/
فَـلْسَفَةٌ الـمَعْـنَى: العِلاَج بالمعنَىَ الـمُتسَامِي
أحمد الحمدي
" عُـمْـق": "الوجودُ الإنساني هُو بالضَّرورة تسامٍ بالذَّاتْ وتجاوزٌ لها أكثر من أن يكُون تحقيقاً للذات!"[1]. فـيكتور فـرانكل( 1905م- 1997 م)[2] بِـدَايـَـةً: هَـل يستطيعُ الإنسان أن يتمسك بالحياة ولا يستسلم في وسط الألم والعذاب الشديد المحيطين به من كل جهة، بل ويختار الحياة ويجد لها معنى؟! من تجربةٍ شخصيةٍ، إلى أهم مُشكلٍ في الوجود الإنساني:"مُشْكِلْ اَلمعْنى"أو قُلْ مشكل"إرادة المعنى" هذه الإرادة المساوقة لـ:" إرادة اللَّذة"ومبدأ اللذة اللَّذَيْنِ تمركزَ حولـَهُمَا علمُ النفس الفرويدي؛ وهي كذلك مساوقة لـ:"إرادة القوة"ومبدأ القوة اللَّذَيْنِ تمركزَ حولـَهُمَا علم النفس الآدلري-(نسبة إلى: آدلـر)[3]- ينطلقُ عَالِمُ النفس الفلسفي فيكتور فرانكل في كتابه:" الإنَسان يبَحثُ عَن المعْنى " الباحث فيه عن سبل العثور عن المعنى لهذه المفردة الوجودية المتعالية بدايةً وغايةً. غدا فرانكل رمزا لأهم حركة في علم النفس المعاصر: ما يُعرفُ بالعلاج الوجودي الفلسفي: أحد كبرى علائق البحث الابستيمولوجي الفلسفي في التحليل النفسي الوجودي[4]والذي يعتبر حقلا من الحقول الخصبة لبذور مداخل النظر التجديدي في : ماهوية/وظاهرية الوعي النفسي، حسب منطق هسرل الظاهراتي، الساعي إلى الإدراك المتعالي للظاهرات الإنسانية. السَّعيُ لإفرَاغِ الوُجُودِ الإنسَانِي: عندما يفقد الإنسان الثقة يكون سلوكه فاقدا لإرادة الحياة، فاقدا لكل مقدرة على المواصلة[5] التي تعطيه المعنى المتسامي، كيف تكون الحال سوياً إذا لم يرَ في الوجود سوى النقطة السوداء المعتمة التي تعكر صفو الحياة من كل ما هو جميل، ومن كل ما هو بريء، ومن كل ما هو متسامي؟!. يصل القهر بفرانكل وزملائه إلى الذروة في المعتقل الذي جعله يتساءل عن عجائب تصرفاته غير القابلة للتفسير الطبي والنفسي السائد، الأمر الذي يجعل من هذه التصرفات في تلك الظروف المريرة، مُكَذِّباً للنظريات التي يضعها من لم يخوضوا التجربة الحقة؛ ففي خضم هذه التجارب المريرة ينام فيها فرانكل بجانب تسعة أشخاص ببطانيتين في صقيع البرد دون أن يمرض، ولا يغسل أسنانه لمدة طويلة ومع ذلك تبقى خلالها الأسنان واللثة أقوى من ذي قبل، ولا يجد فرصة للاغتسال لعدة أيام بسبب تجمد الماء في الصنابير ويبقى خلالها الجلد صلدا رغم التقرحات والقذارة من العمل في التراب، ورغم ما يراود الجميع من فكرة الانتحار التي هي الرسالة الأخيرة للإعلان عن العجز والإفلاس في مواصلة البحث عن المعنى والتسامي والدفاع عنهما، يصبح توقع الحياة ضئيلا للغاية؛ حتى أن غرف الغاز وهي المرعبة فقدت بدورها القدرة على الإخافة والاستفزاز في هكذا ظروف!. الآن يُصبح لمقولة:"دوستويفسكي" معناها العميق هنا:" الإنسان كائن حي، بمقدوره أن يتعود على أي شيء!"