصرفات تطبيقية حسب الدكتور أحمد الريسوني[36]؟ وهل دعوتها بهذا الاسم ينقص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم؟. بل الأبلغ من هذا أن ابن عاشور الذي اعتمد عليه سعد الدين في معرض حديثه عن "مقامات الأفعال والأقوال الصادرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفرقة بين أنواع تصرفاته" قصر التصرفات التشريعية على الأحوال التالية: حال التشريع وحال الإفتاء وحال القضاء[37]، ولم يجعل حال الإمامة من بين الأحوال التي تدخل في باب التصرفات التشريعية. أما السمة الأكثر حساسية في هذا الباب هي وصفه للتصرفات بالإمامة أنها تصرفات في أمور غير "دينية"، وقد بنى هذا الوصف على كلام الإمام القرافي. يقول سعد الدين: "وهو معنى يعبر عنه القرافي بالتأكيد على أن حكم الحاكم يكون "فيما يقع فيه التنازع لمصالح الدنيا"".[38] ولعل الذي أدى به إلى هذا الفهم هو المطابقة بين الحاكم والإمام واعتبارهما شيئا واحدا، وهو خطأ في هذا السياق. فالحاكم في الاصطلاح القرآني يعني القاضي، والحُكم يعني الفصل في المنازعات وفي مواضع يعني الحكمة،[39] وهذا واضح لكثير ممن ألفوا في هذا الباب، فابن فرحون على سبيل المثال وضع كتابا في هذا المجال سماه "تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام"، وضمنه قسما بعنوان "القضاء بالسياسة الشرعية"، في إشارة إلى ارتباط لفظ الحكم بالقضاء، حتى في مجال قد يبدو ظاهريا خارجا عن القضاء.[40] ومن قبله ألف أبو الوليد الباجي كتاب "فصول الأحكام وبيان ما مضى عليه العمل عند الفقهاء والحكام"،[41] وأفرده للقضاء والمسائل القضائية. ومن ثم يكون مقصود القرافي من هذا القول، سواء من الناحية المعجمية[42] أو من الناحية السياقية، هو ضبط مجال نظر القاضي -وهو ما يقع فيه التنازع لأجل مصالح الدنيا- أكثر من قصده ضبط نظر الإمام أو تحديد مجال الإمامة السياسية. فمن السمات الأساسية التي نراها معرفة بالتصرفات بالإمامة ومعربة عنها، وسالمة من العيوب الآنفة هي كونها: تطبيقية أو تنفيذية (حسب ابن الشاط) غير قضائية، وبالدرجة الثانية اجتهادية. فالتصرف بالإمامة في الأحكام الشرعية، وخاصة تلك التي عرَّفها النبي صلى الله عليه وسلم، هو تصرف تنفيذي وتطبيقي بالأساس، ويظهر ذلك في اجتهاد الأئمة في إخضاع العباد لهذه الأحكام، وإعطائهم إياها مدلولا واقعيا. لكن الحاصل في بعض الأحيان تغير الحيثيات الواقعية أو الموضوعية لبعض الأحكام، وتغير مقصودها الشرعي في الواقع، الشيء الذي يدعو إلى مراجعة هذا الحكم أو رفعه. والإمام بحكم مكانته الشرعية كمتصرف في الأحكام يجوز له هذا العمل. ومثال ذلك ما قام به الخليفة عمر رضي الله عنه بخصوص توزيع الصدقات، فقد أسقط سهم المؤلفة قلوبهم رغم أنه سهم من الأسهم الثمانية التي نصت عليها الآية ﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم﴾،[43] ورغم تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الحكم. وقد علل الخليفة عمر قراره هذا بقوله "إن الله أغنى الإسلام وأعزه اليوم.. فالحق من ربكم فمن شاء فليكفر".[44] وأيضا ما أثبته الفقهاء بخصوص التسعير، فقد سبق للنبي صلى الله عليه وسلم أن نهى عن التسعير غير أن بعض الفقهاء جوزوا للإمام ذلك، وأشهرهم أبو الوليد الباجي، مراعاة للمصلحة العامة.[45] ومن التصرف بالإمامة في الأحكام الشرعية أيضا ما يدخل في باب الحسبة وتحت نفوذ المحتسب، مما لا يدخل في مجال القضاء، فللمحتسب أمر العامة بالصلوات الخمس في مواقيتها ويعاقب من لم يصل...، ويأمر بالجمعة والجماعات، وبصدق الحديث وأداء الأمانات وينهى عن المنكرات...