/
المصارف الإسلامية: من تنمية المجتمع إلى تنمية رأس المال
عبد الرحمن حللي
المصرف الإسلامي مؤسسة نقدية هدفها الحصول على الموارد النقدية من أفراد المجتمع واستثمارها في أنشطة مختلفة وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، ويلحظ فيها مراعاة البعدين الاجتماعي والاقتصادي من خلال توظيف المدخرات، فتنمية المجتمع هي أهم أهداف البنوك الإسلامية من حيث المبدأ والفكرة، إذ نشأت ابتداء لتلافي العجز والنقص الموجود في النظم الاقتصادية القائمة على نظريات التنمية والتمويل التقليدية، والتي يحجم عنها كثير من المسلمين تديناً فضلاً عن الاستغلال الربوي الذي يحكم آلية عملها. ويرجع أول مصرف إسلامي إلى منتصف السبعينات فكان من أوائل المصارف الإسلامية "بنك التنمية الإسلامي" و"بنك دبي الإسلامي"، ثم توالى إنشاء المصارف الإسلامية لتتجاوز 350 مصرفاً تعمل في خمسين دولة تقريباً، تشمل معظم دول العالم الإسلامي وأوروبا وأميركا الشمالية وبعض المناطق الأخرى، وقد فرضت البنوك الإسلامية واقعاً جديداً على السوق المصرفية العالمية واقتحمت مصطلحات "المشاركة" و"الصكوك" و"التكافل" قواميس البنوك الغربية والتقليدية، ولجأ أكثر من 300 بنك تقليدي إلى تقديم منتجات مصرفية إسلامية لتلبية الطلب المتزايد لعملائها المسلمين على الخدمات البنكية التي تتوافق وتعاليم الشريعة الإسلامية، وأسهمت عوامل سياسية واقتصادية عالمية في نمو هذه المصارف وأنماط العمل فيها، وقد عزز ذلك تمكن البنوك الإسلامية من إثبات قدرتها على تحقيق أرباح مرتفعة، حتى أصبحت من أسرع القطاعات المالية نمواً في العالم، وينظر إلى هذه المصارف على أنها منافس قوي في البلدان التي تعمل فيها. ومن عوامل تعاظم رأسمال البنوك الإسلامية جذبها لعدد كبير من المدخرين الذين كانوا يرفضون التعامل بالفوائد أو التعامل مع البنوك التقليدية، لاسيما المدخرين الصغار وأصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وفي الفترة الأخيرة لجأ إليها عدد من أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة لأسباب اقتصادية سياسية. وتمثل عقود التمويل السلعي وتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة، أهم وسائل تنمية المجتمع اقتصادياً وبشرياً، وعوامل جذب لعملاء جدد لا يتعاملون مع البنوك التقليدية، فكان للبنوك الإسلامية دور في تفعيل آليات التمويل الصغير الذي بدأت البنوك التقليدية تتجه إليه بحذر. هذه النجاحات التي حققتها البنوك الإسلامية في بعض البلدان لم تبق هي الرائد في آلية العمل في البنوك الإسلامية، فهذه الآلية تبدو بطيئة في تنمية الأرباح، ولعل دخول رؤوس الأموال الكبيرة في هذه البنوك تأسيساً أو إيداعاً، وحرصها على تنمية رأس المال، وتعاظم رأس مال هذه البنوك مع ضعف توظيف هذه الموارد في المشروعات التنموية الصغيرة والمتوسطة، أدى إلى ظهور تحد جديد أمام هذه البنوك، هو كيفية توظيف هذه الأموال، فهدف التنمية لم يعد رسالة أساسية لمعظم البنوك الإسلامية، لاسيما تلك التي نشأت كنمط جديد للاستثمار من قبل رجال الأعمال، وبالتالي تم اللجوء إلى الاستثمار والتمويل في المشروعات قليلة المخاطر كالعقارات، والدخول في منافسة مع الأسواق العالمية، وفي ظل قصور الرؤية والحذر من المغامرة في المشروعات التنموية، كان هناك إلحاح على هيئات الرقابة الشرعية في البنوك لابتكار أساليب جديدة لتحريك هذه الأموال الكبيرة، وإيجاد صيغ للتمويل الكبير دون الدخول في شراكة فيها من المخاطر ما فيها، فتم إحياء فقه الحيل، وظهرت عقود طالما تحدث عنها الفقهاء باعتبارها نماذج من التحايل على الربا، بل وابتكرت طرق جيدة من العقود الصورية التي تمثل التفافاً غبياً على الربا والفائدة، كما تم تصنيف المشتغلين في الرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية إلى متشددين ومتساهلين، وأصبح كثير منهم كرجال