؛ لكننا نقول لدوستويفسكي:" نـعم، يستطيع الإنسان التعود على أي شيء، ولكن لا تسألْنا كيف يتأتى ذلك؟! فبحوثنا النفسية لم تصل بنا حتى الآن إلى تفسير ذلك!؟"[6]. عالم متوحش يطلب منك أن تكون ورديَّ اللون باستمرار، يطلب منك أن تعمل بمقياسه الرقمي الوحيد: أن تُظْهِرَ قدرةً كافيةً في العمل والإنتاج، والاستهلاك!، وأن لا تَعْرُجَ أثناء المشي[7] وإلا فلو لوحظ ذلك عليك فسيكون مصيرك غرف الغاز لتتبخر مع تلك المداخن!. كيف تواجهُ كل هذا بـ:ابتسامة، تتسامى من غير سذاجة بحثا عن المعنى! لم لا و"رَدُّ الفعل غير السوي، إزاء موقف غير سوي، هو هنا استجابة سوية!" فمثلاً من يُحَوَّل إلى مستشفى للأمراض العقلية، سيكون لهذا التحويل ردود أفعال غير سوية هي: مقياس درجة سوائه[8]! إنها ظروف تحاول أن تقتل كل قيم الأنا التي يجب أن تكافح لحفظها وتقديرها حتى الرمق الأخير. في ظروف بئيسة ينتقل الـمُعَذَّب فيها إلى الطور الثاني من ردود الفعل: طور البلادة والموت الانفعالي إزاء ردود الأفعال العقلية[9]: فعندما تقوم بتنظيف البالوعات والمراحيض من البراز ويتطاير على وجهك شيء منها، ولا تستطيع أن تتأفف أو تهمس ببنت شفة، لأن الحارس يقف على رأسك ينتظر منك أي اشمئزازاً لينهال عليك لطما ورفسا، وتُضْرَب فقط لأنك مصابٌ بمرض الحُمَّى! هكذا تجري إماتةُ أيِّ رد فعلٍ سوي لديك! ويتبلد حينها الرائي والمرئي من كل شي سوى الإحساس بالإهانة!.ففي حياة الإنسان هناك لحظات يمكن أن يُظهر فيها نقمته-وهي نقمة تتجه لا إلى الألم والقسوة التي لاقاها[10]-ولكن إلى الإهانة التي ارتبطت بها! الإهانة التي تتجاوز خدش قداسة "مَعْـبَد"الجسد المتسامي! إلى خدش معبد الروح الرباني!. البلادة[11] تصبح حيلة دفاع ذاتي ذات أسباب نَفسَـ|ـجِسمية يتقوقع فيها المرء لينكصَ إلى الأحلام البدائية/الأحلام البيولوجية[12] التي تدور حول الخبز والكعك والسجائر والحمامات الساخنة اللطيفة! إلخ... والتي يتم السعي إليها عند فقدها بـ: الأحلام الـمَنَامِيَّة لإشباعها[13]. والعجيب أن الاهتمام الديني ينمو بسرعة وبشدة في هذه الظروف، فعمق الإيمان الديني كان مدهشا لأي زائر لتلك المجموعات البشرية المعذبة ذات الظروف العسيرة، الصلوات الارتجالية تُسمع وتُرى في كل زاوية من زوايا عربة نقل الماشية التي يركبون، حيث الجوع والبرد والملابس المهلهلة[14]. أليس في هذا الاهتمام الديني لهؤلاء البؤساءمعنى وجدوا فيه التسامي الذي يخفف عنهم آلامهم ؟!. من الحب وفي الحب يكون خلاص الإنسان: بهذه الرؤية يخترق فرانكل الألم، ويتجه إلى الأمل، ففي الحب طموح غائي يجب أن يسعى إليه كل إنسان في عمق كل أزمة؛ والشِّعر، والفكر، والإيمان يجب أن يفصحوا عن هذه الغاية[15] التي