/
قراءة في آيات بيّنات
احميدة النيفر
-1-" إني جاعل في الأرض خليفة" يشهد عالَم المسلمين اليوم حركة إحيائية قويّة أكثر أسمائها تداولا و أشدّها عمومية هو " الصحوة". تنطلق هذه الحركة بمختلف مظاهرها من اعتبار أن للتراث الإسلامي قدرة على مواجهة واقع الهيمنة الحضارية الحديثة التي يمارسها المركز (الغرب) على كل الأطراف المتخلّفة حضاريا. هذه المقولة المعتمِدة على التراث وحده، على أهميتها، واقعة في حالة فصام تاريخي. إنّها من جهة أولى لا تلتفت إلى طبيعة التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية الهائلة التي عرفها عالم الإنسان منذ الثورة الصناعية وهي التغييرات التي تسارعت بصورة غير مسبوقة مع الثورة المعلوماتية منذ عقود. يتمثل هذا الإعراض عن تلك التحولات التي طبعت التاريخ البشري الحديث والمعاصر في رفض استيعاب خلفيتها الفكرية ومنطلقاتها المبدئية. ذلك ما جعلها في قطيعة معها وعجز عن تطويرها أو تجاوزها رغم إقرارها العملي بأنه لا مفرّ من التعامل معها في مستوياتها الحضارية المعيشية. من ناحية ثانية استفادت الحركة الإحيائية من حالة ثقافية سائدة في عموم البلاد الإسلامية. نقصد بهذه الحالة تلك الفاعلية الخاصة للتصوّر الديني مما يجعل "الإنسان" في المجتمعات العربية الإسلامية يظل كائنا متديّنا حتى وإن عبّر عن تنكّره لتعاليم الدين و شعائره. لكن استفادة المنطق الإحيائي من تلك الحالة الثقافية السائدة لم تبلغ حدّ إكساب التديّن الكامن في البنية الثقافية طبيعةً معاصرة. ظل التديّن- في الغالب الأعم- شكليا وعاطفيا، فهو لا يكاد يبالي بالتناقضات السلوكية التي يقع فيها و لا يحسن الالتفات إلى المقتضيات الاجتماعية والفكرية والقيمية التي يفرضها الإيمان باعتباره منطلَقا يشهد به المؤمن على الناس ويكون به فاعلا في الواقع الإنساني. نحن مع الإحيائية في حالة فصام مثـنّـى يغذّي كل طرف منه الطرف الآخر بما يعقّد حالة المسلمين بصورة خاصة ويدفع بالبعض إلى القول بأن الإسلام بطبعه استثناء لا يمكن لأتباعه أن يُرسوا علاقة صحيّة مع الأزمنة الحديثة. الإحيائية في عالمنا تُزامِنُ العصرَ ولا تتمثّله ولا تواكبه، و هي في دعوتها إلى التديّن لا تعيد بناء القيم الدينية ولا تعمل على تنسيقها على قواعد جديدة. ذلك هو الفصام النكد على الحقيقة، فصامٌ جاء نتيجة ردود فعل مأزومة لم تنته إلى ضبط أساس فكري و موضوعي لموقفها. لذلك فلا مناص من السؤال المثنّى: كيف يَـتِمّ الخروج من حالة السخط الإحيائي على الأزمنة الحديثة ؟ كيف يمكن تجاوز ذلك التديّن الخام بتحويله إلى فاعلية ومعاصرة ؟ للإجابة يتوفر أكثر من مدخل لكن تلك المداخل تتجمع في محور هو " الإنسان": ما هي طبيعته وما هو موقعه في الوجود وكيف يكون تعبيره عن ذلك الموقع؟ سواء اتجه الحرص إلى الوعي المدنيّ وما يرتبط من عقل اجتماعي أو كان المنطلق هو إعادة النظر إلى الذات والإقبال على فهم الآخر أو ارتكز الاهتمام على رؤية العالَم وما يقتضيه ذلك من معالجة التعددية الثقافية والدينية، أيًّا كان المدخل فإن " الإنسان" هو منتهى كل المقاربات العلاجية لأزمة المسلمين الحضارية. بالنظر إلى النص القرآني المؤسس لحضارة المسلمين نجد أن " الإنسان" طرف أساسيّ فيه و هو من جهة البناء القرآني وخاصيته الدلالية يبرز كمصطلح