/
منى أبو الفضل والمنظور الحضاري للمعرفة النسوية
فاطمة حافظ
تمثل منى أبو الفضل قيمة معرفية كبرى ليس في العلوم السياسية وهو المجال الذي انتسبت إليه، وإنما في الدراسات الحضارية المقارنة ودراسات المرأة كذلك، ويُنظر إليها باعتبارها إحدى أركان مدرسة المنظور الحضاري التي تشكلت نواتها الأولى على يد حامد ربيع الذي اتخذ من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة منطلقا لإعادة إحياء المفاهيم والقيم الإسلامية وتضمينها ضمن حقل العلوم السياسية، متخذا منها أداة لنقد المنظورات الغربية الوضعية، ولا تزال هذه المدرسة ترفد المجال المعرفي ببعض الرموز والأفكار عبر موجة ثالثة ورابعة من الباحثين الشباب. استجلاء المفاهيم: المنظور الحضاري والمعرفة التوحيدية يتعذر علينا أن نلج إلى فكر منى أبو الفضل وأن نبحث عن موقع المسألة النسوية خلاله قبل أن نتوقف لاستجلاء بعض المفاهيم التي قامت بنحتها في سبيل تعاملها مع الظواهر الفكرية، وفي القلب منها يقع مفهوما: المنظور الحضاري، والرؤية التوحيدية، اللذان قامت بتفعيلهما واتخذت منهما أداة للاقتراب في إطار دراساتها النسوية. وقد شرعت منى أبو الفضل في بلورة مفهوم "المنظور الحضاري" منذ مطلع الثمانينيات من القرن الفائت وهي العائدة من بعثة دراسية حصلت خلالها على الدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة لندن والتي أمضت معظم حياتها بالخارج، وعلى خلفية قيامها بالتدريس لاحظت قصور الأدوات والمناهج الغربية عن الإحاطة ببعض الظواهر الاجتماعية في العالم العربي وهو ما أرجعته بعد تمحيص ودراسة معمقة إلى الطابع التعميمي للأدوات والمناهج الغربية وعدم إدراكها لطبيعة التباينات الحضارية وتغافلها عن واقع الخصوصية الذي يمكن أن يميز بيئة حضارية عن أخرى. وحول ذكرياتها مع تأسيس المنظور تذكر منى أن إدماج مفهوم "حضاري" ضمن المجال الأكاديمي لم يكن يعني بالنسبة إليها أن تقوم بتدريس مادة النظم السياسية العربية في الجامعة على خلفية "لوحة جدارية" هي الحضارة العربية، وإنما كان يعني تفعيل فكرة الحضارة ضمن مفاهيم وأطر واقترابات منهجية وإدخالها إلى حيز البحث العلمي المتعارف عليه. وطيلة عقدين من الزمان عملت منى أبو الفضل على صقل المفهوم وبلورته واستخدامه في حقول معرفية متعددة حتى بات نسقا معرفيا متكاملا قابلا لأن يوظف ويطبق لدراسة وتشخيص سائر أبعاد الظاهرة الاجتماعية، ولم يعد قاصرا على ظاهرة السلطة أو حقل العلوم السياسية، وكان من نتيجة ذلك أن شاع استخدام المنظور الحضاري في عدد من الأدبيات المعرفية من قبل باحثين ينتمون لحقول معرفية متعددة حتى أضحى مدرسة تتعدد فيها المفاهيم والمداخل.[[i]] والمنظور الحضاري لا يتطابق مع مفهوم المنظور الإسلامي، ولا يعني بالتالي صلاحيته للتطبيق على الظواهر والمجتمعات الإسلامية وحسب؛ ذلك أنه رغم استمداده مفاهيم وقيم ومعاني إسلامية إلا أن توظيفها وتفعيلها يتم ضمن الإطار المعرفي وخدمة لأهداف بحثية؛ فهو نسق معرفي مفتوح متجاوز ومستوعب يمكن توظيفه في قراءة التاريخ الإنساني والثقافات المتباينة كما تؤكد صاحبته، وعليه يتعذر إدراجه ضمن دائرة التوظيف الأيديولوجي للدين في نطاق البحث العلمي[[ii]]. ويستبطن المنظور الحضاري منظومة معرفية توحيدية ذات خصائص مميزة تجد مركزها في الإله الخالق المطلق، وهي تتميز بقيامها على إطار مرجعي جامع هو