يدورون حولها، ويتغيون قممها، ووديانها المقدسة! فالحب هو الخاتم الذي يبصم نفسه على القلب، وهو في قُوَّتِهِ كالموت في وقعتهِ[16]!. بواطن العمائق التي تفجر في الإنسان أشكال التعبير عن الحب من توق إلى رؤية الطبيعة، وإحساس بالجمال،( = لكونِ جوهر الوعي لا يمكن التوصل إليه إلا بالحب[17]) والتعبير عن ذلك بكل معرفة فنية منظورة أو مسموعة، أو متخيلة، فيها التخفيف من الجوانب القاسية التي يلقاها بؤساء العالم[18].تعطي لهم التسامي والمعنى الذي يُسْعَىَ إلى ملامسته في أصعب اللحظات، ولو بالمناغاة الواعية التي تُؤدَّىَ أحيانا كحيلة دفاع ذاتي مَرِحٌ ومُرِيحٌ من قلق الحاضر، يسمو بالذات ولو للحظاتٍ على الموقف الأليم[19]، فإن كل ذلك يصبح من فنون الحياة بحثا عن المعنى، وتوقا إلى التسامي، وهروبا من الأوضاع التي تجردك من كل شيء: سوى أنك مجرد رقم في قائمة كئيبة!. الشخص الذي لا يستطيع أن يرى نهاية "وجوده المؤقت" لا يستطيع أن يرنو إلى هدف غائي في الحياة؛ فالخاصية المميزة للإنسان: هي أنه يستطيع أن يحيا عن طريق"تطلعه إلى الأمام"ومن يفقد ثقته بمستقبله يحكم على نفسه بالفناء، ويصبح عرضة للتدهور النفسي، والانهيار الجسمي والعقلي، ففقدان الأمل والشجاعة قد يكون لهما تأثير مميت! وزوال وجودنا المؤقت لا يحتم أن يجعل وجودنا هذا بلا معنى. إن الطريقة التي يتقبل بها الإنسان القدر هي التي تحدد ما سيكونهُ من معنى؛ فكل شيء من الممكن أن يُؤخذ من الإنسان عدا شيئا واحدا هو آخر بوارق حريتهِ: أن يختار اتجاههُ في ظروف معينة، أن يختار طريقهُ[20]! أن يختار المعنى والتسامي! أن يختار الأمل كعلاج عندما تكون الآلام والمعاناة جزءا من الحياة لا تكتمل الحياة بدونها، ولا يملك الإنسان تغييرها. السَّعيُ لِلـعُثُوُرِ عَلَى مَـعْنَى: ويل لمن لا يرى في الحياة معنى!(= لماذا؟): لأن ما هو متوقع من الحياة ليس هو موضوع الأهمية بالنسبة لنا[21]، فما يعنينا هو ما الذي تتوقعهُ الحياة منا؟!(=المسؤولية). يكون للوجود أهمية تستحق أن نحياها عندما يكون هناك معنى وهدف نسعى في هذه الحياة لمعايشته، وللاستمتاع بمغزاه[22]، بل وأن نتخطاه دوماً دوماً في رحلة تسامي متعالية. فحينما يشعر المرء أن المسؤولية الملقاة على عاتقه لن يقوم بها غيره[23]، يكون أمام دافعية داخلية للإبداع، وحافزية خارجية للإنجاز؛ أي أن وجوده يصبح لديه ذا معنى يسعى للتسامي به نحو الأفق بشوق وعظمة غير مصحوبة عند الواعي بها بأنانية آنية. فالمعاناة تصبح الصخرة التي يتحطم عليها كل خوف سوى الخوف من الله كما يقول فرانكل!. أن نتقبل المسؤولية التي ترتبت على وجود الهدف يعني أن المعنى آخذٌ في تشكله سلبا كان هذا المعنى أو إيجابا. لكن كيف يصل الإنسان إلى هذه المقدرة الإنسانية المتميزة في الخيار الوجودي[24] للحياة؟ هذا ما يسعى فرانكل إلى فهمه؛ فالمحيط يوجد فيه جنس إنساني مهذب، وجنس إنساني سافل؛ وكلاهما يتغلغلان في كل الجماعات البشرية[25]، ولا يوجد جنس نقي خالص، أو جنس سافل خالص! والواجب هو اختراق الوجود بحثا عن المعنى! ليتم التسامي به. العلاج بالمعنى( Logotherapy)[26] يركز على المستقبل، ومعنى الوجود الإنساني، والخروج من التمركز حول الذات، حيث يواجَهُ المرء بمعنى حياته التي ينبغي أن يتسامى إليها بعد أن يجدها، بـ: إرادة المعنى، هذه الإرادة التي هي قوة أولية وليست ثانوية، فهي ليست مجرد ميكانيزمات دفاعية، لأن الحياة أكبر من ردود الفعل؛ فالـمُثل والطموح مبررات للحياة والموت وليست مجرد ردود فعل غريزية كما يصورها التحليل النفسي التقليدي، فالمعنى(Logos=الروحي بالمفهوم الإنساني العام وليس بالمعنى الديني فحسب ) ليس انبثاقا من الوجود ذاته فحسب، بل شيء يواجِهُ الوجود، ومعنى وجودنا[27]شيء لا نبتدعه وإنما نسعى لاكتشافه واستبانته. فالضمير السليم هو أفضل وسادة! كما تقول المأثورة الألمانية، والأخلاق الحقة هي أكثر من حبة مُنومة، أو من عقار مهدئ لعضو منفعل!. فمهمة البحث[28] عن المعني هي أن يجد المرء المعنى في الطريق؛ وما يحدث من صراع داخلي ليس بالضرورة مُعبرا عن مرضٍ يستدعي العقاقير المهدئة، بل شيء من الصراع والحرارة والطاقة(=الدينامكية المعنوية) الداخلية دليل وبرهان على سَوِّيةِ الإنسان، وهي من مؤشرات الصحة النفسية؛ فحينما تكون في توتر بين ما أنجزته وبين ما لا يزال عليك أن تنجزه يصبح لحياتك الحرارة التي تدفعك إلى معناك[29]! وليس وهْم التوازن البيولوجي|النفسي، الذي يباهي به ببغاوات التقليد الحداثي من عرب اليوم وصبيانهم –إلا ما رحم ربك- فلو لم يكن الإنسان أعظم من الآلة لاستحق القتل الرحيم، في الفرن الرخيم!. ما ذُكرَ سابقا هو البَلْسَم لحالة اللامعنى أو الفراغ الوجودي[30] --قلقاً ومللاً في أوضاع أصبح الفتية فيها يعلنون بألسنتهم عن الجهاد في تضييع الوقت في…؟! بعد أن فقدوا كل جذوة وعي إنساني بله إيماني يُشعرهم بالإحساس بالزمن-- الفراغ الذي يقع ضحاياه فريسة للمسايرة والامتثال والتدجين الجماعي؛ كما هو بارز كظاهرة عالمية(=عولمية)في القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين، بشكل صارخمعلنةً الإحباط الوجودي: =العصاب الجماعي، والعدمية المادية: التي لا ترى للجود معنى ! - المنتهي غالبا بالتعويض الجنسي الغفل! التعويض الذي يصبح مُتفشيا عند فقدان المعنى في هذا الفراغ الوجودي. إذن البحث عن المعنى والتسامي إليه يحاولان أن يستثيرا روح المسؤولية للعثور على معنى الحياة التي يجب أن يكونها الإنسان من ذاته هو هو لا من إسقاطات الغير كل الغير عليه. فالمعنى ليس نصائح أخلاقية، ولا حتى تعليم منطقي- ( المعنى أعمق من المنطق لمن تأمل!)