مفتاحي له علاقة ترابط مع جملة من المصطلحات والمفاهيم الأخرى التي تشكّل فيما بينها تكاملا ونظاما مفهوميا واحدا. الله والإنسان، النبيّ و الأمة ، العالَم و الآيات ، آدم و الخليفة... تشكّل جميعُها حقلا واحدا بين مفرداته صلاتٌ ترابطية تمثل العنصر الأهم لكونها " تُـلَوِّن" بصبغة متميزة كل عبارة أو مفهوم متضمن في ذلك الحقل الدلالي. المقاربة الدلالية لمفهوم "الإنسان" في اللغة القرآنية تضعنا أمام أبعاده الجديدة الي تنضاف إلى المعنى العادي للإنسان والتي يكتسبها من النظام المفاهيمي والترابط الذي يوجده البناء العام القرآني. مفهوم الإنسان في المعجم القرآني مختلف نوعيا عما هو عليه في الاستعمال القديم أو الحديث. ما نجده في "لسان العرب" ومعجم "التاج " يؤكد ذلك، فــ: »الإنسان معروف والجمع الناس مذكر ...والإنسان له خمسة معان أحدها الأُنُملة....وثانيها ظل الإنسان وثالثها رأس الجبل ورابعها الأرض التي لم تزرع وخامسها المثال الذي يُرى في سواد العين...«. إذا انتقلنا إلى المعاجم الفلسفية الحديثة فــ" الإنسان هو الذات المدرِكَة لنفسها تمام الإدراك ....إنّه التجاوز الدائم لما عليه فعليا فكأنه مدعوٌّ إلى أن يلد كيانه الخاص وإلى جانب ذلك كيان البشرية كلها ". أما في السياق القرآني فدلالة "الإنسان" لا تتناقض مع التعاريف القديمة والحديثة لكنها متميّزة عنها في آن. الدلالة القرآنية لا تُستَمَد من ذات العبارة فحسب، ذلك أن الاقتصار على لفظ الإنسان غير كاف لأنه لا يعتبر من أهم الألفاظ القرآنية تداولا. هو من هذه الناحية يستفيد دلاليا من عبارات أخرى أهمّها " آدم "( وإذ قال ربك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة....) و " النفس"( ونفس وما سوّاها ...). إضافة إلى ذلك فإن المعنى القرآني لــ"لإنسان" يُستَخرَج من كامل الحقل الدلالي الذي يحتضنه و يُكسبه مفهوما أوسع مما كان معروفا أو مقبولا لدى العرب زمن البعثة فضلا عن أنّه في السياق الحديث والمعاصر ظل غير محدد بصورة كافية. "الإنسان" في المعجم القرآني مخاطَب بالوحي فهو " الخليفة "، خليفة الله، وهو بمقتضى هذه الصفة الأساسية : - كائنٌ متميز في سُـلّم الموجودات بالإرادة وبإمكان الوعي بمسؤوليته في عالَم هو موضوع المعرفة و أحد مصادرها. - كاشفٌ لذاته، يرتقي بها بصفتها مجالا أعمق من نفسّية الفرد العادّية معتمدا في ذلك على تجربة حيوية تنطلق من توقه إلى ذات الحق العليا. - بانٍ لتجارب واقعيّة متمثلة للخطاب القرآنيّ بما يجعل إنسانيته في سيرورة مبدعة ومتفاعلة مع أعمق رغبات العالَم المحيط به. بعبارة واحدة " الإنسان القرآني" كائن متجدد باستمرار في رؤيته لذاته، ولمحيطه العام، وللكون اللامتناهي. في هذا الشهر المعظّم، شهر نزول القرآن المجيد، علينا ونحن نتلوه عبادة وتدبّرا أن نتذكر أنه نص مركِّـــزٌ للتوحيد بكل ما لهذا المفهوم من دلالات وعلى الأخص منها توحيد النص ذاته. إنّه مستوى من التوحيد يمكن أن يتحقق في كل عصر ومصر إذا انفتح المؤمنون على كامل القرآن أي على عالَمه و لغته وخطابه بكل استعداداتهم وبحسب ما تستلزمه طبيعة عصرهم من وعي جديد. -2- "...