التوحيد الذي ينفتح على عالم الغيب والشهادة انفتاحا مزدوجا؛ إذ ينفتح انفتاحا رأسيا حين تأخذ مصادره المعرفية بالوحي ممثلا في القرآن الكريم الذي يعد اللحمة التي تربط عالم الغيب وعالم الشهادة، وكذا ينفتح أفقيا على الشعوب والحضارات المتباينة "الآخر"، وبهذا المعنى فهو نسق معرفي يتجاوز الخصوصية والذاتية ليأخذ بسنة التعارف القرآنية كما تجسدها الآية الكريمة {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13][[iii] ]. وانطلاقا من دراستها للأنساق المعرفية المتقابلة تقارن منى أبو الفضل المنظومة المعرفية التوحيدية بالمنظومة الحداثية، وبينما تجد الخالق الإله هو ركيزة المنظومة المعرفية التوحيدية فإن منظومة الحداثة قد أقصت الإله كلية وأحلت العقل/الإنسان محله باعتباره مركزا ومرجعية، وأضفت عليه صفة الإطلاق، وصبغت بقية العناصر بالطابع النسبي، وقد ولدت هذه المرجعية النسبية -حسب أبو الفضل- نوعا من التأرجح في الثقافة؛ حيث تتأرجح الأفكار كبندول الساعة بين طرف ونقيضه، بين المثالية القحة من جهة والمادية المفرطة من جهة أخرى وبينهما مستمر. وإذا كان التأرجح بين نقيضين هو أهم خصائص المعرفة الحداثية فإن المنظومة التوحيدية تتسم بالجامعية والكلية التي يقدمها مفهوم التوحيد "الصرة العاقدة الجامعة" حين يربط بين الأبعاد المتباينة الثلاثة: الغيب والطبيعة والإنسان، تلك الأبعاد التي تتفتت وتتجزأ حين تغيب هذه المنظومة فيتعذر معها الخروج للكليات من قراءة الجزئيات. ولا يعني قيام المنظومة المعرفية على التوحيد أنها منظومة إقصائية للمناهج المعرفية على اختلافها وإنما هي منظومة ذات قابلية استيعابية تتيح توظيف المناهج والمقتربات الغربية وذلك بعد تطويعها وتنقيحها بما يتلاءم مع طبيعة الموضوع المبحوث. "النسوية" في فكر منى أبو الفضل في خضم انشغالها بدراسة الفكر الغربي ونقد أطروحاته المعرفية بدأ اهتمام منى أبو الفضل بملف المرأة المسلمة دون تخطيط منها بعد أن استرعى انتباهها الأهمية التي يحظى بها هذا الملف في دوائر الفكر بشكل عام والنسوي بشكل خاص والتي تزايدت في الربع الأخير من القرن الماضي الذي حمل متغيرين أساسيين في التعاطي مع قضايا المرأة:الأول: حين تم التأسيس للدراسات النسوية باعتبارها حقلا معرفيا في إطار الأكاديميات الغربية.والثاني: تحول قضايا حقوق الإنسان وضمنها قضايا المرأة إلى أداة تم توظيفها بيد القوى الكبرى المهيمنة لإحداث التغيير في المجتمعات التي بدت عصية على الحداثة. ولعل هذين المتغيرين هما اللذان دفعا منى أبو الفضل أن تضع نصب عينيها ضرورة التأصيل لخطاب عالمي يتعامل مع قضايا المرأة من منظور حضاري، وذلك تجاوزا للخطاب الرسمي الذي يقر الوضع القائم تمسكا بمقولة أن الإسلام أعطى المرأة حقوقها، وتجاوزا كذلك للخطاب الفقهي الذي تستغرقه التفاصيل والجزئيات ولا يقدم رؤى كلية لقضايا المرأة. وللخروج بتلك الرؤية إلى حيز التنفيذ قامت بتأسيس كرسي زهيرة عابدين للدراسات النسوية في الولايات المتحدة عام (1998)، وأشهرت جمعية دراسات المرأة والحضارة بالقاهرة في العام التالي مباشرة، وقد حملت أدبياتهما صورة للخطاب الذي ارتأته أبو الفضل حول المرأة. المنظومة التوحيدية وإعادة صياغة المفاهيم آمنت منى أبو الفضل بأن تجاوز المنظور النسوي الوضعي السائد لا يتم إلا عبر إسقاط المفاهيم الغربية السائدة وإحلال مفاهيم أخرى