- وإنما حفر في الضمير: الحفر في اليابسة بدل الماء، والفارق بين المعالج بالمعنى وغيره هو الفارق بين الرسَّام و طبيب العيون: فالرسَّام يحاول أن يرينا العالم كما يراه هو! أما طبيب العيون فإنه يساعدنا أن نرى العالم بأعيننا نحن!. ومع ذلك فإن الوجود الحقيقي للإنسان ليس فيما يسمى بتحقيق الذات[31]فحسب، وإنما في التجاوز لهذه الذات التجاوز الذي لا يمكن أن يتم إلا من معناها والتسامي لمعنى معناها!. والمعاناة والألم تزول بمجرد أن تكسب الحياة معنى متواليا متساميا مثل التضحية، فمن تُوُفِّيَت زوجته -على سبيل المثال- التي يحب وانهار من معاناة الفراق، يمكن أن يجد له سلوانا في التضحية بالبقاء بعدها حاملا للرسالة، وذاكرا لذكراها! فليس الهدف في العلاج بالمعنى تجنب الألم والحصول على اللذة، وإنما بأن يرى معنى في حياته! وهذا هو السبب في أن الإنسان مستعد للمعاناة شريطة أن يكون لمعاناته معنى!. المشكلات الإنسانية وليست الأعراض العصابية هي أكثر ما يواجهه الناس اليوم، وهو أكثر ما يحير الفن الطبـ|ـنفسي اليوم، فالأمر متعلق بمشكلات فلسفية، وليس صراعات انفعالية تحتاج إلى مسكنات كيماوية فحسب!. الإنسان في النهاية صاحب قرار، ومسؤولية، يشكلان جوهر وجوده الفاعل ذي المعنى والفرادة المستقلة، فإحدى الخصائص المميزة له قدرته على التسامي فوق الموقف، والظروف، وبنفس المساق يسمو بذاته ويتجاوزْها. هذا التسامي يجعل من الصعب علينا التنبؤ بسلوك الإنسان المستقبلي[32] الذي يحلو لسطحيي الفهم الدندنة التنجيمية حوله كي يبرزوا مقدرتهم البهلوانية بالتنجيم البدائي على عقول السذج من رعاع الأتباع، والجماهير. اليوم أصبحت أنسنة الطب النفسي[33](ويا للعجب نعم الطب النفسي القائم موضوعه على إنسانية الإنسان) ضرورة يـُلِح عليها فحول البحث الابستيمولوجي في علوم النفس من أمثال فرانكل؛ فنزعة التجريب السائدة اليوم يمكن القول أنها في طريقها إلى المتحف النفسي، أو بعبارة فرانكل الصارمة[34]" حلمٌ قد تبدد فقط لأن كينونةَ الإنسان تعني توجههُ نحو شيء آخر غيرَ شخصهِ!"؛ في إشارة منه إلى:(=عالم ما وراء الذاتية) فلكي تكون إنساناً يعني أن تكون مُطالَباً بمعنى تنجزهُ، وبقيم تحققها، وهذا هو جوهر الوجود الإنساني؛ حتى في الرؤية الإسلامية كما نعتقد. وَخِـتَـامَاً: هناك أمران يفرضان الاهتمام بهذا النوع من الدراسات "النفسَـ|ـفَلسفية"[35]: الأول: عـمومية: تأزم أوضاع الإنسان العالمية، في مطلع القرن الواحد والعشرين، فعصر العولمة صبغ الخصوصيات الثقافية بُعدا كونياً في مرحلة ما بعد/وتحت الحداثة، حيثُ إفرازات اقتصاد السوق الحر تدك ضمائر الداخل فيها بحثا عن هُويته المتمايزة، الأمر الذي يجعله "باحثا عن المعاني الغائية" في إطارها الجمعوي الذي يتبدَّى فيه المرض الجماعي أو ما يُعرف بـ" سيكوباثولوجيا الجماهير"[36]وتوتر الأعصاب لإنسانِ هذا الوجود الجديد، ليبحث عن وجودٍ سوِّي، إن كان ذا ضمير سوِّي!