كما كُتب على الذين من قَبْلكم" يحلو للعلماء القدامى التأكيد على أن نداء "يا أيها الذين آمنوا" الذي يرد في القرآن الكريم هو من خصائص السور المدنيّة التي نزلت بانتقال المسلمين من مكّة، مهبط الوحي، إلى المدينة دار الهجرة. يعلّلون ذلك بأن في النداء مراعاةً لواقع حال المسلمين إذ أن مناداتهم بهذه الصفة لم يكن ممكنا قبل الهجرة أي قبل أن يصبح لهم حضور اعتباري في الواقع و أرض ينطلقون منها و هيأة جماعية متميّزة لها كيان ذاتي. عند تفسير الآية 183 من سورة البقرة المدنيّة و التي يقول فيها تعالى:" يا أيّها الذين آمَنوا كُتِبَ عليكم الصِّيام كما كُتِبَ على الذِين من قَبْلِكُمْ لعلّكم تتّـقون" يقع إبراز أربعة معانٍ في الغالب الأعم هي: قيام جماعة متكاملة، فرضية الصوم كأحد متعلقات الانتماء إلى أمة الإيمان، اشتراك هذه الجماعة الناشئة مع أهل الملل السابقة في هذه العبادة و الهدف من أداء الصوم. ما يمكن أن يضاف في خصوص نداء المدينة " :" يا أيّها الذين آمنوا " هو ما يحمله من قطيعة تتجاوز الروابط القديمة الأُسرية والعشائرية. بهذا التعبير خاصة وبنزول القرآن عامة حصل تحوّل في الخطاب يرمي إلى تغيير شخصية الإنسان العربيّ من الداخل. بهذا التحوّل من: يا " بني فلان " أو " يا أهل كذا" وقع الارتقاء بالعصبيات العرقية والقبلية أي من الذاتيّة الفرديّة الموروثة إلى الشخصية الحرّة في تعلّقها بالله و في امتدادها البشريّ. هذا النداء التصنيفي لم يكن ليلغي الاعتبارات الأخرى القديمة لكنه أراد أن يبلغ بها إلى وعي جديد يخرج به على العالَم بمنطق كونيّ أساسه حرية الاختيار والاعتقاد. مع نداء المدينة وُلد إنسان جديد متمثِّلٌ لماضيه مختارٌ لحاضره ضمن جماعة لها رابطة روحية ووجهة اجتماعية منفتحة على كونيّة شاملة. لكن ما يشدّ الانتباه في آية سورة البقرة هي بنيتها والدلالة المتولدة عنها. هي مبدوءة بنداء الخصوصية المميِّزة -"يا أيها الذين آمنوا"- ومُفضية إلى التذكير بروابط الأمم والملل السابقة - "كما كُتِب على الذِين مِن قبلكم"- أي بالعمومية والتواصل. عبادة الصوم إذن تميّز من ناحية الأمة الناشئة لكنها تضعها ضمن مسيرة تُوحِّد الإنسانية. بذلك يكون التمايز الذي يقتضيه بناء الأمة غير منقطعٍ، في هذه الآية وفي الآيات الأخرى التي تحيل هي الأخرى على الذين سبقوا، عن الأواصر الحميمية التي تجمعها مع السابقين بما يحقق خصوصية كونية للرسالة الخاتمة. مرة أخرى نقف على بُعدٍ توحيدي آخر للخطاب القرآني: بناء الأمة المؤمنة هو نواةٌ ومنطلقٌ أما المنبع و المآل فهي الإنسانية التي لا ينفي تعدّدُ مللِها توحُّدَها على كلمة سواء. إنّه الإقرار بمبدأ التعددية الذي كثيرا ما نغفل عنه رغم ورود آيات عديدة لتقريره كقوله تعالى " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تُكره الناسَ حتى يكونوا مؤمنين"، هو المبدأ الضامن لتجنُّب الحصريّة و روح الطائفية اللتين تنفيان المساواة بين الناس بسبب اختلاف معتقداتهم. يتأكد هذا المعنى من خلال آيتين مدنيتين أخريين: -" إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين مَن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون". -" إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابؤون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون". لذلك فإن الإقرار بمبدأ تعدد الرسالات الإلهية التي ُتختَم برسالة محمد عليه السلام يفضي إلى قبول كامل