إن دول العالم قاطبةً لها مواسم يُقبلُ الناس فيها على الأسواق، ويعّظمون استهلاكهم للبضائع على خلاف عادة بقية السنة، من مثل مواسم أعياد الميلاد ورأس السنة وعيد الحب وعيد الأم وغيره كثير، والأمم كلها تُشجّع هذه "النفحة الاستهلاكية" ليس لكسر رتابة الحياة المملّة أحياناً وبعث البهجة في القلوب ولكن لأن معظم أبنائها يستهلكون منتجات ذلك البلد المصنعّة والمنتجة محلياً من جهة، ولأنهم يحققون فائضاً للدخل الوطني من خلال الضرائب على الأرباح التي يحققها أصحاب المتاجر الصغيرة والكبيرة، والتي يعاد توزيعها على المجتمع من خلال أحزمة أمان اقتصادية من تأمين صحي وتقاعدي ومساكن لذوي الدخل المنخفض، وكذلك من خلال إعطاء قروض للصناعيين ليخلقوا فرصَ عمل جديدة، هذا إضافة إلى الخدمات الكبيرة من جسور وطرق ومستشفيات ومنتجعات سياحية يستطيع أن يرتادها الجميع مهما بلغ دخلهم.
كذلك فإن المواسم تخلقُ فرصاً للعمل وبأجور تشجيعية للأوقات الإضافية للعمال الدائمين والموسميين، فتنخفض نسبة البطالة.
تقوم المواسم "الاستهلاكية" إذاً بفعل تنشيطي للاقتصاد الوطني إذا ماأُحسن استغلالها بحيث تكون مُجزيةً للمستهلك لأنه في الغالب يكون لديه من الخيارات التي تُجبر في الغالب المحلات على إجراء تخفيضات مغرية لجذب المستهلكين، وتكون مُجزية كذلك للعامل الذي يجني دخلاً إضافياً ، وكذلك صاحب المحل، وبالدرجة الكبرى المنتج الذي يزيد من إنتاجه، وأرباحه بالطبع،
إذاً عندما يكون النظام الاقتصادي معافىً من أي خلل يكون الجميع رابحاً في آن، فلاضير حينها في أن يزيد الاستهلاك في موسم من المواسم في رمضان أو غيره، ولاداعي أن تُبحّ أصوات الخطباء في المساجد من أجل كبح جماح الاستهلاك في موسم كرمضان والأعياد، ولو علم الخطباء مايجنيه الاقتصاد الوطني والمواطن في العالم الإسلامي من خير في حال وجود حكومات رشيدة في العالم الإسلامي، وفي حال تم ترتيب أولويات المستهلك المسلم لتمنّوا فعلاً "أن تكون السنة كلها رمضان".
أتمنى على أحبتي الخطباء والكتاب أن يركّزوا في خُطبهم أو مقالاتهم على النقاط التالية التي تلقي الضوء على ضرورة وجود حكومات رشيدة حتى يقطف الجميع ثمار شهر رمضان المبارك العبادية - الاقتصادية :
1- تشجيع المسلمين على استهلاك البضائع المصنّعة محلياً – فالأقربون أولى بالمعروف - فإذا لم توجد فعليهم بالبضائع المصنعة أو المنتجة من قبل أية دولة من دول العالم الإسلامي ال 57 ، وإن لم يوجد فلابأس في المنتَج العالمي، فهي ليست دعوة للمقاطعة إطلاقاً إنما هي ترتيب الأولويات الاستهلاكية
2- مطالبة الحكومة بأن تكون لديها سياسات ضريبية عادلة مطبقة على المستثمرين وأصحاب المتاجر وأن لاتستثني حاكماً أو محكوماً
3- النهي عن تجارة السلطان (طبعاً حاشيته ضمناً)، لأن دخول الحاكم طرفاً في العمل التجاري سيُخلّ بحركة السوق، وسيستخدم سُلطاته (السياسية و العسكرية في الغالب) من أجل ترويج تجارته مما يسيء لبقية التجار.
4- إيقاف الحكام والموظفين الحكوميين عند مسؤولياتهم ومناشدتهم –بحقّ رمضان- أن يقدموا الخدمات الحقيقية اللازمة للمواطنين حتى يشعر التاجر –الذي يدفع ضريبة الأرباح – أو المستهلك – الذي يدفع ضريبة المبيعات – بأن ضرائبه تعود له بصفة خدمات طُرقية وصحية ومدرسية .
5- النهي عن الظلم في القضاء بين المتخاصمين بحيث يسود العدل في الأسواق فلايقوم أحد بابتزاز أصحاب الأموال والمتاجر بصفة إتاوة،
لقد ساد الفساد في معظم دول العالم الإسلامي بحيث يقوم صاحب الوجاهة العسكرية أو السياسية أو المُجتبى ب"العطاءات السلطانية" بفرض شراكات بالإكراه على المستثمرين، لابل هناك دولاً إسلامية تفرض شريكاً "بالإكراه" على أصحاب الرساميل والمتاجر بمنزلة شرط معلن –بوقاحة – و هناك دول إسلامية تلجأ للإكراه بشكل مخفي –و وقاحة أكبر- بمنزلة شرط لإعطاء الرخص والسماح بالاستثمار،
لو أنفق الخطباء – خاصة في موسم تتصفّد فيه الشياطين ولاتتصفّد فيه النفوس الأمّارة بالسوء- الخُطب الأربع في شهر رمضان على مسألة العدل في القصور العدلية في كل العالم الإسلامي – ولو شهراً في العام – عندها سيشعر دافعي الضرائب مستهلكين ومنتجين بأن أموالهم فعلاً تخرج من جيوبهم لتعود على الوطن بالخير من تعليم راق، ومستشفيات لائقة، وطرقات مرصّفة، وجيش وشرطة في خدمة الوطن – الوطن فقط وليس المتسلطين عليه- بشكل حقيقي بعد إعطائهم رواتب مجزية تغنيهم عن الرشاوى والتسول – والمعلوم أن الشرطة تقوم في بعض الدول الإسلامية بالذهاب للمتاجر لجمع الأموال لموظفي الشرطة الصغار – وبذلك تصبح المواسم الاستهلاكية فيها كل الخير.
6- الحض على فعل الخيرات من شراء أطايب الطعام للفقراء والتصدق عليهم وأن تكون سمة الإنفاق الخيّر هي السمة الرمضانية (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) (البخاري 6)
المشكلة إذاً في الرشادة الحكومية لإدارة الاقتصاد الوطني وليس في استهلاك الناس في المواسم (رمضان-عيد الفطر- عيد الأضحى- عيد المولد النبوي...الخ)، ولكن عندما تختلط الأوراق وتسود الفوضى الحكومية ولايقوم أحد بواجبه على أكمل وجه ولايُراعي حق الله والمواطن فيما خصّه الله من مسؤولية، ينصبُّ العَتب والتأنيب والمساءلة أمام الله على المستهلك المسكين – بعد أن ذاق الظلم والضرائب وقلة الخدمات التعليمية والصحية والإنسانية والسكنية على يد الحكومات غير الرشيدة.
لقد نهى الله عن الظلم حتى في توجيه اللوم من على المنابر السياسية والدينية للحلقة الأضعف في المجتمع وهي المواطن المسكين الذي يريد الجميع تكريس عقدة الذنب عنده بقصد تبرئة السلطان بسبب الخوف من بطشه، أو الجهل بحقيقة الخلل الحاصل في الأمة " فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد" كما قال عليه السلام (البخاري 4053)...وكل رمضان والأمة الإسلامية والعالم كله بخير!