، " فالإنسان مخلوق يبحث عن معنى"…كما يقول أفلاطون. الثاني: خـصوصية: تصَوُّر كل تشكيل حضاري في رؤيته للكون ومسائل النهاية، والمصير، والغاية، والزمان، والمكان، إلخ... فبالنسبة للحضور الإسلامي الزماني والمكاني عبر التاريخ في التشكيل العالمي كان محفزا لأبحاث من قبيل هذا النوع من الدراسات مَضَانـُّهَا مبثوثة في مدونة التراث العربي والإسلامي فلسفيا وكلاميا؛ ولئن كان القرآن الكريم قد أعطى المسلم به، والداعي إليه، رؤيته للوجود بما هو صائر إليه، وقادم منه، فإن ذلك لا يتقاطع هنا مع البحث المتسامي الذي تحفز إليه آيات النظر الآفاقية، والأنفُسية بنص القرآن المحكم، بل يصبح دعوة إلى التسامي الدائم حساً ومعنى، وكلاهما منهج تحديدي لـ:" موضوع التسامي اللانهائي غاية" التي هي تلك الآفاق الآفاقية، وهذه الآفاق الأنفسية، في رحلة البحث الملموس، والمشعور، عن كل ما هو "مُطْلَقْ"الإطلاق الذي يخوض تجربته الوجودية الفرد لوحده من غير وسائط، حيث تكون الغاية الوصولية الفردية أمْرِيَّة في صيغةٍ خَبريَّة:}وكلٌ آتيهِ يومَ القيامةِ فرداً{.وتلك هي عَيْنُ الحرية الروحية والعقلية التي تجعل الحياة ذات معنى وهدف؛ والتي يمكن الاحتفاظ بها في أشد الظروف النفسية والمادية بشاعة وألم[37]، الحرية التي تفجر الإبداع الذي لا ينضب!. والله أعلى وأعلم. [1] " الإنَسان يبَحثُ عَن المعْنَى " د. فيكتور فرانكل ، ترجمة: د/طلعت منصور، دار القلم – الكويت، ط:الأولى: 1982م. (215صفحة). (ص: 147 ). [2] عالم وبروفيسور نـمساوي، يعتبر زعيم المدرسة النمساوية الثالثة بعد فرويد، و آدلر في العلاج النفسي؛ كان مَعْلَمُهُ الجديد عن أسلافه هو:" العلاج بالمعنى". دخل تجارب شخصية-فضلا عن صدمته بوالده ووالدته وأخوه وزوجته اللذين قتلوا جميعا في معسكرات، و أفران الغاز النازية- عانى خلالها من التهميش في المعتقلات لمدة ثلاث سنوات، كانت الشرارة المحفزة له للاهتمام الفلسفي، في العلاج النفسي الوجودي. انظر سيرتهُ مثلا في : ( http://webspace.ship.edu/cgboer/frankl.html ) أو معهد فيكتور فرانكل: (http://logotherapy.univie.ac.at/d/person.html ) أو مقدمة الكتاب لجوردون أولبورت. [3] الإنسان يبحث عن المعنى(ص:131). [4] حيثُ يقولُ منتقدا قصورَ نظرة الطب النفسي لإدراك ِتسامي الإنسان: " حـاول الطب النفسي أن يفسر العقل الإنساني، على أنه مجرد نظام آلي" ميكانزم" وعلاج الأمراض العقلية على أساس تكنيكي/ تقني: وأعـتقدُ أن هذا الحلم قد تَـبَـدَّد !... ولسوفَ يعترفُ هذا الأخصائي الفني بأنه لا يرى في مريضه شيئا أكثر من"ماكينة"! بدلا من أن يرى الكائن الإنساني المتسامي الذي يقف خلف المريض! فالكائن الإنساني ليس شيئا واحداً، بل أشياء أخرى! " أ.