للتعدد الديني و إلى أن الخطاب القرآني جعل معاييرَ لحقيّة أية رسالة: إنها الإيمان بالله الواحد واليوم الآخر والعمل الصالح. آية مدنية ثالثة تؤكد هذا التوجه المُساواتي: " ليس بأمانيِّكم ولا أمانيِّ أهل الكتاب، من يعملْ سوءاً يُجْزَ به ولا يجدْ له من دون الله وليا ولا نصيرا ومن يعملْ من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرا". آية سورة البقرة الموجبة للصوم، وهي مدنية أيضا، تواجه "الحصريّة" التي أعيت الرسالات السابقة و التي تتربص بعقيدة التوحيد خاصة بما تؤول إليه من انحسار الرحمة في حدود ضيّقة وأنه ليس هناك خلاص لأحد خارج هذه المِلّة أو تلك. من البنية الدلالية للآية 183 من سورة البقرة يتضح ما في الخطاب القرآني من ثراء كثيرا ما نذهل عنه. إنّه يتمثّل في جدليّة الفصل و الوصل التي تنتظم علاقة المؤمن بأمته وبالآخرين. فإذا كانت الآية قد ابتدأت بالنص على إلزامية عبادة الصوم تركيزا لجماعة المؤمنين فإنها ثنّت بعد ذلك بالتأكيد على وحدة الوحي والتواصل المؤدي إليها. إذا ربطنا البنية الدلالية لهذه للآية خاصة بآيات أخرى ذكرنا بعضها تَشكَّل أمامنا نسيجٌ نحتاج في هذا الشهر أن نُبرز طبيعته من خلال عملية التركيب التي تميّز الدين الإسلامي والتي تأسست على قاعدة الصياغة بين التوحيد و بين الإقرار بالتعدد الديني للإنسانية. ثلاثة أمور ينبغي إبرازها في نهاية المطاف: - أن مصطلح " الأمة" في الخطاب القرآني له بُعدٌ مستقبلي وقِــيَمي إذ أنه مُستشرف على البشرية قاطبة بما يكسب الوحدة الإنسانية معنى التساوي في الخَلق والقيمة رغم التنوّع في المظهر والمخبر . - ما أنجزه المسلمون من بناء حضاري تليد لم يتم إلاّ على أساس الوعي التعدّدي للتوحيد وبالتركيب المقِرّ للتنوّع الديني والثقافي. تلك التجربة هي التي أتاحت للمسلمين أن يصنعوا حداثةَ زمانِهم بانفتاحهم على العالَم وتنافذهم الثقافي مع الآخر. - عودة المسلمين إلى عالَم اليوم ينبغي أن تتمثّل روح هذا التمشي أي أن يروا في العولمة وفي العالَم المُعَوْلم تحديّا إيجابيا لهم يمكِّنهم من إعادة صياغة كونيةِ رسالتهم التوحيدية بتجاوز روح الحصرية والتعصب الطائفي وتعالي الأدلجة الدينية. -3-"قل لو كان البحر مدادا لكلماتي ربي..." صاغ الفكر الإصلاحي الذي ظهرت مقولاته في أقطار السلطنة العثمانية والولايات التابعة لها معضلة العالم الإسلامي في سؤال " لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم ؟" للإجابة حدد هذا التيار ثلاثة أهداف كبرى هي محاولة استيعاب المتغيرات الحضارية العالمية أولا و مواجهة فقهاء التقليد ومؤسساتهم التعليمية والقضائية ثانيا هذا إضافة إلى مقاومة معلنة للتصوف وما ارتبط به من معتقدات تقديسية للأولياء. إذا أمعنا النظر في هذا السؤال تبيّن لنا أن المسكوت عنه في هذه الصياغة شديد الخطورة إذ أنه يكشف عن طبيعة العالَم التصوّري الذي ركن إليه دعاة الإصلاح. سؤال الإصلاحيين كأكثر الأسئلة حامل لبذرة جوابه لا يكاد يخفيها. حين يسأل الإصلاحيون عن سبب تأخر المسلمين اليوم وعجزهم عن التقدّم فكأنهم يقولون إن تقدّمهم في الماضي كان لأنّهم مسلمون حقيقةً أي لخصوصيتهم الدينية التعبدية أساسا. ما يخفيه ملفوظ السؤال و توحي به الصياغة هو ذلك الإنكار المثنى: إنكار للحراك التّاريخي