كهنوت يحللون ويحرمون بحسب ما يدفعه البنك من رواتب لهم، وتم تفعيل مصطلحات مقاصد الشريعة والمصلحة والضرورة وعموم البلوى لتغطية هذه العقود، وأصبحت الرقابة الشرعية على البنوك مهنة جديدة لعلماء الشريعة ودارسي الاقتصاد الإسلامي. لقد كان من المنتظر أن تسهم البنوك الإسلامية في تطوير الرؤية الفقهية للمعاملات المالية واستحداث عقود جديدة لا تقوم على الحيل، لكن الذي جرى أن الفكر الاقتصادي الإسلامي لم يتحول إلى برامج اقتصادية وظل عبارة عن مبادئ وقيم عامة، أثبتت التحولات المالية والاقتصادية العالمية صحتها، لكن المنظرين لها ظلوا في خانة التنظير الاقتصادي المقارن بطريقة استبدال العناوين، ولم يدخلوا إلى الواقع إلا عند الطلب والاستفتاء، ولم تظهر مبادرات عملية لتجسيد هذه القيم، ولعل أبرز تجربة اقتصادية إسلامية هي البنوك الإسلامية، التي نجحت في جذب رؤوس الأموال المدخرة، وكان لها دور في تنمية المجتمع من خلال التمويل الصغيرة، لكن هذا الخط من الأعمال المصرفية الإسلامية لم يعد هو المعول، وتحولت رسالة تنمية المجتمع إلى هاجس تنمية رأس المال، فلم يعد الفقير ومتوسط الحال هو خطة عمل البنوك إنما المقتدر والمليء الراغب بالتوسع، وبدل أن تتوسع آليات التمويل وأنماطه بدأت تضيق وتتجه إلى البحث عن العائد السريع والمضمون، لكن ذلك لم يمنع تلك البنوك من مداعبة الفقراء ومتوسطي الحال من خلال الدعاية التي لا تجد مصداقاً لها إلا عند المقتدرين والذين تجاوزوا خط الفقر بأشواط، وأصبحت البنوك الإسلامية تبيع الوهم بوعود تعلم أنها غير قادرة على تحقيقها، حتى إذا جاء أصحاب الدخل المتوسط بل أصحاب الدخل العالي المحدود لم يجدوا ما كانوا يسمعون به نظراً لطبيعة وآلية التمويل والتقسيط...، بل أصيب هؤلاء بخيبة أمل بعد انتظار افتتاح البنوك الإسلامية في بعض البلدان، وأصبح دور التمويل الإسلامي ليس تلبية حاجة أصحاب الدخل المحدود إنما تحويل أصحاب الدخل المتوسط إلى أوضاع أصحاب الدخل العالي، وتنمية رؤوس الأموال الكبيرة أصلاً، إما بالتمويل لمشاريعها، أو باستثمار أسهمها وإيداعاتها في تلك البنوك. إن التجربة تؤكد تحول صفة الإسلامية في معظم البنوك من تعبير عن القيم الإسلامية في الاقتصاد إلى (ماركة) جديدة في التعاملات المصرفية العالمية، حتى أصبحت التعاملات المصرفية الإسلامية مقرراً دراسياً في فرنسا معقل العلمانية في الغرب، فرواج الصناعة البنكية الإسلامية عالمياً ليس دليلاً على نجاحها اقتصادياً بقدر ما هو تحولها إلى ماركة جديدة في السوق، فينبغي التفريق بين الصناعة البنكية الإسلامية كاستثمار رأسمالي ناجح وبينها كوسيلة لحل مشكلات التنمية وأصحاب الدخل المحدود الذين لولا رفضهم التعامل بالفائدة لوجدوا في البنوك الربوية ما يلبي حاجتهم بشروط أسهل. إن أسئلة كثيرة تواجه ممارسات المصارف الإسلامية، والسؤال الأهم هو تدقيق وصف الإسلامية في جميع شؤون البنك حتى في معاملاته الجزئية، فالقيم الإسلامية في الاقتصاد والمعالات لا تقف عند طبيعة العقود وكيفية إبرامها والتزاماتها، إنما تسري بالدرجة الأولى على أخلاقيات التعامل وقيم كثيرة كالإنصاف والاعتدال في الإنفاق بما يحقق الأمانة في إدارة المدخرات. فثمة تحد يواجه خبراء الاقتصاد الإسلامي والمصارف، هو إعادة الثقة بهذا الوصف، والعودة إلى الرسالة الأساسية لهذه البنوك، وهي التنمية بعيدة الأمد، وألا يتحول هم تنمية رأسمال البنك والحفاظ عليه – والذي هو شرط لاستمرار البنك ونجاحه- إلى غاية بذاته بغض النظر عن الوسائل لذلك، وهذا ما ينبغي أن يدفع المنظرين إلى إبداع وسائل وآليات جديدة لا تقوم على المحاكاة لعقود سابقة أو الالتفاف على عقود مرفوضة، فاستحداث العقود ضرورة طبيعية تقتضيها مقاصد الشريعة، لكن ذلك يحتاج إلى رؤية بعيدة في التنظير وخبرة في الواقع.
24-11-2008 . الملتقى / / .
http://almultaka.org/site.php?id=687 |