محلها مستقاة من الخبرة الحضارية، ومستندة إلى الهدي القرآني، وفي هذا الصدد توصلت إلى أن مفهوم "النفس الواحدة" مفهوم محوري في صلب المنظومة المفهومية الإسلامية بما يؤكد عليه من الوشائج التي تربط النساء بالرجال في إطار العبودية لله، وتوقفت أمام مفهوم "التكليف" الذي يشمل الإنسان، و"التقوى" كمعيار تمايزه عند الله، وغيرها من المفاهيم التي تحمل مضامين لها دلالاتها العميقة والتي تناقض مفهوم "السلطة" المركزي في الفكر النسوي الذي يتمحور حول القوة والسلطة. ووفقا للمنظومة التوحيدية فإن السلطة والطاعة والخضوع إنما يكون لله في إطار عقيدة جامعة يشترك فيها الخلق جميعا رجالا ونساء؛ فالخضوع داخل شبكة العلاقات الاجتماعية ليس مرتبطا بالمرأة (النوع) ولا بوضع اجتماعي (طبقة) لكنها تنسحب على المؤمنين جميعا الذين يسلمون لله (مالك الملك) طواعية ودون إكراه. وإلى مفهوم آخر أصيل يمكن أن يشكل منطلقا في التعامل مع المرأة تتوقف منى أبو الفضل أمام مفهوم "الولاية" القرآني كما صاغته الآية الكريمة {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [التوبة: 71] والذي من شأنه أن ينقل مركز الثقل من مفهوم القوة والصراع في النسوية الغربية إلى مفهوم آخر مغاير وهو التضامن والتماسك في إطار الجماعة الإسلامية. واستكمالا لجهدها في تطوير منظومة مفاهيمية متكاملة حول المرأة تعمد أبو الفضل إلى مقارنة المفاهيم الغربية بمثيلاتها الإسلامية، وتتخذ من مفهوم "المساواة" منطلقا حين تتساءل: أين نحن من هذه القيمة المعنوية في إطار منظورنا الحضاري؟ وفي معرض إجابتها تشدد على أن النتائج تختلف باختلاف المقدمات: فإذا كانت قيمة الفرد العليا في المنظومة المادية تبدأ بالمطالبة بتثمين جهده في مجال العمل بغية تحقيق المساواة في توفير فرص العمل والأجور وما إلى ذلك من حقوق مادية؛ فإنها في المقابل تجد أن "التسوية" في الإسلام تبدأ من المستوى الوجودي منذ الخلق من نفس واحدة، ثم تجد ترجمتها بعد ذلك في المستويات العمرانية والاجتماعية المختلفة المبنية على صيغة التكافؤ، وانطلاقا من مفهوم النفس تتأسس جملة من الأحكام الشرعية مفادها تحريم قتل النفس، وتكريم النفس سواء أكانت رجلا أم امرأة دون أي تمييز بينهما[[iv]]. سيرة المرأة في التاريخ الإسلامي "السيراتوغرافيا" يشكل البحث عن موقع المرأة المسلمة في التاريخ الإسلامي -والذي أفردت له محور العدد الثاني من دورية المرأة والحضارة- ركنا ركينا من أركان مشروع منى أبو الفضل النسوي الذي ينبني على مسلمة أولية قوامها الارتباط العضوي بين المرأة والأمة، وعليه فإن دراسة تاريخ المرأة هو أحد مداخل دراسة تاريخ الأمة ككل "فنحن لا ننظر للمرأة بجنسها أو بفردها بل ننظر لدورها العمراني وللفعل الذي قامت به بصفته جزءا من سياق ونسيج وأدوار متداخلة وممتدة في التاريخ"[[v] ]، وانطلاقا من هذا المنظور لا تعد منى أبو الفضل قضية المرأة أو مراجعة دورها هدفا في حد ذاته -على ما لها من أهمية- ولكنها مدخل في غاية الأهمية عند استهداف قراءة تاريخ الفعالية الحضارية للأمة. وفي سياق بحثها عن موضع المرأة في التاريخ الإسلامي تضع منى أبو الفضل بعض الاشتراطات المنهجية اللازم توافرها عند بحث تاريخ المرأة، ومن أهمها عدم الانزلاق وراء المقولات التي تدعم دراسة التاريخ الاجتماعي في مقابل التاريخ السياسي باعتبارها أطروحة مادية تؤطر