وإنكار للمعرفة الإنسانّية. التركيز على الخصوصية الدينية دون سواها لفهم ازدهار الماضي يعني إعراضا عن العوامل الحضارية التي سبقت ظهور الإسلام ثم واكبته في الجزيرة العربية وما حولها في القرن السابع الميلادي. هو في الآن ذاته إهمال لسيرورة المعرفة و الفعل الإنسانيين فيما وقع تحقيقه في عصور الازدهار والإبداع حيث شُــيِدتْ مدنيّة المجتمعات المسلمة. على هذا فالمسكوت عنه في سؤال الإصلاح يعني أن تأخّر مسلمي اليوم وتقدّم غيرهم هو نتيجة انتفاء ما يُظَنّ أنها أسباب تقدمهم في الماضي. يؤكد هذا الإنكار المثنّى ما عبّر عنه الشيخ محمد عبده في تعريفه للإصلاح بقوله : " هو تحرير الفكر من قيد التقليد وفهم الدين على طريقة سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعها الأولى واعتباره ضمن موازين العقل البشري التي وضعها الله لترد من شططه وتقلل من خلطه ". ما أربك الفكر الإصلاحي قديما وما ينهك الحركة الإحيائية اليوم هو قولهما بنقاوة الأصول التي ينبغي الرجوع إليها تحقيقا للإصلاح و تصحيحا للانحراف. لا نعني بهذه النزعة الأسسَ العقدية المؤسسة بل ما نقصده هو تحويل حقبة من الحقب التاريخية بمستواها الذهني إلى سقف معرفي و منظومة فكرية و اجتماعية مرجعية لا يمكن تجاوزهما. مثل هذا القول يؤدي إلى توسيع دلالة القدسية لتشمل إضافة إلى النص الأول( القرآن الكريم) والعقائد المؤسسة الثقافةَ المتداولة بين منتجي النصوص الثانية ( المفسرون والفقهاء والمتكلمون) في العصور السابقة. ثم إن القول بفهم " الدين على طريقة سلف هذه الأمة قبل ظهور الخلاف" ينطلق من إمكان إعادة إنتاج نفس مواصفات الوعي لحقب سابقة عن طريق إحداث اختزالات زمنية. مثل هذا المطلب مستحيل التحقيق وهو حتّى إن تحقق جزئيا لا يمكن أن يؤدي إلى فاعلية تاريخية. ذلك أن مرور الزمن لا يمثل تراكما شكليا لمستجدات معاصرة تضاف إلى مجتمع قديم يبقى محافظا على مواصفاته الاجتماعية والفكرية والقيمية. مرور الزمن يعني تحوّلا نوعيا في بنية المجتمع ونمط تفكيره بما تتعذر معه مماهاة نمط الوعي السابق. لذلك فقد عمل الخطاب الإصلاحي، وبدرجة أعلى، الخطاب الإحيائي على إضعاف كل حس تاريخي لكون الخطابين يتصوران المجتمع و الإنسان قائمين على علائق دينية أساسا. من ثم فهما لا يعترفان بالمجال الاجتماعي- السياسي و بضوابطه الخاصة لأن تصورهما للمجتمع ثبوتي مما يجعلهما يختزلان مجالاته و حركيته في البعد الأخلاقي السلوكي فحسب. ذلك هو الإعراض عن الاعتبارات الاجتماعية-الاقتصادية والفكرية-الثقافية وما يتولد عنها من حراك وما يفضي إليه هذا الأخير من تحوّلات نوعية لا تقبل التراجع. على هذا فإن معضلة العالم الإسلامي في الفترة الحديثة ثم المعاصرة وثيقة الارتباط بعالَمه التصوّري وما تتحكم فيه من قيم ورموز وآليات. قراءة ما يقع إنتاجه اليوم من أدبيات إسلامية من زاوية دلالتها التصوّرية يمكن أن يوصلنا إلى أبرز أسباب ضعف فاعلية غالبها وعجزها عن إحداث تغييرات حاسمة في الواقع والفكر. ما نعنيه بالدلالة التصورية هو الوجهة التي يرسمها كل نص والحدود التي يفتحها في ذهن القارئ أو المستمع. ما أثبته "علم النص" حديثا هو أن النصوص وخاصة الكبرى منها (الدينية والأدبية والفلسفية) ليست مجرّد إنتاج لواقع إنما تعود أهميتها إلى الذات