[46] وقد يكون تصرف الإمام تصرفا تنفيذيا قضائيا، وليس تصرفا بالإمامة من غير قضاء كما أسلفنا. ويحضرنا في هذا السياق مثال تاريخي من العصر المرابطي، يتجلى عنده الفرق بين التصرف بالقضاء والتصرف بالإمامة في المجال السياسي؛ لقد اضطرت الظروف أمير المسلمين علي بن يوسف لفرض معونة مالية على الرعية للقيام بفريضة الجهاد، فاستفتى فقهاء العدوتين وأفتوه بجواز ذلك سوى ابن الفراء (ت. 514هـ) فقد أجاب بالرفض، والطعن في فتوى الفقهاء الذين جوزوا له ذلك،[47] واستنادا إلى هذه الفتوى عمد أمير المسلمين إلى جمع المعونة. فتصرف "الإمام" في هذه الحالة تصرف على وجه القضاء بالأساس، إذ كان يمكنه أن يقدم على هذا القرار دون فتوى من أحد من الفقهاء، ويكون تصرفه في تلك الحالة على وجه الإمامة. ويدخل جانب من هذا المبحث في باب "العام وتخصيصه" من أبواب أصول الفقه، ويدخله بعض الأصوليين كابن حزم وغيره ضمن مباحث الناسخ والمنسوخ. ووجوه التخصيص لدى الأصوليين كثيرة منها المخصصات اللغوية والعقلية والشرعية (تخصيص الكتاب بالسنة، السنة بالسنة...)، غير أن الوجه الذي يقع تحت نفوذ الإمام في الغالب هو التخصيص بالمصالح المرسلة، بحيث يجوز للإمام أن يبني أحكاما شرعية (تصرفات) على هذا الدليل (المصالح المرسلة) عند فقدان النص الخاص. وساغ له أيضا أن يخصص بها النص الظني الدلالة..، ويضعف بها ظني الثبوت، وفي بعض الحالات يخصص بها القطعي الثبوت والدلالة.[48] ويجوز أن نسمي هذا النوع من التخصيص المخول للإمام أثناء نظره في "المصالح المرسلة العامة" بالتخصيص بالإمامة، أي الذي يقتضيه نظر الإمام من حيث سعيه في جلب المصالح ودرء المفاسد. ولا يجب أن يذهب بنا الظن في هذه النقطة إلى أن التصرف بالإمامة أو التخصيص بالإمامة دائما يكون بمخالفة الأحكام الشرعية التي التزمها الأسلاف والأئمة السابقون. أو أنها من نوع واحد من أنواع التخصيص أي التخصيص بالمصالح المرسلة، بل يجوز عقلا وواقعا أن يستثمر الإمام في بناء تصرفاته أنواع التخصيص الأخرى. وعموما، التصرفات بالإمامة سواء تلك التي تدخل في باب "التخصيص بالإمامة" أو الخارجة عنها لابد فيها من لمسات اجتهادية، فوقف مفعول النص لسبب من الأسباب (ظنية الثبوت أو الدلالة، أو هما معا، أو لمصلحة) أو تدبير مجال ما لا نص فيه لا يسوغه سوى الاجتهاد، وهذا من السمات المصاحبة واللصيقة بالتصرفات بالإمامة، ولكنها ليست شرطا فيها. ج- التصرفات بالإمامة ومفهوم المصلحة: إن المصلحة بشكل عام بالنسبة للتصرفات بالإمامة بمثابة العلة اللازمة لها، والصفة اللصيقة بها، ورغم هذه الأهمية فلا نجد تذكيرا على امتداد الكتاب بمعناها الاصطلاحي الأصولي، مع العلم أن الحاجة لمثل هذا التذكير حاصلة؛ ذلك أن السياقات المختلفة التي ورد فيها مفهوم المصلحة تدفع نحو الاعتقاد بطابعها المادي والدنيوي، وهو ما يقتضي التوضيح والبيان، والتساؤل عن المفهوم الصحيح للمصلحة الشرعية. ولن يتسنى هذا سوى بالرجوع إلى بعض أئمة المقاصد وأهل الأصول الذين تقدموا على غيرهم في فقه المصالح. لقد اعتنى فقهاء المقاصد من القدامى والمعاصرين بمفهوم المصلحة واجتهدوا في ضبطه، ومن بين هؤلاء الغزالي والقرافي والشاطبي وابن عاشور وعلال الفاسي...، وقد اخترنا من بين التعاريف ما حده أبو حامد الغزالي في المستصفى، ونقله عنه كثير، من بينهم ابن عاشور وعلال الفاسي، وذلك لإحاطته ووضوحه؛ فالمصلحة في نظر الغزالي هي "عبارة عن جلب منفعة أو دفع مضرة"، وزيادة في الإيضاح قال: "إنه لا يعني بها ذلك. وإنما يعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع".[49] ولم يترك الغزالي ومن جاء بعده مجالا للتخمين والخبط في تحديد "مقصود الشرع"، فقد فصل ابن عاشور المصالح التي تنزل منزلة الضرورات الشرعية، باعتبار آثارها في أمر الأمة على النحو التالي: حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسب وزاد البعض حفظ العرض.
30-09-2008 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=665 |