للاجتماعي في سياق بنى تحتية اقتصادية وطبقية وهي بذلك تتناقض مع منطلقاتنا المعرفية حين تختزل المجتمع وأفراده في بعد أوحد هو البعد المادي والاقتصادي. تفعيلا لهذا المنظور قامت منى أبو الفضل بتدشين مشروع "الأم أمة" الذي يبحث في سيرة المرأة المسلمة المعاصرة والذي يؤسس لمنهجية جديدة في كتابة السير تحت باب "السيراتوغرافيا"، وقد اتخذ من سيرة أم الأطباء الدكتورة زهيرة حافظ عابدين نموذجا تطبيقيا في طرح واختبار هذه المنهجية، وقد صدرت أولى كتابات المشروع تحت عنوان: "أم الأطباء المصريين: مجلد تذكاري" قبيل انتقال الدكتورة منى أبو الفضل إلى رحاب ربها بفترة قصيرة، وكانت تنوي أن تتبعه بآخر عن بنت الشاطئ. معالم قراءة نسوية بديلة لقد استطاعت منى أبو الفضل من خلال بحوثها وأدبياتها أن تطرح معالم قراءة نسوية بديلة تميزت بعدة خصائص؛ فهي قراءة واعية بالمنطلقات والغايات التي يستبطنها الخطاب النسوي عن وعي منه أو دون وعي، وهي أيضا واعية بما يطلق عليه "ما قبل المنهج" الذي يتحكم في الأجندة البحثية ويحدد مسبقا المفاهيم والأطر والتساؤلات المنهجية، الأمر الذي يجعل البحث العلمي لا يبرح أطره المرسومة، ويعيد إنتاج مقولاته دون أن يتجاوزها إلى غيرها، وحسبما تذهب أبو الفضل فإن الوعي بهذه البنية المستبطنة يسمح للقراءة البديلة أن تتحرر من أسر القراءة السائدة وتنطلق من أسئلة أخرى غير معهودة لتصل إلى نتائج جديدة تفتح آفاقا جديدة أمام البحث العلمي. وتتسم القراءة البديلة كذلك بكونها قراءة نقدية قادرة على نقد الخطاب النسوي السائد وتفكيك مقولاته، وهذا لا يعني أن غايتها هو الهدم والتقويض وإنما غايتها الحقيقية تجاوز ذلك إلى بناء خطاب نسوي جديد يتسم بالتركيبية والشمول وعدم تقطيع الظواهر، ومن ثم قدرته على التعامل مع الظواهر الحضارية المركبة[[vi]]. وختاما لهذا الاستعراض السريع لأبرز أطروحات منى أبو الفضل النسوية يمكننا القول إنها سعت لتأسيس خطاب نسوي بديل ينطلق من الأرضية الحضارية ويستند إلى مفاهيمها وقيمها، واستطاعت في هذا الصدد تقديم نَوَيَات أولية، وإطار منهجي مقبول يمكن مواصلة البناء عليهما لإنتاج خطاب نسوي إسلامي يتجاوز خانة رد الفعل، وينفك عن نظرية المؤامرة التي حكمته منذ تأسيسه. [i] منى أبو الفضل" المنظور الحضاري وخبرة تدريس النظم السياسية العربية" منشورة ضمن أعمال دورة المنهجية الإسلامية في دراسة العلوم الاجتماعية.. علم السياسة نموذجا، سيف الدين عبد الفتاح ونادية مصطفى إشراف، (القاهرة، مركز الحضارة للدراسات السياسية، 2000). [ii] منى أبو الفضل، هند مصطفى علي "خطاب النهضة في عصر النهضة: قراءة بديلة" بحث منشور ضمن أعمال ندوة مائة عام على تحرير المرأة (القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، 2000)، ص 291. [iii] انظر نص التقرير العام عن الدورة التدريبية التي عقدت بالرباط عام 1999 لمجموعة "الفهرية للدراسات الحضارية" التي ترأستها منى أبو الفضل على الرابط التالي: [iv] منى أبو الفضل: نحو منظور حضاري لقراءة سيرة وتاريخ المرأة المسلمة (المرأة والحضارة، العدد الثاني، ربيع 2001)، ص 162-163. [v] نفس المرجع السابق، ص 164. [vi] منى أبو الفضل، هند مصطفى علي "خطاب النهضة في عصر النهضة: قراءة بديلة" المرجع السابق، ص 292-293
22-10-2008 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=679 |