التي تريد أن تنسجها والواقع الذي تعمل على بنائه. خلودها راجع لما تحققه من جدلية متواصلة مع الواقع :الواقع يرسم حدود فضاء النص لكن النص بدوره يعيد تركيب عالم تصوري جديد في معالمه وبنيته متجاوزا بذلك الواقع. جوهر عمل النصوص الكبرى في تاريخ الإنسانية متمثِّلٌ في ديناميتها الدائمة أي في قدرتها على الهدم والبناء الذهنيين المستمرين وفي مدى ما تُحدثه من توسيع للرؤية وفتح للآفاق وخلخلة للبنى. أما خطورة ما يقع إنتاجه من نصوص ثانية، تلك التي تأتي تاليةً مفسرةً للنصوص المؤسسة أو الكبرى فهي راجعة إلى درجة وعيها بخصوصية الدلالة التصوريّة للنصوص الأولى. قد تكشف ديناميتها الكامنة فتقتبس من طاقتها الإبداعية التجاوزية و قد تكتفي بكتابة تسجيلية فتعيد إنتاج ما هو معروف مُثبتة لبنية التصوّر والواقع القديمين. لعل سورة الكهف بما احتوت عليه من قصص تعدّ أفضل تطبيق عمليّ للعلاقة الجدلية بين النص و الواقع. جماع قصص تلك السورة يلتقي في إظهار تهافت مقولة الشرك العربيّ وإبراز لدعوة التوحيد مصاغة بطريقة تخلخل البنية التصوريّة القارة وتعمل على نسج قوالب عالم تصوّري جديد. لو اقتصرنا على أواخر السورة وعلى الآية 109 بخاصة لوجدنا فيها عيّنة لعالَم نصيّ يتـفـتّق من خلالها مُزيحا معالم عالَم قديم مهترئ. يقول تعالى:"قل لو كان البحر مِدادا لكلمات ربي لنَفَد البحرُ قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثلِه مدَدًا ". لا يتجاوز عموم المفسرين شرح ملفوظ الآية و قد يزيدون عليه سبب النزول. ما يفيده "علم النص" في خصوص هذه الآية-العيّـنة هو طبيعة الذات الإنسانية التي يعمل على بنائها و نوعُ النظام المفهوميّ الذي يريد إرساءه. هي إنسانية مستخلَفَة مدركة أن علم الله غير محدود بما يدفع بها إلى سياق سعي لا يتوقف لمزيد من معرفة كلمات الله وحكمته غير المتناهية. هي من جهة ثانية حين تستعير البحر ومن ورائه بحور أخرى لتحوّل مياهها حبرا تُكتب به كلمات الله التي لا تنفذ إنما تزحزح البنية التصورية القارة والتي تعتبر البحر مصدر خوف وحزن لا صلة له بالعلم والحكمة والرقي. في هذا لو قارنّا بين السياق الدلالي القرآني الذي تُستعمل فيه عبارة البحر بالسياق الدلالي لذات العبارة في الأدب العربي القديم كلّه لأدركنا نوع النظام المفهومي الذي يميّز السياقين. هو رديف الرعب والثبات في أدب التداول العربي القديم وهو قرين الخير والعلم والتقدم في السياق القرآني. ليس فيما تقدّم سعي إلى معالجة نظرية مجردة لا صلة لها بالواقع وتساؤلاته الحضارية و تعثراته الفكرية. ما نرمي إليه هو المساهمة في بناء فكر ديني يكون متمثلا للخطاب القرآني من جهة ويكون مقبولا من أجيال من المتعلمين الذين تمثلوا بدرجة من الدرجات التطورات الفكرية والحضارية الحديثة. بتعبير آخر هو تجاوز السؤال الإشكالي القديم بطرح سؤال بديل عنه هو : كيف يمكن للمؤمن أن يعيد اكتشاف معاني القرآن وفق شروط الوعي المعاصر؟ -4..."