هـ( م.س. ص:176،177)بتصرف. [5] ( م.س. ص:27). [6] ( م.س. ص:38-39)بتصرف. [7] ( م.س. ص:40). [8] ( م.س. ص:41،77). [9] ( م.س. ص:42). [10] ( م.س. ص:42). [11] في لحظات الأزمات التي تستمر طويلا ثم تنقشع فجأة يتم استشعار درجة ذبول وتجمد المشاعر بالسرور، والجمال إلخ... الملحوظة عند الخارج من تلك الظروف القاسية غير المستشعر لحدث وصدمة زوال الأزمة المفاجئ في حالة من تدني درجة الانفعال لديه والتي تم ترويضها بشكل سالب، الأمر الذي يتطلب رعاية تعيد الفطرة السوية إلى طبائعها الإنسانية النقية(انظر: ( م.س. ص:119-122).. [12] (الأحلام البيولوجية )مصطلح قمتُ بِسَكِّهِ قاصداً به وصف الهستيريا الساعية للتمركز حول الإشباع الأولي لحاجات قيام الإنسان الضرورية، والتي لا يتمحور حولها الوجود الغائي الاستخلافي لعمارة العالم ورعايته من قبل الإنسان، وليس في هذا دعوة للرهبنة والغنوصية والفلسفة والتصوف المهملين للجسد المقدس ربانياً؛ وإنما النقد يتوجه إلى أن يصبح الآني الضروري بديل عن الغائي الضروري ففي ذلك قتل لهما جميعا وتصنيم لحال التسامي الواعي المرتفع بهما معا في خط واحد يحملهما على كف الدهشة الصاعدة والنازلة. [13] ( م.س. ص:55،52، 91).والسعي لهذا الإشباع يحيله فرانكل إلى الخشية فيما سواه أي أن العدم! سيكون مصير من فكر فيما عدا الطعام والشراب والملبس؛ وهذا وجيه جدا في حالة السجين هنا؛ لكن ماذا نقول عن الأسباب فيمن ليس هو بمثل هذه الحال؟! الأمر الذي يستدعي التأمل في الأوضاع العمرانية والحضارية ذات السلوك الذي هو من قبيل هذا الجنس السلوكي البدائي!. [14] ( م.س. ص:59،88،98،122،174). [15] ( م.س. ص:62). [16] الحب الذي هو انجذاب إلى الكمال، يتم التسامي إلى ذروته الإلهية: الله صاحب الكمال اللانهائي. فالحب إن جاز تقريبه بشعاع مبثوث من ذات باعثة صاعدة إلى هذا الكمال اللانهائي فإن الذروة تصبح هي المنظمة(عند من رضي بها منهاجا بالخيار الإسلامي مثلا) لكل أشكال وتعبيرات هذا الحب( بما فيها ممارسة الجنس السوي، الذي هو أحد الأشكال الرئيسة للحب) المتوالي نزولا من تلك القمة؛ وهنا تصبح الجوانية الإسلامية فاعلة في وُجُوُدات العالم كل أشكال التعبير الجمالي (=قيمة الجمال/أصل الفنون) ومعبرة عن الحب المطلق من غير خلط بين الذروة الكمالية الإلهية(-وحدة الوجود)، والنسبية الجمالية الإنسانية الساعية إلى الكمالية. [17] ( م.س. ص:148). [18] ( م.س. ص:65-76،80)بتصرف. [19] لأن المعاناة حالة نسبية. [20] ( م.س. ص:94،96،100-109،113،159).
30-10-2008 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=682 |