واتخذ الله إبراهيم خليلا" تحيلنا هذه البارقة على حيّز مُشرق يوشك أن يكون مهجورا في حياتنا الرمضانية التي غدت لاهية في الغالب عن هذا الحيّز ، حيّز الأُنس بالله، الذي تتيحه لنا فريضة الصوم في شهر القرآن المجيد. ما تنبّه إليه بارقة الخطيب هو أن اقتران الصوم بالقرآن تلاوةً وتدبرًا يفتح كُوّةٌ تنبثق من خلالها مساحة للضوء يتزايد اتساعها بحسب وعي كل قارئ ودرجة إيمانه. في هذا الشهر وبتلاوة القرآن الكريم يتاح للمتأمِّل أن يميّز من خلال الكوّة المضاءة مسالك ومشاهد تشدّه إلى عالم القرآن بأشخاصه وأحداثه وأبعاده في ترابطها المثير. إذا وضعنا حيز "الأنس بالله"الذي تكشفه الكُوّة الرمضانية في سياق السعي إلى تطبيق المنهج الدلالي على بعض المفاهيم القرآنية اتضح لنا جانب من النسيج المفهومي الذي ينتظم البناء القرآني العام. وسطَ هذا الحقل الدلالي، حقل التوق إلى الله والأنس به، تبرز شخصية إبراهيم، عليه السلام، القرآنية لتحتل المركز ولتكون، حسب المنهج الدلالي، "العبارة الصميميّة"في هذا الحيّز الخاص. تساعدنا الآية 125 من سورة النساء على ولوج هذا الحقل كاشفة مداه مبينة ما يرتبط به من حقول دلالية أخرى محورية كـ " الإيمان"و "النبوّة " و"العالمية ". ترد آية" ومن أحسنُ دينا ممن أسلم وجهَه لله وهو محسن واتبع ملّة إبراهيم حنيفا واتخذ اللهُ إبراهيمَ خليلا" في سياق تنبيه. إنّه سياق التحذير مما بدأ يظهر عند بعض المسلمين في زمن النبي عليه السلام من غرور بدينهم واتكال على انتسابهم إلى الإسلام لادعاء الأفضلية على غيرهم من الناس. لذلك نبّهت الآيتان 123 و124 من ذات السورة ( "ليست بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب...") أن نجاةَ المسلم وفلاحَه ليسا مَنوطَيْـن بالتمني والتباهي لأن الأديان لم تشرع للتفاخر بل الجزاء فيها إنما يكون على العمل (" من يعمل سوءا يُجْزَ به"). لتصحيح هذا الضعف الذي يمكن أن يظهر في كل آن ومكان أردفت الآية 125 ذكر ثلاث درجات يكمل بها إسلام المسلم ثم عطفت على ذلك بالقول: " واتخذ الله إبراهيم خليلا". هي درجات تنطلق من الاعتراف طواعية بالوحدانية لتنتقل إلى تحرّي الإحسان في ذلك ومنهما إلى الحرص على الحنيفية والاستقامة. تبلغ الآية بعد ذلك مداها باستعمال العطف، عطف الثناء، المتعلق بإبراهيم الخليل الذي بلغ مكانةَ تتويجِ تلك الدرجات الثلاث بما حازه من مفهوم الخُلّة، ذلك المفهوم الذي يضيء حيّز الأنس بالله. عند استعراض كامل النص القرآني يتبيّن أن شخصية إبراهيم وردت في 69 موضعا تتوزّع بنسب شبه متساوية بين ما تنزّل بمكّة (32 آية ) و ما تنزّل بعد الهجرة بالمدينة (37 آية ). بهذا الحضور تعتبر هذه الشخصيّة محوريّةً في البنية القرآنيّة متكشِّفَة من خلال ثلاثة ملامح أساسية. هناك من جهة إبراهيم الباحث عن الحقيقة و الملاقي من أجلها كلّ أنواع العنت من أهله و قومه. ثم هناك الأب المؤسّس للحنيفيّة المتجاوزة للمذهبيّات الضيّقة المستبعِدة للآخرين عن العناية الإلهية. بعد هذا وذاك ووراء وجه الباحث عن الحقيقة و وراء الجذع الحنيفيّ يُبرز الخطاب القرآنيّ بُعدا ثالثا هي وجهة إبراهيم الخليلية. ما يؤكده عدد من المفسرين في شرح عبارة "خليل" هو قولهم : المُحِبّ، من الخُلـَّة وهي المودة والصحبة الخالصة ثم يضيفون محدّدين أنّ " الخلّة الحقيقية تستحيل على الله" فالمراد أحد "لوازمها وهي الرضى واستجابة الدعوة وذكره تعالى بخير". إذا لم يكن هناك غبار على هذا التفسير فإن المعالجة المفاهيمية لشخصية إبراهيم تدعّمه وتوسعه بما يسمح بإضافة ملاحظات دلالية ثلاث. -1- تكشف الشخصية الإبراهيمية بملامحها القرآنية، خاصة المتعلّقة برتبة الخُلَّة، علاقة تواصلية بين الله والإنسان تصطدم مع ما اعتاده مشركو العرب في الجزيرة خاصة كما تتعارض مع كل معاني الخوف والذعر والخنوع التي رانت على تلك العلاقة عند المسلمين بعد ذلك. هذه العلاقة الوجودية بين الله والإنسان الخليل، القريب من الله لا تتنكر للإنسان المتسائل عن القدرة المُحَكِّم عقله في استعراض الملكوت بل هي تجعله مع ذلك ولأجل ذلك مرحوما ومذكورا، مصطفى ومحبوبا. -2- اختار الخطاب القرآني ملامح محددة من الشخصيّة الإبراهيمية، هي ليست بالضرورة كلّ الملامح المعتمدة في التصوّرات الدينية الأخرى. فعل ذلك متجنّبا السرد التتابعي الذي اعتنى به عدد من المفسرين القدامى عندما انصبّ اهتمامهم على التوثيق التاريخيّ. وحدة الخطاب القرآني تتجه وجهةً أخرى مبرزة الحرص على انتقاءٍ مقصود غايتُه إثبات أن تلك الشخصية تحمل قيما نموذجيّة، على رأسها التَوْق إلى الحق، بما يجعلها أشد تأثيرا في كل واقع بشريّ من لو أنّها كانت متجهة إلى التدقيق التاريخيّ الحَدَثيّ. من هذا النظام المفهومي الذي تكشفه الشخصية الإبراهيمية في صياغتها القرآنية وقع اختيار ملامح كانت أكثر مناسبة للدعوة المحمّدية و ظروفها المحلية و مع الآفاق التّي يفتحها الوحي أمام الحسّ الدينيّ و الوعي الإنسانيّ. -3- من هذه العلاقة التواصلية بين الله والإنسان الممهورة بطابع الرحمة والرأفة والحب تُبرز وحدةُ النظام القرآني معنى جديدا عن إنسان كونيّ ضارب في القدم و ممتدّ في أنحاء الأرض. ذلك ما يجعل الخطاب القرآني في غايته تجاوزا للإنسان المقيَّد بأفق إله القبيلة أو أفق الخصوصية المغلقة بما يطمس شخصيتُه بعشائرية طاغية أو يحسر إنسانيته بفرديّة جامحة. من جهة ثانية فإن طبيعة الخطاب ذاته تتغير فلا يعود القرآن الكريم مجرد كتاب حاوٍ لسور مفصّلة تتضمن عبادات ومعاملات وقصصا ومواعظ. ما يؤكده التحليل الدلالي لشخصية إبراهيم الخليل هو أنّ القرآن سجلٌّ ألهيّ مفتوح على التجربة الوجودية الكونية، إنه مصدر للحكمة الشاملة أي أنه في بنيته ورؤيته للعالَم حامل لعطاءات عصورية لا تنضب. مثل هذه الرؤية لطبيعة القرآن تتجاوز به مستوى النص الداعي إلى عقيدة التوحيد ومستلزماتها السلوكية لترى فيه أيضا ما يمكّن المؤمن في كل فترة من خلال قراءة توحيدية للنص أن يتدخّل في التاريخ ليساهم في اكتمال حكمة الإنسان ودعم أسباب علمه وتسديد فعله. لعل أفضل ما يضاف إلى بارقة الخطيب التي انطلقنا منها في إضاءته لحيّز الأنس بالله هي قولة أحد كبار المتشوفين إلى الحب الإلهي عن معراج النبي إلى السماوات العلى ثم رجوعه إلى عالم الأرض. قال العارف: "قسمًا بربي لو بلغتُ هذا المقام لما عدتُ أبدا ". المؤكد أن الخُلّة الإبراهيمية و الرِفقة المحمدية لا تتفقان مع هذا الفهم. ذلك أنهما من عروجهما إلى عالم الشهود عادا ليحوّلا تَوقَهما في عالمَ الحقائقِ المحسوسة. هذا ما جعل الوعي الديني عندهما روحيا بالأساس لكنه مطالب أن يتجسّد ليتحول وضعيا. الأنس بالله ليس إذن تأمّلا ذاتيا وحالة وجدانية فردية إنما يقتضيه مفهوم الخلافة إلى أن يغدو فعلا حضاريا لا ينفصل عن مشاغل الناس وهمومهم أي أنه مدعوّ بالضرورة إلى أن يصبح قوّة حيّة وعالمية.
07-10-2008 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=670 |